الشباب (في ديوان الشعر العربي)

الشباب

(في ديوان الشعر العربي)

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

من الحقائق التي حملها التاريخ وسرت مسرى الأمثال قولهم (العرب أمة شاعرة) وكذلك قولهم (الشعر ديوان العرب). ولا عجب في ذلك، فهم من أكثر الأمم شعراء، وشعراؤهم من أغزر الناس شعرًا.

وقد حفظ الشعر تاريخ العرب وأيامهم، وعاداتهم وتقاليدهم: في أفراحهم وأتراحهم، في منشطهم ومكرههم، في سرّائرهم وضرائهم، وكان الشعر بحق هو مثلهم الأعلى تصويرًا وتعبيرًا.

 وفي دروب (ديوان العرب) نعيش مع ما جادت به قرائح الشعراء في (الشباب)...

 **********

والشباب كما يقولون  هو ربيع العمر؛ لأنه يمثل الفترة الزمنية الزاهية في حياة الإنسان  إنه مرحلة القوة والفتوة.

 وهو مرحلة الحماسة والتوهج.

 وهو مرحلة النشاط والتوقد.

 وهو مرحلة التفتح والنباهة.

لذلك قال أحد بلغاء العرب القدامى:

"الشباب باكورة الحياة، وأطيب العيش أوائله، كما أن أطيبَ الثمار بواكيرها، وما بكت العربُ على شيء كما بكت على الشباب، وما بكى الشعراءُ من شيء كما بكوا من المشيب ".

 إن أول من يطالعنا من الشعراء في ديوان العرب هو الشاعر الجاهلي طرفة بن العبد، الذي نسمعه معتزًا بشبابه، مفتخرًا بقوته وفتوته:

أنا الفتى الضرب الذي تعرفونه         خشاش كرأس الحية المتوقد

ويقول الشاعر:

إذا قيل: من فتى؟ خلت أنني         عنيت فلم أكسل ولم أتبلد

والإنسان ما تمنى أن يدوم شيء في حياته كتمنيه دوامَ الشباب، بما فيه من نضرة وحيوية، وقدرة على تذوق مباهج الحياة، فلا عجب أن يقول الشاعر اللبناني فؤاد عمون

سـلام عـليك زمان iiالشباب
لأنـتَ مـخـفـفَ iiأحزانِها
ولولا الشبابُ وذكرى الشباب


ربـيـع الـحـيـاة iiبآذارها
وأنـت  مـسـوغ iiأكـدارها
لـعـاشَ الـفتى عمره كارهًا

 وإذا كان الشباب  كما يرى الشاعر فؤاد عمون  هو ربيع الحياة، ومخفف أحزانها، ومانح القدرة على تحمل أكدارها ومتاعبها. فإن ابن الرومي يبرز فضيلة أخرى من فضائل الشباب، وحسنة من حسناته خلاصتها: أن الشباب بذكرياته الطيبة الممتعة يغرس في نفس الإنسان الولاء والحب لوطنه، والتعلق الدائم بداره، يقول ابن الرومي:

ولـى وطـن آلـيت لا أبيعه
عهدتُ به شرخ الشباب ونعمةً
وحبب  أوطان الرجال iiإليهمو
إذا  ذكـروا أوطانهم ذكرتهمو



وألا أرى غيري له الدهر iiمالكا
كنعمةِ  قومٍ أصبحوا في iiظلالكا
مـآرب  قضاها الشباب iiهنالكا
عـهـود  الـصبا فحنوا iiلذلكا

ويتركنا ابن الرومي لنلتقي في (ديوان العرب) بالشاعر الفارس الأسير أبي فراس الحمداني، في قصيدة يعاتب فيها ابن عمه سيف الدولة أمير حلب، لتأخره في افتدائه من الأسر، ويذكر ابن عمه بشبابه الذي قدمه وأضناه في مدافعة أعدائه ومواجهتهم:

وهـبت شبابي والشباب iiمضنة
أبـيـت  معنى من مخافة iiعتبه
فـلما  مضى عصر الشبيبة iiكله
تطلبت بين الهجرْ والعتبْ فرجة



لأبـلـج مـن أبناء عمي iiأروعا
وأصبح  محزونًا، وأمسي iiمروعا
وفـارقـني شرخُ الشباب iiمودعا
فـحـاولـت أمرًا لا يُرام iiممنعا

ويقرأ الشاعر أحمد شوقي قول من يقول إن الشيب رمز الحكمة، والرفعة، فيرفض هذه المقولة ويتصدى لها بقوله:

 وما الشيب من خيل العلا فارْكب الصبا          إلى  المجد  تركب متن أقدر جوال

 يسن   الشبابُ   البأسَ   والجود للفتى          إذا الشيب سن البخل بالنفس والمال

لذلك عاش شوقي وفيًّا لشبابه، يسترجع ذكرياته، ويستدعي بروحه أحلامه، وحلاوته، بعد أن علاه الشيب، وزحف إليه خريف العمر:

 خلق الشباب ولا أزال أصونه          وأنا   الوفي  مودتي لا تخلق

 صاحبته عشرين  غير  ذميمةٍ          حالي بها حالٌ وعيشي مونق

ويلتفت بالحديث إلى قلبه قائلاً:

قـلـبـي  ادركت اليومَ غير iiموفق
فـخـفقت من ذكري الشباب iiوعهده
كم ذبت من حرق الجوى، واليوم من
هـل  دون أيـام الـشـبـيبة iiللف



أيـامَ  أنـتَ مـع الـشـباب iiموفق
لـهـفـي عـليك. لكل ذكرى iiتخفق
أسـف  عـلـيـه وحـسرة iiتتحرق
صـفـو يـحـيط به، وأنس iiيحدق؟

ولكن الشريف الرضي ينظرُ إلى الشباب من زاوية أخرى فيرى أن من مساوئ الشباب، وبتعبير أدق: من مساوئ الإنسان أنه في شبابه يغفل عنه، ويفرط فيه، ولا ينتفع بمحاسنه على الوجه الأكمل، ومن أسف أنه لا يتذكر جنايته هذه في حق شبابه إلا في مشيبه وشيخوخته، ولاتَ حين مندم:

لا تـلحُ من يبكي iiمشبيبته
عيب الشبيبة غول سكرتها
لـسـنا نراها حق iiرؤيتها
كالشمس  لا تبدو iiفضيلتها
ولـرب شـيء لا iiيـبينه




إلا  إذا لـم يـبـكـها iiبدم
مـقـدارَ  ما فيها من iiالنعم
إلا زمـانَ الـشيب iiوالهرم
حتى  تغشى الأرض iiبالظلم
وجـدانـه إلا مـع الـعدم

وبعد فوات الأوان لا يجدي الندم، كما يقول الحكيم العربي: (الندم بعد الفوت حسرة وألم).

وفي هذا المعنى يقول الشا عر العربي:

عريت من الشبابِ وكنت غصنا
ونحت على الشباب بدمع iiعيني
فـيـالـيت  الشباب يعود iiيومًا


كـمـا يعرى من الورد القضيب
فـمـا  نـفع البكاء ولا iiالنحيب
فـأخـبـره  بـما فعل iiالمشيب

 وفي هذا السياق أنبه إلي أن لكلمة الشباب استعمالين: فهي تستعملُ  كما عرفنا  بمعنى مرحلة القوة والفتوة، والنضارة في حياة الإنسان.

أما الاستعمال الثاني لكلمة الشباب فهو أنها جمع شابّ، وهو من يعيش مرحلة الشباب، ولا شك أن الشباب  بالمفهوم الثاني  هم ذخيرة الأمة، وعنوان قوتها، وبناة مستقبلها، فهم "رجال الغد" الذين يتهيئون لتحمل المهام الصعبة، والمسئوليات الجسام، وإلى الشباب: رجال الغد يوجه الشاعر حافظ إبراهيم هذه الرسالة:

رجـالَ  الـغدِ المأمولِ إنّا بحاجةٍ
رجـال  الـغد المأمول إنا بحاجة
رجـال  الـغد المأمول إنا بحاجة
رجـال  الـغد المأمول إنا بحاجة
رجـال  الـغد المأمول إن بلادكم
قصارى منى أوطانكم أن ترى لكم





إلـى  عـالـم يـدعو وداع iiيذكر
إلـى عـالـم يـدري وعلم iiيقرر
إلـى  حـكـمة تملى وكف iiتحرر
إلـيكم  فسدوا النقص فينا iiوشمروا
تـنـاشـدكـم  بالله أن iiتـتذكروا
يـدا تـبـتـني مجدا ورأسا iiيفكر

 وإلى اللقاء في الأسبوع القادم بمشيئة الله في حلقة جديدة من ديوان العرب.