خليل حسونة يغوص في معبر قديم
قراءة في رواية ( أنياب الصل )
يسري الغول
" للعناوين منطقها الذي تستمد منه قوتها .. " هذا ما يمكننا قوله حول عنوان رواية الكاتب الفلسطيني البارز خليل حسونة ( أنياب الصل ) التي صدرت مؤخراً عن اتحاد الكتاب الفلسطينيين و التي حملت إشارة دالة في مضمونها ، مثقلة بالمعنى ، فالصل في اللغة هو الثعبان الضخم الذي يلتهم حياة الآخرين بين أنيابه دون رحمة و هذا ما ذكره الكاتب بصورة ضمنية في الرواية حيث قال " ثعباني هو الطابور ، يذكّره بأنياب الصل التي تتربص بالأشياء و تسمم الهواء " و هذا ما جعل الكاتب يبتعد عن تذييل معنى أنياب الصل لغة في الأسفل .
و الناظر إلى هذه الرواية عن كثب يستطيع أن يدرك جيداً حنكة الكاتب في اختيار العنوان الذي استطاع بجدارة إبراز جانب القهر المفروض على الشعب الفلسطيني من هذا اليهودي البغيض الذي يحمل في داخله صلاً كبيراً يكاد يفترس كل ما يواجهه ، فعلى المعابر الحدودية ستجد نفسك بين أنياب هذا الصل الذي قد يأمرك بالعودة من حيث أتيت ، أو قد يسمح لك بالولوج بوابة الروح بعد أسابيع من المعاناة على الحدود الفلسطينية – العربية ( الأردنية أو المصرية ) .
بدأ الكاتب عمله بالإهداء إلى شخصيتين غريبتين ، إحداهما رئيسية و أخرى ضمنية داخل الرواية و هما رجل قلق ، و آخر لا يكرهه فخلال هذه الرواية ستجد القلق دائماً في انتظارك كما هذا الذي يكرهه الكاتب لكنك لن تجد الذي لا يكرهه أبداً ، و قد يكون القلِق نفسه هو هذا الذي لا يكرهه الكاتب حيث أنه جعل هذه الشخصية رمزاً يشير فيها إلى المعاناة و القلق و الألم الذي يحاصر المسافر الفلسطيني عندما يعود إلى وطنه عبر الحدود ، فالقلِق دائم التواجد و التوحد مع ذات القارئ في خضم هذا العمل ، فتجده في كل الميادين يخاطب و يتحدث ، يقول الكاتب : يحاوره الرجل القلق ، يؤكد ما قاله اندريه مالرو .. ، يحدق الرجل القلق .. ، الرجل القلق لم يعجبه الحديث كثيراً ، يتأفف الرجل القلق .. أما الذي يكرهه كاتبنا المبجل فهو أيضاً لا ينتهي حتى إلى ما بعد الرواية ، فيقول: أصفع الرجل الذي أكرهه .. ، تصده عينان لرجل يجبرك على أن تكرهه ، .. . و الرجل الذي أكرهه سحابة سوداء تضفي قتامة على لحظات الصباح الأولى . فمن خلال هذه الرواية نجد أن هاتين الشخصيتين ( القلق و الذي يكرهه الكاتب ) هما شخصيتين ديناميكيتين ( Dynamic Characters ) تلعبان دوراً رئيسياً داخل أغلفة هذه الرواية .
( أنياب الصل ) عمل قد بلغ الذروة الفكرية و الموسيقية معاً بطريقة غير مسبوقة ، رسخ فيها الأسلوب المميز مكانة لا نكران لها ، فكانت اللغة المميزة التي اتسم بها هذا الكاتب هي اللغة الشاعرية التي تظهر من خلال جمله القصيرة : القلق الممزوج بعرق الأجساد المنهكة / أجساد تحتضن حقائب أجسادها / الكثبان تضحك في وجه أشجار أثل شاخت منذ زمن / الجنازة مغسولة بالبياض / يقف الحلم ودوداً / ألملم ذاتي و هذه اللغة الشاعرية طغت على الحوار ذاته ، فكان الحوار داخل أروقة هذه الرواية في لونين ، الأول هو الشعري مثل :
… الولد الذي تشتاقين لم يخرج من بين الأمواج.
أهبط على العواء الأخير حتى الثمالة .
هادئ حزنك و عويلك يا امرأة
و احتضار المسافة بين الحلم و الشرايين لم ينته بعد
… ألجم ألمي ، و أعانق الحلم.
و الثاني في هذا العمل هو الحوار العامي الفلسطيني و الذي جاء بصورة أقل منه إلى الشعري ، لكنه وفي كل الحالات عزز المواقف التي نشأت عن هذا الحوار .
النظام و الطابور يا حمير
اخرس وله يا كلب
تباهت القرعة بشعر بنت أختها
ثم يأتي هنا الكاتب ليستحضر الماضي ممتزجاً بألم الحاضر ، فيعيش في أيام الهجرة التي وقعت عام 1948 يستقبل خلالها شذا مدينة يافا و منطقة الملبس التي قتل اليهود من فيها و شردوا البقية ، ثم يعود بنا إلى مخيم الشاطئ و طفولته القاسية ، يستقبل الخوف مع بشائر المستقبل كما يستقبل رائحة أبو القموع الذي علمهم في الكتّاب لتستدرجه الاحداث إلى مدرسة الإمام الشافعي التي لا زالت قائمة حتى اليوم في غزة ، و منها إلى مدرسة الرمال ، و يتقلب الترتيب الزمني في الرواية كما يمتزج الأول بالآخر ، فالرجل القلق في ظل دائم مع خرمود ( أبو عقل ) البخيل الذي يحب المال و يخاف من النساء و السياسة لأنه يعتقد أن كليهما لا أمان لهما و لا صديق ، يقول الكاتب " خرمود و الرجل القلق يتناوشان الناس في كأس جعة " . ينتقل بعدها الكاتب بنا فجأة بين الواقعي و الفنتازي ، يأخذنا من حيث لا ندري إلى قصور الفرنجة ، و إلى الخليفة الذي يعرض جاريته لمن يحارب الفرنجة و ينتصر عليهم أو حتى يؤذيهم ، ليجد الكاتب نفسه بعد ذلك تائهاً إلى حيث العوالم المبطنة داخل الروح فيعيش بين الداخل و الخارج مسافراً بنا إلى جبال الهمالايا متنقلاً إلى العواصم العربية ليعود أخيراً إلى موطنه الأول و الأخير فلسطين . و ما أن يتم القارئ قراءته الأولى لهذه الرواية حتى تتكشف له بوضوح عمق علاقة الكاتب بالأرض التي هجرها ردحاً من الزمن ، و دقة إحاطته بتفاصيل حياتها اليومية و شمول إدراكه لحقيقة علاقاتها ، و حميمية توحده مع همومها المدقعة ، و حدة الاستبصار لأبعاد وجودها التاريخي في حضوره العريق.
الرواية إدراك خبير بتفاصيل عالم المخيم و الوطن ، فهي كشف للأبعاد المتعددة للوطن ، إلى غير ذلك من وصف انعكاس الواقع و كشف الجوانب الغامضة فيه حتى أنه يأخذك إلى المقاهي القديمة في مخيم الشاطئ هما الليدو و الهويدي . إلى غير ذلك فالراوي يأخذنا إلى العمق التاريخي لأحداث النكبة عام 1948 بصورة مبطنة ، يعايش فيها الهموم بالقضايا الحاضرة الغائبة عن الآخرين .
متى سنرجع إلى بلادنا يا خواجا ؟
لما ينوّر الملح
بل زيادة على ذلك يأخذنا في هذه الرواية بعيداً عن تأمل التيارات التي تموج بها روحه و التي تبدد من خلاله عواطفه و أشواقه و أحزانه و مكابدته للخروج من الذات الفردية للحلول في ذوات أخرى فنية كابنة الزيتون التي تستمد حياتها منه لتستقل عنه ، فهنا تواجهنا شخصية ابنة الزيتون كشخصية هلامية لا يدركها غير الكاتب تخرج كل وقت معايشةً همومه و آلامه ثم تختفي فجأة كما جاءت حيث يقول : " في ساعة من الوقت ضائعة تحدق ابنة الزيتون ، تتأوه ثم تنسحب " مم تتأوه ؟ سؤال نطرحه على صاحبنا الكاتب لنعلم جيداً أنها روحه التي تتأوه من ضغط الطابور الذي ينتظر العودة إلى الوطن . " اغتراب الذات ، دهشة ابنة الزيتون و جمود الرجل الذي يكرهه ، دهشة تأخذك نحو دهشتها حيث انفصال المواسم عن مواعيدها حتى الآن ". " و تنظر ابنة الزيتون بعيني الأفق ازرق .. إلى أين ؟؟ إلى مخيم الشاطئ و أزقته الضيقة .
إن هذه الرواية تتناول الجانب اللغوي المتراكم و المقتدر المحكم البناء و الإنشاء ، كما تتابع بيقظة الأحداث التي تتداعى فيصبح تشابكها معقداً ، يتعرف القارئ من خلاله على الشخوص التائهة و النماذج الرئيسية في الرواية .
و لأول وهلة ستبدو لك الرواية أنها قادرة على احتواء كل الأزمنة ، و هذا ما أعطاها طاقة الاحتواء الاستعاري للأشياء ، و الناس معاً .