وراء الأفق المربدّ .. بصيصٌ من أمل
وراء الأفق المربدّ .. بصيصٌ من أمل
قضية فلسطين في شعر حسين نجم
د.إبراهيم عوض
المستشار حسين نجم رجل من رجال القانون ، وأحد كبار الفنانين التشكيليين فى مصر والعالم العربى ، وصوت شعرى متميز. يكتب الشعر منذ أواخر الأربعينات حين كان شابا يسهم بنشاطه مع جماعة أبولو برئاسة الدكتور إبراهيم ناجى ، ولـه عدد من الدواوين . وقد واكب شعره الأحداث وتطور مع الزمن رؤية وأسلوبا . وفى السنوات الأخيرة كانت قصائده فى صحف الدوحة بمثابة ناقور يحاول إيقاظ النائمين الذين لم تفلح البلايا المتتالية المنصبة على رؤوسهم فى إخراجهم من غطيطهم المتواصل !
وجولة سريعة فى أرجاء تلك القصائد ترينا كيف يضم غالبيةَ مفرداتها وعباراتها حقلٌ دلالىٌّ واحدٌ تخيم عليه مشاعر الغيظ والقهر والعجز أمام تلاحق المصائب التى تحيق بالعرب والمسلمين فى السنوات الأخيرة كالرعود المُصِمّة والصواعق المحرقة . بل إن تلك السمة لتتجلى فى كثير من العناوين مما يصدق معه المثل القائل بأن الخطاب يبين من عنوانه . وهذه طائفة من تلك العناوين نوردها كيفما اتفق ، ولا نظنها تحتاج إلى أى تعليق : " الخزى الفصيح فى دعوات التطبيع" ، " شوكة العقرب لن تصبح وردة " ، " الدم والبالوعة "، " الخدود الصدئة "، " الذباب " ، " الهـمّ البرغوثى "، " الفحم البشرى "، " من حفائر الهم العربى "، "الطوفان"، " أبو ديس والندليس"،" أصداء النكبة"... إلخ.
أما المفردات والعبارات التى تدور فى فلك القهر والغيظ والشعور بعدم القدرة على فعل شىء أى شىء إلا الاستسلام الشامل والانبطاح الكامل أمام أعداء لا تعرف قلوبهم شفقة ولا يرعون فى أى منا إلا ولا ذمة ، أعداء قد فرغوا منذ زمن بعيد من وضع خطة تدميرنا، وقطعوا فى تنفيذها أشواطا ، ويتطلعون إلى قطع الأشواط الباقية عما قليل ، أعداء ليس للكلل ولا للملل موضع فى قاموس سياستهم أو أخلاقهم ، أما هذه المفردات والعبارات فإلى القارئ عينة منها نسوقها حسبما تقابلنا أثناء تصفحنا للقصائد دون محاولة للترتيب : " العقول الراكعة " ، " حسابات رياء زانية " ، "غرستْ شوكا يهوديا تمشّى عقربا " ، " ساخوا فى رمال التفرقة / وصراع جاهلى بين رايات بطون وعشائر"، " أجهضْنا الضمائر فى كهوف العجز باسم التسوية " ، " قضايا كل شعوب الكون لديهم أهون من بعرة " ، " على خدودنا تراكم الصدأ/ على شفاهنا تحجرت على الذل ابتسامة ... / وكل كف سجلت على خدودنا علامة .../ كف وغد من عتاة الصافعين / مستعرضين عرينا من كل أثواب الكرامة / مهللين فى خنوعنا الفصيح / فى فضيحة تجاوبت لها السماء والدماء / إلا دماء فى بلادنا السجينة / تشربت حلاوة الصدأ / وأدمنته للنخاع"، " ما الذى نعطيه للدنيا سوى أن نتمطى / نلتصق / ببقايا ، بنفايا / كل ما أبدعه الغرب ولو كان مبيدا للذباب / للعرب ؟ "،" وتقلبتُ على شوك شعورى / وتداخلتُ من القهر، من اليأس / إلى أن صرت كهفا من عدم " ، " أمر يتحير فيه هلام المخِّ / وكل هلام الذلة والإذعان "،"مروان البرغوثى النابض بالإيمان/ هو يلذع أدبار العار الرسمىّ / وأقفية الخزى المنهار/ وكل عروش عمالتها وخيانتها / للقدس ، لصرختها الخرساء "،" كم أنظمة من دود / يغشاها بوم الخذلان "،" حسب الكلاب مهنة الحراسة / حتى على مداخل السياسة / ولا يهم من يكون السيد المهاب / ليس الفضول من طبائع الكلاب"،" ويغوص وقد الجمر كالمرساة فى القلب الطعين"،" ولكن موج الخطوب الدءوب / يسد علينا جميع الدروب "، "وراق لنا الموت قبل الوفاة/ لنُبْعَث قبل رجاء القيامة / مسخا قميئا / ونعلا وطيئا" ، " والأمة العصماء قد جمدت على وضع السجود / تتلو كتاب الذل / والهامات تحت النعل / والصلوات للمحتل / تتلوها كما الديدان"،" وشهرزاد لم تعد / تمارس العناد / تذوقت حلاوة الخضوع والرقاد / ليحصل المراد "، " ودنا التاريخ مشدود الخطى / وتحرى وتقصى فى حسابات العرب / فرأى أطنان شجب وعويل / تحت أقدام السنين / خلصت صفرا كبيرا/ ملء صندوق القمامة ". أترى هذه الشواهد محتاجة إلى أن أردفها بكلام من لدنّى يوضح ما تشير إليه وتدل عليه ؟ إنها إصبع يفقأ العين فقئا!
ولا تقع المسؤولية فى هذا الوضع الذى يدعو إلى الغثيان والغيظ والقهر على طرف من الأمة دون آخر، بل الأمة كلها ، حكاما ومحكومين ، مسؤولة عن هذا الهوان. وإذا كان شاعرنا فى قصيدة " الهم البرغوثى" (الراية/23مايو2002) يقول :
أمر يتحير فيه هلام المخ
وكل هلام الذلة والإذعان
عن أنظمة نامت عن كل
هموم عروبتها
...
كم أنظمة من دود
يغشاها يوم الخذلان
...
كم أنظمة جزعت
من لذعة هذا البرغوث
فلا يذهبن بأحـــدٍ الظن إلى أنه يضع الحساب كله على عاتق الحكــومات ، فها هو ذا فى قصيدة أخرى عنوانها"الذباب"( الراية /6 يناير2002) يبدى سخطه العارم على الأمة كلها غير واجد وصفا تستحقه غير كلمة "الذباب " ، التى جعلها سارتر عنوان إحدى مسرحياته :
قالها فى سعيه المحموم
سارتر:
" الذباب "
هكذا نحن على وجه الزمن
هكذا نحن على وجه العفن
هكذا نحن على وجه الحضارة
ما الذى نعطيه للدنيا سوى أن نتمطى ، نلتصق
ببقايا ، بنفايا
كل ما أبدعه الغربُ ولو كان مبيدا للذباب
للعرب ؟
...
من أنا ؟ ما أمتى ؟
يا ملايين الذباب العربى اللاصقة
إنه حقا لصمغ عربى وأصيل
كان فينا كما الداء الوبيل
مذ هوينا بالملايين ذبابا
بعضنا حط على القار
وفى الآبار مسحورا
إلى الأعماق
فى ظلمة أوهام ثراءٍ
ورخاء ونعيم طحلبى
ساخت الأقدام والأفهام فيه
بالذباب العربى
فى تباه جاهلى بسجايا كالعطن
...
إنما أرنو مع الآهة
والحسرة
للشمس هناك
إنما أرنو إلى شمس التحدى
والإرادة
فى بلاد الغيم
والظلمة والبرد
التى صارت مع العزم ، مع العلم
ضياء يزدرينا
وضراما من عتوِّ
يحتوينا
ومبيدا عبقريا لإرادات الذباب
كل أنواع الذباب
العربى اللاصقة
وهو هجاء يكشف عن بصيرة صافية لا تجرى مع أوهام الواهمين من أفواج هذا الذباب الذى يخادع نفسه متبرئا من المسؤولية ملقيا بأوزارها جميعا على كاهل الحكام ظانا أنه بذلك قد تخلص من الذنب ، مع أنه هو المسؤول الأول عن هذا الهوان المدمر الذى هو فيه . فالحكام إذا كانوا يمالئون القوى الكبرى حرصا على كراسيهم ومصالحهم ، فماذا فعلت الشعوب دفاعا عن وجودها كله لا الكراسى فقط ؟ وإذا كان من السهل رمى الحكام بالجبن أمام العدو والتسليم له بكل ما يمليه عليهم ، فأسهل من ذلك وأعدل رمى الشعوب بالجبن والمذلة أمام حكامها . ولا أحد إذن أحسن من أحد ، فالكل مدين ، والكل مجرّم . لقد بَحّت أصوات العقلاء فى محاربة ذلك الوهم الذى يعشش فى رؤوس الجماهير ويسول لها إلقاء المسؤولية كلها على رؤوس الحكومات ، مدّعيةً البراءة والبكارة ، وخالعةً على حكامها صورة الشياطين، وهى فى الحقيقة أعرق منهم فى الشيطنة والجبن والتفريط فى المصلحة والكرامة والحقوق ، فكان يقال : وماذا تستطيع الشعوب أن تفعل ، وهى ترسف فى أغلال القهر والعسف والاستبداد؟ وتجىء الإجابة باترة كالسيف أن الحكام هم أيضا يرسفون فى أغلال القهر والعسف والاستبداد التى تغلهم بها القوى المعادية للعرب والمسلمين . وإذن فإما أن نبرئ الجميع ، وإما أن ندين الجميع ، والإدانة هى الحُكم العادل ، وإلا فليس هناك مكان تحت الشمس لشىء اسمه الحرية والرجولة والكرامة : كرامة الفرد، وكرامة الشعوب جميعا، تلك الكرامة التى تبعث الأمم إلى التضحية وتهيب بها إلى الكفاح والصبر على لأوائه وضريبته الباهظة ، تلك الكرامة التى تميز شخصا عن شخص ، وجماعة عن أخرى . فلتنظر امة العرب والمسلمين أين تحب أن تكون ، ولتختر ما تراه لائقًا بها ، ولتكن على ذُكْرٍ من أن هناك أمما أخرى كانت تعيش فى ظلام دامس ودخان كثيف خانق من العسف والبطش والترويع ، ورغم ذلك استطاعت أن تتخلص من هذا كله بالإيمان بنفسها وحقها فى الحياة العزيزة الحرة التى تليق ببنى الإنسان ، ومنها أمم الغرب التى كانت حكوماتها قبلاً مثالا رهيبا للقسوة والتجبر والتعذيب والتقتيل ، ولم يحل ذلك كله دون حصولها على الحرية والأمان والكرامة والرفاهية والتحضر . وهاهو ذا الشاعر يدين الأمة كلها حكاما ومحكومين ، ولا يجرى فى دنيا الأوهام مع الواهمين . يقول مخاطبا طفل الحجارة ورفاقه المغاوير فى فلسطين أرض البطولات ( الشرق / 4 نوفمبر 2000 ) :
لم بالثورة ضد الغاصب العبرى
أحرجت عروشا ورُتَب
وجيوشا تتهادى
فى عروض للّعب
وأطرت النوم من أعين
سادات العرب؟
أولم يجتمعوا كى يبحثوا
أين المفر
من نداءات المروءة
وقلوب تستعر؟
أولم يلقوا إلى أمك
ما يكفى من المال
لنعش أو كفن ؟
ما الذى ترجوه منا
من ملايين العرب؟
أو لم نخبرك أن الساحر العبرى
قد ألقى عصاه بيننا
وعلت زمجرة الدولار
فى أسماعنا
فإذا كل الذى نحشده
من عدة الحرب حجارة
وقوى النجدة ، بل كل الخطى
نحوك شلّت
واستحالت لحجارة ؟
ففى هذا النص ، كما هو واضح جلى ، نراه يدين الحكومات والشعوب معا : فأما الحكام فقد رمز لهم بـ " العروش والرتب ، والجيوش التى تتهادى فى عروض اللعب ، وسادات العرب " ، وأما المحكومون فهم الملايين الذين سحرهم العدو الصليبهيونى بعصاه ودولاره ، فبطل ما كانوا يعملون ، واستحالت جميع إمكاناتهم البشرية والسياسية والاقتصادية والعقلية صفرا بحيث لم يعد هناك إلا الحجارة . ويا ليتهم هم الذين يستعملون هذه الحجارة فى قذف العدو ! بل القاذف هو الطفل الفلسطينى الأشم الذى لم تزايله النخوة والرجولة ، ولا تزال الدماء الملتهبة تتوثب فى عروقه على عكس دمائهم المتخثرة بل المتجمدة!
وفى واحد من أطفال الحجارة الأشاوس اسمه فارس عودة دأب على مواجهة دبابات بنى صهيون الغاصبين القتلة بحجارته حتى استُشهِد بقذيفة دبابة منها ينظم شاعرنا قصيدة كاملة عنوانها " الغلام والدبابة " يصفه فيها بأنه :
فارس لم يعرف الخيل
ولا ليل التغنى
بالأغانى العنترية
وأنه إذا كان قد مات فى حساب الأجساد البالية فإنه لم يمت فى حساب البطولة الخالدة .ألم يقل القرآن الكريم إن الشهداء" أحياء عند ربهم يُرْزََقون " ؟ :
ومضى الفارس
فى عرس الدم البكر شهيدا
خارج الأيام والأجسام
روحا وضياء عبقريا
لا يموت
وهذه الصورة الوضاءة بعبقـرية العزة والإيمـان والتضحية والشهـادة تقابلها صورة أخرى لسائر الـعرب فى قصـيدة "المزاد"، التى تصور إجراءات بيع القدس فى مزاد علنى حضرته الجموع العربية من حاكمين ومحكومين وهم يقعقعون بالكلام العنترى المدمدم مقسمين بأغلظ الأيمان إنهم لجاهزون لفدائها بأرواحهم ، لكن حين جد الجد تبخرت كل هاتيك القعقعات المجلجلة ، ولم يستطع أى واحد منهم أن يكون رجلا عند كلمته (الراية /2 ديسمبر 2000) :
فُتِح المزاد ، فمن يزايد ؟
والقدس فى ثوب الشهادة تصطبر:
من يشترى شرفا ؟
ومن بقيت بجعبته دماء مروءة
أو ومض ذكرى من إباء؟
هبوا جميعا فى صهيلٍ
كالجواد العنترى المقتحم
وتناثرت حمم من الأفواه
فى سوق الكلامِ
تسوقها ريح الزمانِ
إلى العدم
...
والقدس فى ثوب الشهادة تصطبر
وجميع سكان القبيلة فى عكاظٍ يصخبونَ
ويصخبونَ
ويملأون صدورهم
بهواء أمجاد القرون
وأتى أوان الجد
فانتحر الكلام على الشفاهِ
وشلت الأقدام والأيدى
وطؤطئت الرؤوس
على الصدور الواجفة
وانفض سامرهم
يجر العجز أذيالا وأذيالا
بطول ألوف أميالٍ
من الأرض الغريرة
حين تحسب فى جموع القاطنين بها
أناسا فى قلوبهمو
بصيص من حياة
وحجارة الأطفال ترجم خزيهم
وضمائرا ضُبِطت مع الدولار
فى وكر السلام الجاهلى
بلا رداء
وقد بلغ من سخط الشاعر على أمته ، واشمئزازه وخزيه وعاره منها ، أن صوّرها وقد سجدت بل جمدت على وضع السجود ، لا للمولى سبحانه ، بل لأعدائها الذين يُعْمِلون فى رقبتها سكين الذبح الإجرامى . ثم هى فوق ذلك قد هجرت كتاب ربها ، كتاب العز والسؤدد ، وعكفت بدلا منه على كتاب الذل . وعوضا عن أن ترفع رأسها للسماء تدعو رب الكون أخذت تتلو صلواتها للمحتل واضعة هاماتها تحت نعاله . يقول فى القصيدة المسماة :"من حفائر الهم العربى" ( الراية / 1 يونيه 2003 ) :
والأمة العصماء قد جمدت
على وضع السجود
تتلو كتاب الذل
والهامات تحت النعل
والصلوات للمحتل
تتلوها كما الديدان
أكواما على رأس الشهيد
إنها ، كما تصورها الأبيات ، أمة من الديدان المتكومة على رؤوس الشهداء. وفى قصيدة أخرى يصفها بأنها ذباب ( قصيدة " الذباب " / الراية / 6 يناير2002) :
من أنا ؟ ما أمتى
يا ملايين الذباب العربى اللاصقة ؟
إنه حقا لصمغ عربى وأصيل
كامن فينا كما الداء الوبيل
مذ هوينا بالملايين ذبابا
بعضنا حط على القار
وفى الآبار مسحورا
إلى الأعماق
فى ظلمة أوهامِ
ثراءٍ
ورضاءٍ ونعيمٍ
طحلبىّ
ساخت الأقدام فيه
بالذباب العربى
فى تباه ٍجاهلى
بسجايا كالعطن
وفى قصيدة ثالثة يؤكد أن الأمة ليست أكثر من " كلاب حراسة " تسهر على رعاية مصالح عدوها متفانية فى مرضاته واضعة تحت تصرفه كل ما تملك من ثروات بشرية واقتصادية ، وهو الذى لا يضع نصب عينيه إلا غاية واحدة هى تقتيلها وإفناؤها من فوق وجه الأرض (من قصيدة " الحراسة الرشيدة " / الراية / 18يونيه 2002) :
حسب الكلاب مهنة الحراسة
حتى على مداخل السياسة
ولا يهم من يكون السيد المهاب
ليس الفضول من طبائع الكلاب
فهمّها أن تتقن المهمة
لترتقى مراتب العمالة
وتصبح الأغلى من السلالة
خيالها مقيدٌ بعظمةٍ
من أجلها تعانق الصعاب
وتغلق العيون والأنوف والسرائر
عن كل ما يُزيغها عن خدمة المخافر
فلا ترى مصارع الأطفال والنساء
ولا تشم الموت فى ارتجافة الرياحِ
إذ تفر من ضراوة المجازر
وتنبح الكلاب للهدوء كى يسود
ولو بدفن الحق والضياء فى الحفائر
أما فى قصيدة " فى ذكرى قانا " فيجعل منها مجرد أصنام :
نزل التاريخ من عليائه
...
فرأى أطنان شجب وعويل
تحت أقدام السنين
خلصت صفرا كبيرا
ملء صندوق القمامة
ورأى الجزار يختالُ
بلا أدنى ملامة
رافعا نجمة صهيون
على الآفاق تزهو
فى سماء تحتها الأصنامُ
فى الألقاب تغفو
ليعود فى قصيدة " استقل يا عمرو موسى " فيمسخها جرذانا تلعق الأقدام ، وتعبد الأصنام من كل النحل : من العجل الإسرائيلى إلى الهُبَل الأمريكى ... إلى آخر قائمة الأصنام التى تجثو أمامها وتخدمها وتعبدها من دون الله .
وفى قصيدة " الخدود الصدئة " يصورها وأكفّ الأوغاد من كل أشتات الأرض تنهال بالصفع المذل المهين على وجهها الذى بلغ من جموده وتبلده أن تراكم عليه الصدأ طبقات ، فلا إحساس ولا كرامة ولا نخوة حتى لتمد أيديها إلى هؤلاء الصافعين تصافحهم فى وداد ( الراية / 19 إبريل 2001 ) :
على خدودنا تراكم الصدأ
على شفاهنا تحجرت
على الذل ابتسامة
وكل كف فى شتات الأرض
نالت حظها البهيج من خدودنا
حتى تزاحمت على خدودنا
الأكف
وكل كف سجلت
على خدودنا علامة
ونحن فى ابتسام ٍ، فى كلام
والأيادى لا نمدها للسيف
بل كيما تلاقى فى وداد
كف وغد من عتاة الصافعين
مستعرضين عرينا
من كل أثواب الكرامة
مهللين فى خنوعنا الفصيح
ويبدو أن ذلك كله لم يشف غليل الشاعر من أمته التى لم تعد تظهر عليها أية علامة من علامات الحياة ، فضلا عن أية بادرة من بوادر الكرامة ، إذ ينبئنا فى قصيدة " بشرى " ( الراية /10 مارس 2003 ) أنها ستُبْعَث يوم القيامة " مسخا قميئا ، ونعلا وطيئا " للمسيح الكذوب الأمريكانى الذى طالما سجدت له فى الدنيا دون رب العالمين. إنه لهجاء يحرك الجماد ، لكن الأمة فيما يبدو قد تخطت مرحلة الجمادية إلى ... إلى ماذا ؟ والله لا أدرى .
ولا يكتفى الشاعر بهذا الهجاء الحقيق بأن يشعل اللهيب فى قلب الحجر ، بل يضيف إليه التوسل ، التوسل بكل شىء : بالقرآن والإنجيل ، وبتراب الأوطان الذى ضمّخه عَرَق الرسل، وبدموع الأيتام والثكالى ودماء الشهداء الزكية ، التوسل للحكام والمحكومين والأمجاد الضائعة والشرف المهدر أن تحركوا يا عرب وكونوا رجالا ولو لمرة واحدة ( من قصيدة " رسالة بدمع الأرض المأسورة " / الراية / أول إبريل 2002 ) :
أتوسل باسم تراب حر
صانته همم الأجداد
وضمّخه عَرَق الرسل العطرىّ
وأمجاد الأبطال الغُرّ
وأزكى ما نزفته الإنسانية
من دمع ودماء
أتوسل باسم عيون ملا يين
الوطن العربى المقهورة
أتوسل باسم عذابات الثكلى
ودم الشهداء المهدرِ
فى بالوعات الكلمات الجوفاءِ
الحيرى بين الساسة
أتوسل بالقرآن وبالإنجيل
وكل معانى الطهر المهجورة
أتوسل للحكام وللأجنادِ
وللأمجاد المطمورة
أتوسل للشرف المخنوقِ
لكى يتفجر بركانا
من بين ركام الخزى
ليكتسح العجز المتربع
فوق البر ، وفوق البحر
وفوق إرادات الشمم العربىِّ
المأسورة
أتوسل للشمس العربية
أن تتذكر أيام الإشراقِ
وأن علاها لم يبزغ يوما من أرض الغرب
ولكن من شرق الإقدام
ورايات العزم الدفاق المنصورة
أتوسل بالدم أن يتوثب
فى الشريان
وللوجدان لكى يتحرر
من رق الإدمان
لرقم الصفر الساقط
من شجر الأيام
وكل حسابات العدم الشلاء
وسائر إنجازات الوهم
وأن يستيقظ من إغماءٍ
طال عقودا ، وعقودا
...
أتوسل للعربى بكل مكان
أن يتذكر أن السيف
وليس الذلة
كان هو المتألق
يوم العسرة
فى كف الإيمان
ومن الواضح أن التوسل هو أيضا غير مجد، وإلا لأجدى الهجاء الكاوى الشاوى الذى صبه الشاعر على أمته. وعلى ذلك فلا أمل فى أن تثمر دعوته لعمرو موسى أمين الجامعة العربية الحالى بالاستقالة نأيا بـ " روحه الوثاب " من أن يتغشاه ضيق الحصار المضروب على العرب فى كل مكان ، وفى فلسطين الشماء على وجه الخصوص ، فها هو ذا عمرو موسى باقيا فى موقعه لم يستقل ، ولن يستقيل ، وهذه هى الجامعة العربية لا تزال على عجزها وخزيها القديم لا تهشّ ولا تنشّ . يقول شاعرنا من قصيدة " استقل يا عمرو موسى " :
استقل يا عمرو موسى
وانج بالإسم الكريم
استقل يا سيدى المرموق
من ضيق الحصار
يتغشّى روحك الوثاب
فى عصر لئيم
استقل ، يا ليتنى
يا ليت كل القابضين الجمرَ
جمر الحق، جمر العزة الشماء
والإعلاء للإنسان والأوطان
يَلْقَوْن ، ولو فى الحلم الكاذبِ،
أرضا غير هذا الكوكب المسكونِ
بالطاغوت يزنى بالضمائر
...
استقل يا عمرو
فالأرض الكسيحة
من خليج لمحيط
لم تعد أرض العروبة
لم تعد أرضا لعمرو أو لخالد
أو لزيد أو لطارق
لم يعد فيها مكان شامخٌ
يجدر أن يسكنه ذاك الزمان
لم بعد فيها مكان هانئٌ
غير للجرذان تخدم
غير للجرذان تجثو
تفتدى كل البغال الغازية
تلعق الأقدام من كل النحل
تعبد الأصنام
ويلجأ الشاعر ، ضمن ما يلجأ إليه من وسائل لإيقاظ كرامة الأمة ، إلى سلاح التهكم والسخرية : فتحت عنوان " الحل السعيد " ( الوطن / 10 مايو 200) تطالعنا هذه السطور :
وضح الحل ، وصار الرأى
ما قال به شارونُ
واهتزت له أعطاف بوش ٍطربا
فى زفاف أطرقت فيه
رؤوس الرأى فينا َّّ
مثلما يُطْلَب من كل عروسٍ
ليس ذلا ، بل حياءً، أدبا
ما لهم والقدس
والرحمن قد باركها
وهو أولى أن يقيها العطبا ؟
ومثلها قصيدة " بشرى " ( الراية / 10 مارس 2003 ) ، التى يزف فيها البشرى للعرب بأن كل مشاكلهم قد حُلّت، وكل معاناتهم قد ذهبت إلى غير رجعة . لكن كيف ؟ لنسمع هذه الكلمات :
ألا ألف بشرى لنا
يا عرب
وليس لنا بعدها من أرب
حصلنا على حقنا كاملا
من الموت من قبل أن نُحْتَضَر
...
وقمنا بفضل الخنوع
الأبىّ على أى روشتة للعلاجِ
بتحرير أيامنا والعروبةِ
من نير عبء التطلعِ
نحو غد لائق بالبشر
نواجه أيامنا بالهروبِ
إلى خارج الحاضر المنفجر
ولكن موج الخطوب الدءوب
يسد علينا جميع الدروب
فنجثو أسارى المصير الكسيحِ
المسطر فى لوحة البنتجون المهيبِ
وننسى جلالة رب الغيوب
ونرسب فى الامتحان الأريب
...
ولكنّ ماذا يهم
وهذى الرؤوس الفخيمةُ
فى نومها المفتخر
وكل الحناجر من حولها
تسبح بالحمد عند الغروب ؟
وعند الغروب ؟
فليس لنا مشرق منتظر
ولكن رغم كل هذه القتامة التى يتلبد بها الأفق حول الشاعر، وحولنا نحن أيضا فى الواقع، فإن ثمة أملا لا يزال مضيئا فى حنيّة من حنايا قلبه ، أملا لا فى حاضر الأمة الكئيب المدلهم ، بل فى المستقبل : ففى ختام قصيدة " شوكة العقرب لن تصبح وردة " ( الراية / 25 مايو 2000 ) نراه يؤكد أنه :
... فى التربة الخمرية العذراءِ
فى أعماقنا
تبقى بذور نابضات لا تموت
تنبت الصدق ، تنادى :
شوكة العقرب مهما خاتلوا الأيامَ
لن تصبح وردة
شوكة العقرب لن تصبح وردة
بما يعنى أن العرب والمسلمين ، وإن لم يكونوا قادرين على استرداد حقهم الآن، فإنهم بإيمانهم بهذا الحق وتأبيهم على الانخداع بما يأفك به الأعداء عن حق الصهاينة فى فلسطين وأنهم إنما يَنشُدون السلام مع العرب والعيش الآمن بين ظهرانيهم ، سوف يستردون حقهم يوما من الأيام . إنه لا يرى أى أمل فى الحاضر بل فى المستقبل . وهذا الأمل إنما تصنعه تلك الفئة القليلة النبيلة التى لم تنبطح فى الطين مع المنبطحين، بل لا تزال تحمل السلاح ، وتنتهج سنة الكفاح، ولا تعرف إلا لغة التضحية والشهادة كما تقول قصيدة " البالوعة " ( الراية / 26 أكتوبر 2000 ) :
آها يا أبناء الصدق المطلول
ويا دوح الزيتون الصامد
آها يا أنفاس النخل
المترفع بالألم الخلاق
عن الوحل المترجرج
...
من لى يا أبناء الغضب العربىّ
بفيض طهارتكم
وحجارتكم
ينهال على الفكر المسكون
بداء العجز
كى يغسل عنه الرجس
وينضو وجه عروبتنا
كى يشرق شمسا منتصرة ؟
وفى قصيدة " أبو ديس والتدليس " نقرأ :
وعلى آفاق الغيب عباب
من عزم عربى يولد
تحت ركام العسف ، وفى رحم المحنة
يُستخلَص فيه من العرب الأكذوبة
جيلُ الصدق يرابط فى غُرَر الأيام
وعروبته تتخندق فى ناموس الكون
وفى مجرى نهر الأزمان
وغدًا ستراه الأنجمُ
جيلا من همم يتدفق عزما
يكتسح القاموس الزائف
والإفك الممهور بإمضاءات المرتجفين
ليظهر تحت طلاء القهر
نقاء الطهر بكل ضمير
كما أنه فى قصيدة " إليهم " ، أى إلى الأمريكان الذين أطاش عقولهم غرور القوة والجبروت فلم يراعوا عدلا ولم يرحموا ضعيفا ولم يبالوا بحق أو صاحب حق بل أخذوا يبطشون بطشا إجراميا بالأوطان والأمم ، نراه يذكّرهم بأنهم إذا كانوا يبطشون اليوم بالبلاد والعباد فإن للكون ربا أشد بطشا وأشد تنكيلا ، ولسوف يذيقهم من ذات الكأس التى أذاقها على مدى التاريخ كل جبار عنيد :
وإن سألتم : ما الحساب ؟
فلن أحدثكم عن الأخرى
ولكن قلّبوا الأبصار فى التاريخِ
كم عصفت رؤاهُ
بكل من جثموا عليها
فانتهوْا فى القاعِ
يزدردون أيام الصعود
ولسوف تغرقكم بحار الدهر يوما
ثم لا تجدون مرفأ نجدة
فى أى ركن فى الزمان
فما فعلتم بالزمان وبالمكان
من الأفاعيل " الذكية " والغبيةِ
لم يدع جسرا بأية مهجة
من أجلكم
وتهكموا يا نسل فاوست القديم
إن لم تكونوا تؤمنون
ببطشة الرحمن بالطاغوت
يكفى ما علمتم عن أفاعيل الليالى
فى الدُّنا علم اليقين
كذلك فإنه لا يفقد الأمل فى أن تكون لكلماته ، أو بالأحرى : صرخاته ، أثر يوما من الأيام ، فهى بذور يلقيها فى التربة مطمئنا أنه إذا كان الآن جدبٌ وجفافٌ فلسوف يهطل الغيث عليها يوما فتستحيل نباتا أخضر ريان . يقول فى قصيدة " الصرخة والفعل " :
أنا لست اليوم سوى صرخة
وجميع حصادى
منذ وُلِدتُ إلى السبعين
تحوصل فى هذى الصرخة
وتفجر فى هذى الصرخة
...
فليأتمر اليوم القادة
وليمضوا ما شاء السادة
لكن الصرخة ولاّدة
...
وستصحو كل كراسينا
وسنرفع كل مراسينا
ونخوض بحار العزم
إلى التحرير من الطاغوت
الجاثم بالعبرية
فوق أمانينا وأغانينا
وسنبطل سحرا طال
ونشعل نار العزم
من الصرخة
ولكن كيف يتحقق هذا الأمل ؟ إن شاعرنا لا يلمس هذه النقطة ، لكننا نستطيع القول مطمئنين إنه كلما تحركت الشعوب ولم تدع الغيارى من المصلحين والمفكرين والكتّاب يناضلون وحدهم دون أن تحمى ظهورهم وتصطف خلفهم وتناضل معهم وتعيش فى نفس الخندق الذى يعيشون كان تحقق الأمل أسرع وآكد . أما إذا استمر الوضع على ما هو عليه الآن من هبوب بعض الأفراد أو الجماعات منادين بالإصلاح والتغيير ومعرّضين أنفسهم لأخطار السجن والأذى والتضييق والقتل ، بينما جماهير الشعب غافلة عنهم غير شاعرة بوجودهم فضلا عن أن تبالى بهم، وإن شعرت بهم سخرت منهم ومن تطلعهم إلى الإصلاح متهمة إياهم بفقدان العقل ، فلن يتحقق حينئذ أمل ، ولن تشرق فى الغد شمس ! ويا ليت جموع الشعب تكتفى بإثم الصمت واللامبالاة فقط ، إذ الواقع أنها تشارك الحاكم المستبد فى عسفه وتنكيله بالداعين إلى الإصلاح متمثلة فى الشرطى الذى يعتقلهم ، والقاضى الذى يحكم عليهم بالحبس أو القتل ظلما وعدوانا ، والصحافى الذى يشنع عليهم ويفترى الأكاذيب ، والعيون التى تتجسس عليهم وتبلغ عنهم السلطات الظالمة ، والجيران الذين يقاطعونهم خوفا من أن يمسهم من وراء الاتصال بهم سوء ... إلخ ، فضلا عن أنها تعانى من ذات العيوب التى يعانى منها الحكام ، فالطرفان هما ثمرة التربة نفسها ، ولم يهبط الحكام من الفضاء الخارجى فى جنح الظلام بل نبتوا وترعرعوا فى نفس البيئة . ومن قديم قيل بحق : " كما تكونوا يُوَلَّ عليكم " !
هذا، ويستعين الشاعر على إبراز معانيه ومشاعره بوسائل مختلفة : منها التكثيف الموسيقى بقدر ما تسمح به قصيدة التفعيلة ، فكثيرا ما تتتالى السطور المتقافية مذكرة إيانا على نحوٍ ما بالقصيدة التقليدية . ومن ذلك قوله قى قصيدة " جزاء ورياء " ( الشرق / 17 فبراير 1997 ):
ويصرخ النفاق فى السطور
لمصرع الشرور
...
فالموكب الفقيد
أهلّ فى السماء من بعيد
معربدا كنقمة بغير ما حدود
تعبئ الجحيم فى منمق الصُّرَر
لينزل الهلاك من مهابط المطر
بإخوة لنا وللإباء والشرف
تطهروا من لعنة الترف
ليعلنوا كرامة العرب
ويرفضوا قداسة الغرور والصلف
...
لتحصد ابتسامة الطفولة
وعزة الشباب والرجولة
...
وتخنق الصباح فى الصدور
وتغرس الحداد فى مباسم الزهور
...
لتلفظ الظلام
وتضرب اللئام باللئام
ويسقط الحطام
وقوله فى قصيدة " رمضان والإنسان " ( الراية / 21 ديسمبر 1999 ) :
رمضان والشيشانُ
والجولان والإنسانْ
كم من شكايات بلا مأوى
فى عصرنا المغمور فى الطوفانْ
...
فهناك رأس تنهش الإنسان
رأس تنهش التاريخ
رأس تنهش الوجدان
رأس تنهش الأوطان
رأس تنهش الأقوات والآمال
والأفراح ، بل وحرارة الأحزانْ
ويمر مخذولا بنا رمضان
يُزْجِى ، حييًّا ، طاهر الغفران
وقوله فى قصيدة " بشرى " ( الراية / 10 مارس 2003 ) :
نواجه أيامنا بالهروب
إلى خارج الحاضر المنفجر
ولكن موج الخطوب الدءوب
يسد علينا جميع الدروب
فنجثو أسارى المصير الكسيحِ
المسطر فى لوحة البنتجون المهيب
وننسى جلالة رب الغيوب
ونرسب فى الامتحان الأريب
ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد ، إذ تكثر القوافى الداخلية أيضا فى قصائد شاعرنا . إنه لا يكتفى بتتابع السطور المتقافية فى كثير من الحالات كما أوضحنا ، بل يضيف إلى القوافى التى تنتهى بها السطور قوافى أخرى فى داخل هذه السطور . وفى غير قليل من تلك الحالات نراه حريصا على أن تتلو الكلمتان المتقافيتان إحداهما الأخرى . وإلى القارئ بعضا من الشواهد على هذا الذى نقول : ففى قصيدة " المزاد " ( الراية / 2 ديسمبر 2000 ) نقرأ : " ما الذى خلف البيارق والصواعق ...؟ " ، وفى قصيدة " الحل السعيد " (الوطن / 10 مايو 2000): " فحتى من تماشَى وتحاشَى " ، وفى قصيدة " الحراسة الرشيدة " ( الراية / 18 يونيه 2002 ): " هناك فى حمى السواد والفساد " ، وفى قصيدة " الفحم البشرى " ( الراية / 9 إبريل 2003 ):
تلكم الكومة من أشلاءَ
من أحشاءَ ، من أثداءَ
هل كانت نساءَ ؟
وفى قصيدة " أصداء النكبة " ( الراية / 14 مايو 2003 ): " سمعًا طوعًا يا جبار "... إلخ. وهذا كله علامة قوية على الحس الموسيقى المرهف لشاعرنا وحرصه على تكثيف النغم الموسيقى لقصائده مما يدل على أن النزعة الموسيقية التى تميز الأذن الشعرية العربية لا تزال على أشدها لديه رغم لجوئه إلى الشكل التفعيلى الذى يراد به عند طائفة من الشعراء إحداث قطيعة مع الشكل التقليدى بموسيقيته الثرية .
كما نجده ، بدافع من ذات الرغبة فى تأكيد ما يريد قوله ، يلجأ إلى تلك الأداة البلاغية التى لم ولن تفقد مقدرتها الساحرة على الاستيلاء على عقل القارئ وقلبه ، ألا وهى التكرار لكلمة أو عبارة أو جملة أو حتى سطر بأكمله يتخذ منه " قرارا " يسند إليه مهمة تذكيرنا بالقضية أو الفكرة الرئيسية التى تشغله وتلح على وجدانه ويريد لها أن تشغلنا وتلح على وجداننا نحن أيضا، كجملة " والقدس فى ثوب الشهادة تنتظر " التى كررها خمس مرات على مسافات متقاربة فى الثلثين الأولين من قصيدة " المزاد " ( الراية / 2 ديسمبر 2000 ) ، وكما هو الحال أيضا فى قصـيدة "استقل يا عمرو موسى" التى كرر فيها مطالبته لأمين الجامعة العربية بالاستقالة من منصبه ست مرات ، كل مرة بأسلوب مختلف ، وبإضافات جديدة ، مما يجعل التكرار تكرارا وتنويعا فى نفس الوقت ، فكأنه تكرار ولا تكرار، وهو ما من شأنه إغناء تلك الأداة البلاغية المعروفة والعبور بها فوق حدودها القديمة إلى آفاق أرحب :
استقل يا عمرو موسى
وانج بالإسم الكريم
استقل يا سيدى المرموقَ
من ضيق الحصار
...
استقل ، يا ليتنى
يا ليت كل القابضين الجمرَ
...
يَلْقَوْن ، ولو فى الحلم الكاذب ،
أرضا غير هذا الكوكب المسكونِ
بالطاغوت يزنى بالضمائر
...
استقل ، يا ليتنى
يا ليت كل الشرفاء
يستقيلون جميعا
من صباح ينقل التلفاز فيه
...
صور الأبطال والأطفال
أشلاء وصرعى
فى فلسطين الشهيدة
...
استقل يا عمرو
فالأرض الكسيحة
من خليج لمحيط
لم تعد أرض العروبة
...
استقل يا سيدى
واحفظ لنا وجه الخجل
ومثل ذلك قوله فى قصيدة " رسالة بدمع الأرض المأسورة " (الراية / أول إبريل 2002):
أتوسل باسم تراب حر
صانته همم الأجداد
...
أتوسل باسم عيون ملايينِ
الوطن العربى المقهورة
أتوسل باسم عذابات الثكلى
...
أتوسل بالقرآن وبالإنجيل
وكل معانى الطهر المهجورة
أتوسل للحكام وللأجناد
وللأمجاد المطمورة
...
أتوسل للشمس العربية
أن تتذكر أيام الإشراق
...
أتوسل للدم أن يتوثبَ
فى الشريانِ
وللوجدان لكى يتحررَ
من رق الإدمان
لرقم الصفر الساقطِ
من شجر الأيام
...
وأن يستيقظ من إغماء
طال عقودا تلو عقود
...
أتوسل للعربى بكل مكان
أن يتذكر أن السيف
وليس الذلة
كان هو المتألقَ
يوم العسرةِ
فى كف الإيمان
فانظر كيف كرر " التوسل " ثمانى مرات مع تنويعه فى نفس الوقت ، إذ جعله أربع مرات " توسلا بـ ... " وأربعا "توسلا إلى ..."، ومع تنويع الشىء المتوسل به أيضا فى المرات الأربع الأولى بحيث لا يكون هو هو أبدا ، وتنويع الشىء أو الشخص المتوسل إليه فى المرات الأربع الأخرى رغم أن المقصود هنا فى واقع الأمر شىء واحد : فالشمس العربية هى هى الدم الذى يريد له الشاعر أن يتوثب ، وهذا الدم هو هو الصفر الساقط من شجر الأيام ، وهذا الصفر هو هو العربى فى كل مكان . لكن الشاعر نوّع وخالف ، فكأنه يتوسل إلى شىء جديد فى كل مرة ، على حين أن التوسل فى جميع الأحوال هو لذلك العربى الذى غربت شمسه ودخلت فى ظلام من الذل والخنوع طويل فلا تريد أن تبزغ كرة أخرى ، والذى أصبح من عجزه بل من بلادته ورضاه بالخنوع واستعذابه للهوان واستزادته منه بمثابة دم بارد يزحف بطيئا فى العروق ، فيهيب به الشاعر أن يتلهب ويتوثب ، والذى انتهى به الأمر إلى أن أضحى صفرا ، أى عدما محضا! وفى هذا الأسلوب إغناء من نوع آخر لتلك الأداة البلاغية التقليدية يجعلها شيئا جديدا أو كالجديد .
ومن الوسائل التى استعملها الشاعر أيضا تنفيسًا عن غيظه وقهره ، ورغبةً منه فى إيقاظ أمته ، اللغةُ الواخزةُ التى تتحول فى بعض الأحيان إلى هجاء يسلخ الجلود : فعِرْض الأمة لا يعدل عند العدو الصهيوأمريكى عِرْض حشرة حقيرة ، ومع هذا نراها تمضى إلى حضن هذا العدو فى موكب عرس من العجز والهوان ( من قصيدة " الدم والبالوعة" / الراية / 26 أكتوبر 2000 ) . والأمة نفسها ليست إلا جرذانا جاثية عند أقدام العدو تلعقها ( من قصيدة "استقل يا عمرو موسى" ) ، أو ذبابا ملتصقا بالنفايات الغربية ( الذباب / الراية / 6 يناير 2002 ) ، أو ديدانا متكومة على رأس الشهيد ( من حفائر الهم العربى / الراية / أول يونيه 2003 ) . وأكفّ أوغاد الصافعين من كل أرجاء الأرض تنهال على وجهها فتمد يدها إلى أولئك العتاة تصافحهم فى ود ( الخدود الصدئة / الراية / 19 إبريل 200) ... وهكذا . وشاعرنا إذ يفعل ذلك إنما يفعله من فرط حبه لأمته وتلظى قلبه غيرة على كرامتها ورغبة فى أن يراها حرة أبية ترفض الهوان وتتطلع إلى المعالى ، ولا تستسلم لسكين ذابحيها مسبحة بحمدهم مقبّلة أقدامهم . فهو كالأم التى من خيبة أملها فى ابنها تدعو عليه أن يفرمه قطار ، لكن قلبها يلعن من يؤمّن على هذا الدعاء !
كذلك يلفت النظر فى هذه القصائد ثراء العنصر التصويرى الذى يتكئ عليه شاعرنا بقوة لإبراز خطوط مأساة الأمة وحفرها فى قلوب قرائه بمسامير محمرة من اللهيب . وهذا العنصر التصويرى يقوم فى كثير من الأحيان على التوليد والتفريع ، حيث نجد أنفسنا فى البداية إزاء نبتة صغيرة نظن لأول وهلة أنها هى كل ما فى جعبة الشاعر ، إلا أن هذه النبتة الضئيلة سرعان ما تنمو وتستطيل وتتفرع ، فإذا هى شجرة باسقة حافلة بالأوراق والثمار والألوان والروائح والأظلال والأضواء . ولنأخذ مثالا على ذلك قصيدة " الذباب " ، التى تبدأ بإشارة سريعة وعارضة إلى عنوان مسرحية سارتر الشهيرة : " الذباب "، لننتقل عقيب ذلك إلى قول شاعرنا : " هكذا نحن على وجه الزمن " . بيد أنه لا يكتفى بهذا ، بل يكرر العبارة مرتين مع بعض التحوير فى كل منهما : " هكذا نحن على وجه العفن / هكذا نحن على وجه الحضارة ". ولو أن شاعرنا اكتفى بهذا لكان كافيا ، لكنه يمضى متسائلا : " ما الذى نعطيه للدنيا / سوى أن نتمطى ، نلتصق / ببقايا ، بنفايا / كل ما أبدعه الغربُ / ولو كان مبيدا للذباب / للعرب ؟ " . ومرة ثانية لا يكتفى الشاعر بهذا ، ولو اكتفى به لكان كافيا ، لكنه يعود إلى ذات الموضوع بعد أن ينفض لنا ما فى جعبة شعوره من هوان ويأس ، متسائلا هذه المرة أيضا لكنْ موجها سؤاله لا إلى أحد كما فى المرة السابقة بل لأمته ، التى يصفها بأنها " ذباب لاصق ". ومرة ثالثة لا يكتفى الشاعر بهذا ، ولو اكتفى به لكان كافيا ، لكنه ينتهز فرصة ذكر اللصق فيتذكر الصمغ العربى ، الذى يتحول على يديه من صمغ مادى إلى صمغ نفسى كامن فى طبيعتنا . إنه صمغ يلصق ملايين الذباب العربية بالقار والطحلب الذى تسوخ فيه أقدامها . ومرة رابعة لا يكتفى الشاعر بهذا ، ولو اكتفى به لكان كافيا، لكنه يمضى بعد أن يغوص فى أعماق النفس العربية معرّيا عوراتها فيتحدث عن روح الغرب المتوثبة المتحدية التى صارت بالعزم والعلم " ضياءً يزدرينا / وضراما من عتوٍّ يحتوينا " ، " ومبيدا عبقريا لإرادات الذباب " . ومرة خامسة لا يكتفى الشاعر بهذا ، ولو اكتفى به لكان كافيا ، لكنه يستمر قائلا : " كل أنواع الذباب العربى اللاصقة / كلها حطّ على وجه العسل " ، ثم يمدّ الصورة قائلا إن هذا الذباب " يتمطى فى تعالٍ واهمٍ / كلما أمعن فيه كلما زاد التصاقا / بالحضيض "، ثم يمدها مرة أخرى وأخيرة حاملة فى طيها مفاجأة صاعقة : لقد كان الذباب فى أثناء التصاقه " لاهيا عن بادرات النار / فى أطراف قيعان العسل " . فانظر كيف بدأت الصورة بإشارة سريعة عارضة إلى عنوان مسرحية سارتر ، ثم كيف تطورت فصورت التصاق ذلك الذباب بالصمغ ، ثم بالقار ، ثم بالطحلب ، ثم بالعسل ، ثم غَوْصه فيه وقد حاصرته النار من كل جانب ، بينما هو عاجز حتى عن مجرد الحركة !