مسرحية التوراة الضائعة
مسرحية التوراة الضائعة
تأليف: علي أحمد باكثير |
قراءة وتحليل بقلم: الدكتور محمد أبو بكر حميد |
يعتبر علي أحمد باكثير (1908 ـ 1969م) بحق رائد قضية فلسطين في أدبنا الحديث ورائد القضايا السياسية الكبيرة في المسرح العربي، فلقد كانت أعماله السياسية كلها صرخات جريئة يدعو فيها أمته إلى اليقظة والحذر من العدو القابع في ديارنا ومن العدو المحيط بنا.
ولما كان الأديب الحق هو ذلك الذي يسكن في قلب أمته يعيش آلامها ويحلم بآمالها، فهو يكون في حياة هذه الأمة أول منذر وأول مبشر. وقد كان باكثير مثال ذلك الأديب حين تنبأ بمأساة فلسطين وبقيام دولة إسرائيل قبل قيامها بثلاث سنوات عندما كتب مسرحية شيلوك الجديد سنة 1945م ووضع لها نهاية لم تحن بعد. ثم توالت أعماله بعد ذلك فكتب مسرحية إله إسرائيل التي يكشف فيها عن التآمر اليهودي عبر العصور ومسرحية شعب الله المختار التي تدور أحداثها في تل أبيب وتحلل تصدع الدولة اليهودية من الداخل ثم مسرحية سفر الخروج الأخير التي لم تنشر بعد. ولما كانت الصهيونية وليدة الاستعمار الذي مزق خريطة العالم العربي والإسلامي فقد كان باكثير عدوه اللدود فنراه يسخر من الاستعمار البريطاني وأساطينه في مسرحية إمبراطورية في المزاد ويتنبأ ببزوغ نجم الشرق العربي. ويهاجم الإنجليز بجرأة ويتنبأ بخروجهم مهزومين من مصر في مسرحيته مسمار جحا الذائعة الصيت. ويصور حركة المقاومة الشعبية ضد الاستعمار الهولندي في أندونيسيا المسلمة في مسرحية الفردوس المفقود.
وهكذا ظل باكثير رحمه الله ـ في كل أعماله شعراً ورواية ومسرحية يستنطق الواقع ويستشرف المستقبل محذراً أو مبشراً.
ولقد كانت التوراة الضائعة آخر مسرحية نشرت لباكثير في حياته عن مأساة فلسطين همه العظيم الذي حمله طوال عمره وقد صدرت هذه المسرحية في ديسمبر 1969م بعد وفاة كاتبها بشهر* وفي هذه المسرحية يتعرض باكثير للآثار الخطيرة التي نجمت عن العرب في 5 يونيو 1967م. من أهم هذه القضايا الهيمنة اليهودية على مراكز القوة في أمريكا وتسخيرها لخدمة إسرائيل. وهذا بدوره أدى إلى زيادة هجرة اليهود الأمريكان جرياً وراء الحلم الصهيوني الذي سرعان ما يكتشفون أنه سراب. ومن ناحية أخرى تبرز المسرحية حركة المقاومة الفلسطينية ودورها داخل الأرض المحتلة. أما الشكل الفني للمسرحية فيتكون من ثلاثة فصول يحتوي كل فصل على ثلاثة مشاهد. وقد قسم باكثير المشاهد إلى نوعين واقعي وخيالي. المشاهد الواقعية تدور في أحد فنادق القدس حيث ينزل المليونير اليهودي الأمريكي هاري كوهين وأسرته.
أما المشاهد الخيالية فيظهر فيها صلاح الدين الأيوبي وريتشارد قلب الأسد من ناحية وهرتزل وهتلر من ناحية أخرى.
البعد التاريخي: ـ
ففي كل فصل من الفصول الثلاثة نجد مشهداً خيالياً يظهر فيه رجال من التاريخ لهم علاقة بما يحدث في المشاهد الواقعية. وهكذا ابتكر باكثير هذه الحياة الفنية لإبراز الواقع: بشاعة الحلم اليهودي وجشعه من خلال الرؤية التاريخية لما حدث في الماضي بين المسلمين والمسيحيين من جهة وبين اليهود والنازية من جهة أخرى. ففي التوراة الضائعة ليس صلاح الدين وحده الذي يصحو منزعجاً من الوحشية الصهيونية في أرض المسلمين وإنما يصحو أيضاً ريتشارد قلب الأسد الذي حارب المسلمين في يوم من أيام التاريخ.. يصحو اليوم محتجاً لما يحدث في فلسطين ـ مسقط رأس المسيح ـ على أيدي اليهود:
ريتشارد :أتدري يا صلاح الدين كيف جئت ؟ كنت نائماً بقبري في سلام وإذا هاتف أزعجني صوته يقول: أعداء المسيح دنسوا قبر المسيح فقمت فزعاً وأنا أظن أنهم المسلمون
صلاح الدين: ولكنا لسنا أعداء المسيح يا ريتشارد وأنت تعلم ذلك.
ريتشــارد: كنت يا صلاح الدين. قد نسينا كثيراً مما كان. حتى الطريق إلى فلسطين كدت أضلها المسرحية (ص7).
ويلوم ريتشارد صلاح الدين لوقوع فلسطين في أيدي اليهود قتلة المسيح. ويبدي عجبه من الضعف والخور الذي وصل إليه العرب والمسلمون في هذا العصر. ويؤكد أن سقوط فلسطين في أيدي اليهود ليس خطراً على العالم الإسلامي وحده وإنما أيضاً على العالم المسيحي " كان عليكم أن تقاتلوهم وأن تدافعوا عن الأرض المقدسة وإلا فلماذا قاتلتمونا من قبل ؟ " (المسرحية ص8)، ومما لا بد من قوله هنا أن باكثير لم يكن يسجل بهذا موقف المؤسسات الصليبية العالمية وإنما هو يذكرها بما يجب أن يكون. فمن المعروف أن معظم المؤسسات الكنسية في أمريكا وأوروبا تعلن تأييدها الصريح لدولة إسرائيل وتنظر إليها بعين العطف والتأييد، لأن هذه المؤسسات قد وقعت في براثن الدعاية الصهيونية التي اكتسحت العالم الغربي كله. ومن هنا يستعيد باكثير ريتشارد قلب الأسد الزعيم الصليبي ليستنكر باسم روح المسيح ما يحدث في أرض فلسطين. ويسمع ريتشارد من صلاح الدين للعجائب التي حدثت في الدنيا من بعدهم:
صلاح الدين: والله لا أدري كيف أشرح لك ؟ هل سمعت عن أمريكا يا قلب الأسد ؟
ريتشـارد : أمريكا ؟! أي شيء أمريكا هذه .
صلاح الدين: أكبر شيء في الدنيا اليوم وأحقر شيء فيها.
صلاح الدين: وهل سمعت عن الاستعمار والإمبريالية.؟
ريتشــارد: لا.
صلاح الدين: عن الحركة الصهيونية.
ريتشــارد: لا
صلاح الدين: عن الحركة النازية؟
ريتشــارد: لا
(المسرحية ص9 ـ 10 )
ويعترف قلب الأسد أنه كان نائماً ميتاً طوال هذه القرون فكيف بصلاح الدين يعرف كل ذلك وهو قد مات مثله.
فيجيبه صلاح الدين " لا يا قلب الأسد. كانت الخطوب الكبيرة تنزل ببلادي تترى فلم أستطع أن أنام إلا غراراً فكنت أعي كل ما كان يجري في العالم " (ص10).
ثم نرى في أدنى المسرح مخاضة من نار يعذب فيها هتلر وهرتزل وقد ألصق فيها ظهر أحدهما إلى الآخر. ويتساءل ريتشارد بأي حق يعذب هتلر الذي أباد اليهود إنه يستحق الثناء. وهنا يسجل باكثير على لسان صلاح الدين الموقف الإسلامي العربي الإنساني من زعيم النازية. إن هتلر يستحق لعنة الله والإنسانية لإهدار الكرامة البشرية. وفي الأخير نفهم أن هتلر وهرتزل قد جمعا في جهنم كرجل واحد لأنهما يمثلان مذهباً واحداً.. التفرقة العنصرية بين البشر، فكل منهما ادعى أن أمته سيدة البشر وسائر الأمم لها عبيد.
وفي مشهد الفصل الثاني يظهر ريتشارد قلب الأسد حزيناً بعد اطلاعه على مساندة العالم المسيحي لدولة الصهاينة: " وإنجلترا كيف أباح لها ضميرها أن تتحمل الوزر الأكبر في إقامة دولة لليهود في الأرض التي قتلوا فيها المسيح .؟.. (ص62) أية إهانة.. أية مذلة ؟ آه لو أستطيع أن ألقى أولئك الحكام الذين باعوا شرفهم وشرف بلادهم وأمتهم لليهود " (ص62).
وهنا يظهر شبح تشرشل وشبح بلفور. ويسجل باكثير أمنيته في تعاون العالم المسيحي مع العالم الإسلامي لطرد اليهود عن مسقط رأس المسيح ومسرى نبي الإسلام عليهما السلام.
يقوم ريتشارد بركلهما أمامه عندما يركعان حتى يتدحرجا وهو يقول لصلاح الدين ساعدني. لكن صلاح الدين يدعوه لتركهما حتى لا يلوث نفسه بقيح جهنم الذي يصب منهما. وفي مشهد الفصل الثالث نشاهد تعذيب هتلر وهرتزل يتصل بصورة ساخرة ويسجل مفارقات عجيبة لهذين العدوين اللدودين وقد اجتمعا في جهنم. ويبدي ريتشارد حزنه على ضعف المسلمين في العصر الماضي، فهو لا يحتمل أن يرى اليهود يستغلون ويستغفلون المسيحيين للبطش بالمسلمين . و يحاول صلاح الدين أن
يطمئنه بأن الله القوي المتين قادر أن ينبت من هؤلاء العرب المؤمنين من يجاهد لتحرير فلسطين لكن ريتشارد يعلن في أسى: " لا يا صلاح الدين لا أستطيع البقاء هنا لأرى جناية هذا العالم المسيحي على الأرض التي باركها المسيح. سأعود إلى قبري وأترك للرب القدير أن يفعل ما يشاء"(ص119).
البعد الواقعي: ـ
أما إذا جئنا إلى تامل المشاهد الواقعية التي تدور أحداثها في أحد فنادق القدس فسنجدها تكشف عن دهاء وبشاعة الوجه الصهيوني الذي لم يقع في قبضته العرب والمسلمون فحسب وإنما العالم الغربي كله. فهذا المليونير اليهودي الأمريكي مستر كوهين جاء يقطر حقداً على كل ما هو غير يهودي.
إن متعته الأولى التي جاء ليتلذذ بها هي مشاهدة ضحايا النابالم من الفلسطينيين أثناء تناوله الوجبات بالفندق. أما هدفه الثاني فهو إعادة زوجته برباره إلى أصلها اليهودي بعد أن أصبحت نصرانية على يدي أبويها. والأسرة تتكون من راشيل ابنتهما المتزوجة التي آثر زوجها أن يبقى في أمريكا. وطفليهما ديل وديانا براون. وجيم ابنهما الشاب الذي لم تستسغ له العقيدة اليهودية وآنا روبرت مربيتهما الزنجية.
ومنذ اللحظة الأولى للمشاهد المسرحية التي يديرها المؤلف بمهارة يبدأ المسلسل الرهيب لسقوط هذه الأسرة في الوحل الصهيوني داخل إسرائيل. يسلم الأب كوهين زوجته برباره المسيحية للشاب الصهيوني جوزيف ـ موظف في هيئة تشجيع النسل الإسرائيلي ـ ليتجول بها في المعابد اليهودية ويذكرها بتاريخ أجدادها ويكتسب عودتها للعقيدة اليهودية من خلال إعجابها بشبابه وهي التي جاوزت الأربعين.وهنا يقوم بوظيفته في تحقيق الحلم الإسرائيلي في زيادة النسل، فتحمل برباره منه وتوهم كوهين المسكين أنها حامل منه فيسعد الزوج بعودة رجولته وعودتهما إلى يهوديتهما. وفي هذه الأثناء تغترب فورتين اليهودية الحسناء خطيبة جوزيف والعاملة أيضاً في هيئة تشجيع النسل ـ تقترب من العجوز المتصابي مستر كوهين الذي سرعان ما يقع في غرامها وهي قد حملت بالفعل من خطيبها جوزيف وما إن تمكن المليونير العجوز من نفسها حتى تلصق حملها به. أما الابنة المتزوجة راشيل فتقع في براثن الشاب اليهودي الوسيم إيزال وتنتقل للسكن في فندق آخر حتى لا يفاجئها زوجها الغائب بزيارة ولا تقتصر راشيل على رجل واحد وإنما تتحول إلى امرأة تعطي جسدها للكثير من الرجال بلا حساب. ولعل نقطة الضوء الوحيد في هذه الأسرة هي ابنها جيم الذي ظهر منذ البداية مشمئزاً من تصرفات والده الشاذة ومن حقده الرهيب على كل ما هو غير يهودي. وقد زاده وجوده بإسرائيل إيماناً بحقيقة الصهيونية فتعاطف مع حركة الفدائيين واتصل بهم حتى وصل أمره للعصابة الصهيونية.
ففر دون علم والديه وأشيع أنه يقاتل في صفوف المقاومة الفلسطينية. وتبدأ الأسرة تحس بالمؤامرة الصهيونية على أخلاقها و أموالها . يعود مستر براون زوج راشيل و يخطف ولديه عائداً بهما إلى
أمريكا بعد أن وصلته روائح فضائح زوجته.
وتبدأ الأم برباره تشعر أنها قد خسرت كل ما تبقى لها من قيم، خسرت دينها وشرفها وشرف ابنتها وخسرت ابنها جيم وخسرت زوجها المتصابي الذي ابتعد عنها وراء اليهودية الشابة. ثم يبدأ الأب كوهين، يفيق ويحس بأن الجنة اليهودية في فلسطين سراب ويطالب بسحب ما تبقى من أمواله والعودة إلى الولايات المتحدة. لكنه يكتشف أنه لا يستطيع ذلك حين تأتي لجنة لتناقشه في طلبه وينتهي أمره مع اللجنة أو العصابة على الأصح بأن يصادر ثلاثة أرباع رصيده ثم يكتشف أخيراً أن الأب الحقيقي لطفليه من زوجته وفورتين إنما هو جوزيف موظف لجنة زيادة النسل الإسرائيلي. وعلى أثر ذلك يتشتت شمل الأسرة حيث تلجأ الزوجة برباره إلى أحد الأديرة لتكفر عن خيانتها.
وتنتهي المسرحية نهاية سعيدة حيث ترى المستر كوهين قد ثاب إلى رشده وعرف حقيقة العصابة الصهيونية وذهب إلى الدير يريد زوجته أن تعود وهناك يعفو كل منهما عن الآخر ويلتقيان بابنهما جيم الذي كان متخفياً هناك مع بعض رجال المقاومة الفلسطينية. ثم يرجو الأب ابنه ألا يذهب للقتال فهو وحيده. ويتدخل الفدائيون لإقناع جيم بأن رسالته هي أن يعود لأمريكا ليكتب ويتكلم وينشر الصور عن جرائم إسرائيل ليعرف الشعب الأمريكي الساذج حقيقة الأخطبوط الصهيوني.
هذه هي آخر مسرحيات باكثير عن فلسطين، تدور أحداثها داخل الأرض المحتلة، لا تدل فقط عن تمكن باكثير من فنه المسرحي بل تكشف لنا أيضاً عن باكثير السياسي الحصيف وعلى اطلاعه العظيم وتتبعه اليقظ لمجريات الأحداث السياسية. وكعادة باكثير في أعماله السياسية الأخرى، نجده في هذه المسرحية يستشرف المستقبل البعيد قبل حدوثه بسنوات.
ففي الوقت الذي كتب فيه هذه المسرحية كانت الهجرة اليهودية من كافة أنحاء العالم وخاصة أمريكا وروسيا تتزايد. ولم يكن هناك ما يشير إلى فشل هذه الهجرات. لكن في أواخر السبعينات ومطلع الثمانينات من هذا القرن بدأنا نسمع عن الهجرة المعاكسة من إسرائيل وبدأنا نسمع عن أن الكثير من يهود أوروبا يصطدمون بالواقع الرهيب في أرض الميعاد فيحاولون العودة إلى بلدانهم فيحصل لهم ـ في كثير من الأحوال ـ ما حصل لمستر كوهين وأسرته. وبعد حوالي تسعة عشر عاماً من كتابة المسرحية نجد نبوءة باكثير تتحقق إذ يوجد الآن من بين الأمريكان يهود وغير يهود من ينشر الحقائق كاملة وعلى شاشة التلفاز للشعب الأمريكي. وقد شاهدت بنفسي ذلك ورأيت الكثير ممن كانوا يناصرون إسرائيل بعمى يقولون نعم للحق الفلسطيني بعد أن شاهدوا وحشية العدو الصهيوني في مقاومة ثورة الحجارة ـ التي أكدت لهم أن هناك شعباً أعزل عن السلاح يطالب بحقه في أرضه.
المناقشة والحدث الدرامي: ـ
أما الشكل الفني في هذه المسرحية فهو يقوم على " الحدث " و " المناقشة ". وعادة ـ كشأن الكثير من مسرحيات باكثير ـ نجد " الحدث الدرامي " يسبق " المناقشة الفكرية " . ففي المشاهد الخيالية لا
نعيش الحدث نفسه ولكننا نعيش صداه من خلال لقاء صلاح الدين وريتشارد قلب الأسد.. إن جسامة الحدث هنا قد أدت إلى حتمية لقائهما ـ أما مشهد تعذيب هتلر وهرتزل في جهنم الذي شاهده الزعيم المسلم والزعيم الصليبي فما هو إلا بعداً ثالثاًَ ـ لحدث ضياع فلسطين وللمناقشة بين الزعيمين ـ لتكتمل الصورة على خشبة المسرح في ذهن المشاهد فنياً وفكرياً. وهذا التصور يستمر في المشاهد الخيالية في الفصول الثلاثة من حيث تصدر " المناقشة " للحدث بل تحولها إلى حدث درامي يقوم أساساً على مجموعة مفارقات نتيجة لما يحدث من انقلاب في تصورات ومفاهيم ريتشارد قلب الأسد.
وإذا ما تأملنا المشاهد الواقعية وما يحدث لأسرة المستر كوهين في القدس نجد أن التصور الدرامي قد قام أساساً على التطور المنطقي والحتمي ليس لما خطط له باكثير ولكن وفق معطيات البيئة العنصرية الصهيونية في الأرض المحتلة. وهنا يكمن سر نجاح المؤلف حين جعل حتمية الحدث الدرامي وتأثيره هو الذي يحدد مصائر أبطال المسرحية. ولا بأس إن جاء هذا ليتفق مع الفكرة التي يريد المؤلف قولها لنا.
وإذا كنا لا نعرف ما يحدث ليهود أوروبا وأمريكا في إسرائيل بالتفاصيل التي رسمها لنا باكثير ـ وهذا مجال متعة ومعرفة ـ فإننا كنا نعرف النتيجة ونتوقع ما حدث لأسرة المستر كوهين. ولكن لماذا أصررنا على متابعة أحداث المسرحية بشغف ؟.. هنا يكمن السر في الطريقة التي رسم لنا فيها باكثير وقوع هذا الحدث بتفاصيله، وجعلنا نعيشه لحظة بلحظة من خلال سلسلة مناقشات.
لكن مناقشات أبطال باكثير في هذه المسرحية تختلف تماماً عن المفهوم الأرسطي . فعند أرسطو المناقشة تؤدي إلى التعرف والتعرف يؤدي إلى التحول في مفاهيم البطل وبالتالي يؤثر على مسار الحدث الدرامي. أما في هذه المسرحية فنجد التحول لا يتم إلا بالحدث الدرامي أي بالفعل لا بالكلمة المعرفة وحدها. ويتم تعرفنا على " الحدث " من خلال صداه في نفس البطل. ولنضرب مثالاً على ذلك من المشهد الثاني في الفصل الأول. هناك مناقشة تدور بين الشاب جيم ووالده كوهين. يحاول جيم أن يقنع والده الذي يتلذذ متشفياً بمشاهدة الفلسطينيين العرب يعذبون بأيدي الصهاينة بأنهم لا ذنب لهم فالألمان هم الذين عذبوا اليهود. فيقول له والده: إن كل من هو غير يهودي يعتبر من "الجوييم " و " الجوييم " هم أعداء اليهود حتى الأمريكان الذين يناصرون اليهود اليوم هم أعداء يجب تدميرهم.
جيم : وماذا يكون مصير اليهود الذين هناك (في أمريكا) ؟
كوهين: سؤال وجيه. لا تخف علينا يا بني فلن يقع ذلك إذا وقع إلا بعد أن تكون إسرائيل قد صارت إسرائيل الكبرى وتتسع يومئذ لجميع يهود العالم.
جيم : معنى هذا أنكم ستستولون على جميع البلاد العربية.
كوهين: نعم.
جيم : أتطردون شعوبها من ديارهم كما فعلتم بشعب فلسطين ؟
كوهين: نعم.
جيم : وكيف تسوغون لأنفسكم ذلك ؟
كوهين: أتسألني هذا السؤال يا جيم وأنت تحفظ التلمود ؟ ماذا يقول ميمانود، يا بني، عن الشعوب السبعة التي كانت في أرض كنعان ؟ اتل الآية ؟
جيم : (كأنه يتلو من كتاب) قال ميمانود: يجب قتل الأجنبي لأنه من المحتمل أن يكون من الشعوب السبعة التي كانت في أرض كنعان المطلوب من اليهود أن يقتلوها عن آخرها (ص28)
وتنتهي المناقشة بأن يعلن جيم بأنه لا يؤمن بهذا التلمود ولا يعقل أبداً أن يكون هذا الكتاب من عند الله (ص29)..
والآن نجد أن هذه المناقشة قد أضافت إلى وعينا الكثير عن حقيقة العقيدة اليهودية. ولكن هل دفعت هذه " المعرفة بالحدث الدرامي ؟ نقول " لا " لم تدفع به إلى الأمام نحو النهاية ولكنها طورته وتطور الحدث الدرامي الباكثيري في " مناقشات " هذه المسرحية هو "المعرفة " التي تضيف إلى معلوماتنا وتعطي الحدث الدرامي بعداً فكرياً عميقاً. وبهذا يكون المؤلف قد وضع في يدنا مفتاحاً مهماً من مفاتيح شخصية كوهين المعقدة وهو إيمانه الأعمى بعقيدة التلمود الذي عطل عليه منطقه ووعيه.
مأساوية الأبطال:
وهذا كله يدعونا لتحديد موقفنا من بطل هذه المسرحية ـ إذا جاز أن يكون لهذه المسرحية بطل ـ .. هل نحقد على المستر كوهين.. هل نتعاطف معه أم نرثي له ؟ إن المناقشات والأحداث في المسرحية تدعونا ـ كلما تسارع نبضها ـ إلى أن نرثي لحال المستر كوهين وحال أمثاله من آلاف وربما ملايين المخدوعين بالدعاية الصهيونية وبعقيدتها الموضوعة.
إنه يتحول إلى بطل مأساوي ـ والبطل المأساوي هنا هو ذلك الذي يساق إلى حتفه بارتكاب أبشع الجرائم بدون أن يعلم أنه يسير في الظلام ـ وباكثير يتوسل بالمفارقة الدرامية ليصور لنا مأساة أسرة كوهين. لقد ظن مستر كوهين إسرائيل هي جنة المستقبل الذي يبحث عنه، وظن المسكين أن زوجته الكهلة قد حملت منه، وظن أن فورتين الشابة الحسناء قد حملت منه، وظن أنه يستطيع استثمار ملايينه في بنوك إسرائيل. اعتقد اليهودي العجوز في هذا كله من بداية المسرحية حتى قاربت نهايتها. أما نحن من مشاهدين وقراء فقد جعلنا باكثير نطلع على كل شيء منذ أول لحظة وندرك أن كوهين قد خدع بهذا كله.
ومن خلال المفارقة الدرامية استطاع باكثير أن يحدد نوع عاطفتنا من المستر كوهين: أن نرثي له ونرثي لأمثاله من المخدوعين بأي شيء كاذب وبأي سراب. ولقد كان العمل الفدائي الفلسطيني هو الأمل الذي ظهر في آخر المسرحية وأعان كوهين على فهم الحقيقة وتعلمها ثم طلب من مستر كوهين وابنه العودة إلى أمريكا للتعريف بحقيقة إسرائيل.
أما بقية شخصيات المسرحية فقد رسمتها ريشة باكثير الدرامية بصورة لا تجعل أية شخصية تشبه الأخرى في السلوك وطريقة التفكير ثم فوق هذا كله نجد أن هذه الشخصيات في مجموعها تمثل عينة من يهود المجتمع الأمريكي. أما جانب التوفيق الدرامي الذي أحرزه باكثير في رسم شخصياته هو أنه تعامل معها بموضوعية. وهذا يعني أن المؤلف لا يبدو وكأنه قد حدد موقفاً من هذه الأسرة اليهودية قبل بدء المسرحية. فمنذ وصول هذه الشخصيات إلى البيئة الجديدة وهي أرض فلسطين المحتلة رأيناها تتصرف طبيعياً وفق منطقها في التفكير وتكوينها النفسي واستعداداتها الشخصية ومن ثم رأينا انعكاس معطيات البيئة الصهيونية الجديدة عليها. هكذا كان حال مستر كوهين الذي جاء إلى إسرائيل يحمل عقدة " الجوييم " كارهاً لكل ما هو غير يهودي أما المبرر النفسي والفني في نفس الوقت لسلوكه هذا فهو أنه قد اكتوى بنار النازية حتى إننا رأيناه يكشف عن ظهره وصدره ليظهر الحروق فيهما، فهل كان هذا السر في متعته بمشاهدة ضحايا النابالم من العرب ؟ ثم انغماسه في حمأة الجنس مع فتاة شابة في سن ابنته كان له أثره في عماه الروحي وهو أمر لا يجده من هو في مثل سنه (60 عاماً) في أمريكا بنفس السهولة التي يجدها في إسرائيل.
وإذا ما نظرنا إلى سلوك زوجته برباره (45 عاماً) فنجد أنها تمثل نوعاً من نساء المجتمع الأمريكي المتعدد الأنواع. فهي من النوع الذي يترك الحقيقة ويتناسى الفضيلة إذا ما كانت المصلحة مع غيرها. ففي البداية رأيناها تقول كلمة الحق في وجه زوجها اليهودي وتبدي تعاطفها مع العرب. ولكنها ما إن تتعرف على الشاب اليهودي جوزيف حتى تلوذ بالصمت، ومن أجل إشباع غرائزها تتحول إلى يهودية ولكنها غير صادقة في يهوديتها فنحن نسمعها تقول:
".. يهودي بيهودي. والثعلب الشاب خير من القرد الهرم" (ص58) .
ثمتفصح عن طبيعة شخصيتها حين تصرح " كنت مسيحية فانقلبت يهودية كما كان جدي يهودياً فانقلب مسيحياً تبعاً للمصلحة " (ص58).
وهذه حقيقة تصدق على الكثير من أتباع الأديان في أمريكا. وقد استوعب وعي باكثير هذه الحقيقة بأبعادها النفسية والاجتماعية وهو الذي لم يزر أمريكا في حياته قط.
وأعطى كاتبنا المسرحي الصورة ملامحها الكاملة حين جعل آنا روبرت المربية الزنجية تمثل السود في أمريكا والذين هم أول من فهم معاناة الشعب الفلسطيني لمرورهم بحالة مشابهة. لذلك نجد آنا الزنجية تتعاطف مع العرب لكنها لا تستطيع أن تفعل شيئاً وإلى جانب هذا فقد كانت الوسيلة الفنية ودورها يشبه إلى حد ما دور الوصيفة في مسرحيات راسين وكورني في فرنسا القرن السابع عشر. وحتى تكتمل الصورة بكل أبعادها الإنسانية عن تحالف الإنسان الأسود مع قضية الشعب العربي الفلسطيني نلتقي في إسرائيل بالطالب الإفريقي ماريو الذي يصبح صديقاً لجيم ويتعاونان معاً على دعم المقاومة الفلسطينية. أما راشيل (28 عاماً) فهي عينة من جيل الزوجات الجديد في أمريكا. إنها من النوع الذي يسقط كل القيم ويتجاوز كل الحواجز والاعتبارات الأخلاقية والاجتماعية ملبياً نداء الجسد. فهي ما إن أحست بجوع جسدها حتى أسلمته طائعة مختارة وبلا ثمن. لقد نسيت زوجها المقيم في أمريكا وأبعدت عنها ولديها وتركتهما للمربية وآثرت السكنى وحيدة في فندق ليسهل التردد عليها. وهذه هي يقول لها أبوها في غضبته التي عاد إلى وعيه فيها.. يأمرها أن تغرب عن وجهه وتذهب إلى عشاقها فترد عليه " إنهم لن يقبلوني اليوم يا أبي. إنهم يريدون من تنفق عليهم لا التي ينفقون عليها. أتظن الناس هنا مثل الناس في أمريكا ؟ إنهم جميعاً شحاذون متسولون "(ص114). والذين عاشوا في أمريكا يعرفون ويسمعون عن العشرات من أمثال راشيل. وهذا الاقتراب الحقيقي من الشخصية يعطي المسرحية بعدها الصادق في تصوير النفس البشرية وسبر أغوارها. وهذا لا يتم إلا بفهم المؤلف لطبيعة البيئة التي خرجت منها الشخصية. ولذلك نرى أنه إذا ما ترجمت هذه المسرحية يوماً إلى الإنجليزية ووصلت للقارئ الأمريكي فإنه لن يحس بحواجز بينه وبين شخصياتها بل سيحس بفهم هذه الشخصيات لأنه يلقاها في حياته اليومية. وهذا يدل على أن باكثير قد تعامل مع شخصياته بأمانة وصدق لا بكراهية وحقد ـ لأنه إذا فعل ذلك سيجانب الحقيقة ـ لقد ترك الشخصيات تتصرف وفق إمكاناتها وظروفها.. تركها تواجه مشاكلها بنفسها دون أن يصدر حكماً لأن ذلك من شأن المشاهد. ونهاية المسرحية تدل على موضوعية باكثير في تعامله مع اليهود كبشر أولاً لذلك رأيناهم عندما يعرفون الحق يعودون إليه حين يؤيدون الحق العربي في فلسطين.
والخلاصة في رأيي أن باكثير يريد أن يقول: إن بإمكاننا أن نؤثر على اليهود الغربيين من خلال تمكينهم من الوقوف على الحقيقة كما حدث في المسرحية وكما يحدث الآن في كثير من البلدان الغربية.
وهذا من أهم البينات على إنسانية وعالمية فن باكثير الدرامي في التوراة الضائعة.