قطار السرد في "قطار الصعيد"
قطار السرد في "قطار الصعيد"
إبراهيم القهوايجي/المغرب
إن رواية" قطار الصعيد " للروائي المصري يوسف القعيد، الصادرة بالمغرب ) * ( ، والواقعة قي 171 صفحة من القطع المتوسط ، بالرغم من كون موضوعها ، يبدو للوهلة الأولى ، وكأنه يحيل على حكاية صحافي مكلف بتغطية حدث جريمة مثيرة ، تفتقر إلى المنطق التبريري والتفسيري ، فإن سرد الراوي / الصحافي لا يخرج عن إعادة كتابة القصة ، كما وقعت في ريف مصر) البداري ( ، وإدارة حوار نصي حولها ، أو هي كتابة أسطورة فريدة في نوعها ، وفي كلتا الحالتين ينشغل السارد بالهم الإنساني عموما ، والهم المصري ، على وجه الخصوص ، بمعناه الاجتماعي والسياسي . والكاتب من خلال هذا العمل الفني يسعى إلى بلورة تصورات جديدة موازية للرواية من خلال توظيفه لخصائص فنية تشكيلية وتيماتية.
من أية زاوية تقدم رواية " قطار الصعيد " إلى القارئ؟ ومن يسرد" قطار الصعيد "؟ ومن يتكلم في هذه الرواية ؟
بقراءة متأنية لمتن هذه الرواية نكتشف أنها تعاني من مشكلة السرد شأنها شأن الرواية الحديثة. فمقولة " الإله الحاضر – الغائب لدى جورج لوكاتش ، أو الإله الخفي عند كولدمان تنطبقان على سارد " قطار الصعيد " ، لأنه موجود ، يتحدث عن كل التفاصيل ، ولكنه لا يفصح عن نفسه أو اسمه ، إنه سارد مبهم / مجهول الاسم . فأين يقف التقاط السارد لفيض الأخبار والحكايات ، المتلصصة أحيانا، على حميمية شخوص الرواية ؟ إن هذا التساؤل يحترز من عدم التمييز بين السارد باعتباره منتجا للخطاب ، والمنظور السردي بوصفه تلك المسافة بين الحدث المنقول والسارد، غير أن تجديد موقع السارد قمين بإدراك السارد لذاته.
إن راوي " قطار الصعيد " يرافق شخوص الرواية فرادى وجماعات ، يتابع خيوط حدث/ حكاية الجريمة بالصعيد المصري ، تلك الجريمة التي تتولد عنها مجموعة هائلة من القصص المرتبطة بأطرافها ، يتصل بالناس من مختلف الشرائح والمستويات الاجتماعية والثقافية ، ويشاركهم رؤاهم وتساؤلاتهم .إنه سارد محدود المعرفة رغم كونه ينتقل بصعوبة بين الأمكنة ، يتواجد فيها دون أن يحتل فيها مكانا محددا ، ويخترق حدود الأزمنة ، ما عدا الماضي ، الذي يستشفه بضبابية.
إن احتمالية شخصية السارد تستلزم افتراض معرفته القبلية لحدود سرده ، خصوصا عندما يكون السرد واقعا في زمن يختلف عن زمن الحدث .إنه سرد يقع من خلف.
إن هذا الراوي العالم بكل شيء سرعان ما يتنازل – فنيا – عن بعض سلطته ، فيتعامل مع الخبر ، ملتجئا إلى السرد مع ، الذي ترشح به الرواية ، حيث لا يدرك فيه السارد إلا ما تدركه الشخصية ، ومثاله قول السارد :" قال لي إن العسكري وعد الإسرائيلي بالبحث عن المرأة التي تعمل في السنترال . وأن يوصله بها من تحت لتحت ، وذلك قبل أن يبلغ حضرة الضابط بالأمر ويتلقى منه التعليمات التي يجب أن يتبعها. ")الرواية ص 70(..
إن السارد / الصحافي يمتطي قطار السرد الأسطوري ، الذي غدا بيته الجديد، حله وترحاله ، رحلته استحالت سؤالا / أسئلة ، والسؤال لا يجد له جوابا) انظر الرواية ص 143(، إنه ما زال يتذكر بعقل شوشه الضباب نقطة بدء هذه الرحلة / الحكاية ، وإن كان لا يعرف ، بعد ، أين تكمن محطة الوصول وهو لا يدري آخر الحكاية وعمق الخبر ، ما إن يصل إلى محطة يتصورها ختام الرحلة حتى يكتشف أن هناك برامج سردية لا بد من القيام بها ؟ ورحلات جديدة لابد من إتمامها ، وهكذا أصبح وصوله سرابا سرديا ، مع أنه لا يوجد في صحراء مترامية الأطراف ، ولا يركب جملا ، ولا يعاني عطشا حارقا ، ولكن ها هو السراب يتجلى له في كل اتجاه يسير فيه ) انظر الرواية ص 143( ، إنها جغرافيا النص الأسطورية ، الأخبار الغريبة ، الحكايات العجيبة التي تطارده ، )ص70( . وكان يخيل إليه أن ما شهده وما سمعه جزء من كابوس ثقيل يراوح بين الحقيقة والخيال ) ص100( ، لذلك كان يمنح أذنه للناس وما يقولونه / الخبر الشفوي ، ويغربل الحكايات وينقيها ) انظر الرواية ص 101( ، للوصول إلى الحكاية الأصلية في النهاية، وفي كل مرة يسرد حكاية تنشطر بدورها إلى حكايات ، تنفتح على التخييل ، الذي يتأسس انطلاقا من التساؤلات الفلسفية للسارد حول الحياة والموت والوجود والهوية، . إنه كان يجمع حبات الحكاية من أولها ، معيدا ربط خيوطها المقطوعة ، حتى يصنع منها الحكاية الأصلية ، ويعيد إنتاج الواقع فنيا ، ململما أوجاع المجتمع ، وخبايا الذات العازفة على أوركسترا الموت ، وتراتيل الدمار، ورائحة الدماء والقتل ، إنه ذلك الجرح الأسطوري الذي لم يندمل أبدا ، بل ما يزال ينز دوما. وهذا ما مكن الروائي من تفجير أسئلة الذات والتاريخ والمجتمع من خلال الحكي، وعبر استدعاء الخيال الذي يعانق هموم الناس ، وهواجس الذات ، ومفارقات القيم:"- هرب الرجال . هجرة جماعية . خرجت البنات . أموال البترول جاءت ، والمجلات ملأت الشوارع . والتلفزيونات في كل بيت. وجوازات السفر في الأيادي. والدولار ظهر في المقهى وفي الحقل ")الرواية ص43 ( ، لذلك باتت عنده الكتابة الروائية خيالات مقطوعة و شطحات تخييلية لتفجير أسئلة الوجدان والعقل الواقعيين، وهما ضمن سيرورة من الإحباطات والارتدادات المرة. وبتفجيره الحاسم والنسبي للوجود الذاتي والكينونة والهوية ، سيكتشف القارئ ، كلما انتهى من قراءة متن الرواية ، أنه أمام عقل خرائطي ، ينير أزمنته بالذاكرة ، ترفده الفلسفة ، والأسطورة ، والتصوف ، والتراث العربي بملله ونحله ، والغربي بفنونه وعمقه..
من خلال رؤية سردية تعزف على أوتار الصحافة والسياسة والمجتمع والدين والجنس..، وترصد زمن الحياة في تقلبه وكيمياء حركته ، ينحت الكاتب مصائر وأحداثا تجعل من السفر الى الصعيد من أجل اقتناص سبق صحفي ناجح ، سفرا عبر قطار السرد في دروب اليومي ، الظاهر منه ، والصامت ،الملتقط ، والمنسي ، ولعل ذلك أشد ارتباطا بعمل الصحافي / السارد ، الذي ينصت الى نبض كل شيء من حوله منذ استعداده للرحلة الى عودته ، لذلك ينجح القعيد في تحويل ا ليومي والمعتاد، الذي لا يقل أهمية عن الخيال ، من مادة صحافية للإثارة ، الى عمل روائي تخييلي بكل مواصفات الحكي الجميل الساحر ، والآسر والعميق. هكذا يتعمق الروائي في كمائن التساؤلات الهاجسة ، جامعا كل هذا في عمل روائي ينصهر فيه الخيال والمحتمل باليقين . وهو ما يدعو ، الى نعت ما يقوم به القعيد ، بسردية النفسي ، من خلال تدوينه لاستيهامات فادحة في علاقاتها المتشابكة بالذات والآخر والأشياء ، ورسم خرائط نفسية في اعتمالاتها المتراوحة بين الحيرة والبحث عن اليقين المنشطر بين الواقعي والخيالي، مع تلوينات هذه النفس الملتهبة بالارتباك والاحتمال...
وبحثا عن جغرافيا الجريمة الصعيدية المتناسلة فضاءاتها ، لا تحكي ا لرواية سوى ما تعرفه شخصياتها. إن هذا النوع من السرد يطلق عليه " سرد وجهات النظر " ، لأن الأحداث تقدم لنا من خلال الشخصيات التي تختلف زوايا رؤيتها باختلاف مواقعها ، غير أن مجموع زوايا النظر تعجز عن تفسير بعض الظواهر والأسئلة بعيدا عن تدخل الراوي :" ابتلعت أسئلتي . لقد وجدت نفسي وجها لوجه مع الموضوع الذي جئت من أجله . قررت الاحتماء بالصمت ، حتى لا تفضح كلماتي مهمتي . من الأفضل ترك الأمور تسير بحرية ، بعيدا عن أي تدخل مني ." ) الرواية ص 24 (. إن السارد لا يفوته ما يجري في )البداري( ، بل إنه يخمن ، فحسب، وقتئذ ترطن الشخصيات ببعض الكلمات غير البريئة ، وإذاك يتحول السرد الى سرد من الخارج ، لأن السارد يقتصر على وصف مظاهر الأشياء وتحركات الشخوص دون أن يتمكن من سبر أبعادها ودلالاتها العميقة والأسرار التي تخفيها أو تكون ثاوية وراء الأحداث المتتابعة. هناك نوع آخر من السرد صادر عن السارد الناقد أو المعلق يكتسح الحدث :" الصعيد لغز . الصعيد معمار قديم من العادات والتقاليد ، هناك طريقتان للتعامل معه ، إما الدخول في المعمار أو محاولة هدمه. والكل يحتويه المعمار الضخم القديم .الصعيد معبد فرعوني قديم ."﴿الرواية ص 43﴾. ثم نجد في النص السارد المجرد الذي يوجه الفعل الروائي حين يصف حركات الشخوص وسكناتهم ، وحين ينقل حواراتهم وكلامهم بشكل مباشر ، فيتم حكي القصة انطلاقا من تنوع صيغ السرد ، حسب عدد من وجهات النظر بواسطة سارد غائب عنها .
إن السرد في هذه الرواية يقدم خلفية السارد – الكاتب وإيديولوجيته المتساوقة مع أفكار وتصورات باقي الشخصيات الروائية. وهذا التعدد الصوتي واللغوي يساهم في حوارية الرواية لبلورة أطروحة الكاتب – السارد ، وتنوع سرد هذا النص يدل على انخراطه في طرح قضايا وأسئلة ملحة ، وهذا ما يغني النص دلاليا ، وهي تمظهرات سردية تمثل نظرة ا لنص للعالم .
إن هذه الرواية تتميز ببنية سردية مراوغة ، تكسبها فرادتها وجدتها ، حيث تولد ملامح فرادتها من طبيعة الحوار الخلاق ، الذي تديره مع صيغ القص / الخبر الصحفي و القص اليومي المألوف والقص الشفهي ،لأن الكون الروائي فيها يتأسس على الوتر المشدود بين الواقع المصري المعاصر ، والإنساني على وجه العموم، والميراث السردي العربي الشفهي منه على وجه الخصوص ، هذا الميراث الذي تختلط فيه التواريخ بالأساطير، ففي كل مرة يتم سرد حكاية تنشطر إلى بدورها إلى محكيات، منفتحة على تعدد الأصوات، تعدد الأشكال و زخم الفضاءات، ويتم الصدع فيها بمنطق اليومي ، لفضح الكثير من التفاصيل والجزئيات التي لا نراها لفرط قربها منا . ومن خلال تراكب هذه الحكايات ، وجدل الواقعي فيها مع الأسطوري ، تتخلق معالجة الرواية المتميزة لعدد من القضايا النصية والفكرية المهمة، وإعادة كتابتها الإستعارية لكثير من القصص اليومية
(1)، إنه سفر عوليسي لا مرافئ تريح تعبه من التيه في البحث عن إجابات مقنعة حول الذات والوجود والعالم.على سبيل الختم :
تنزاح رواية " قطار الصعيد " عن برانية الصعيد لترتد بشكل واعي إلى جوانية الذات الكاتبة ، وهنا تنتصب الكتابة كسهم يخترق دروع السالبية ، لينفذ إلى المخزون الحي ، الفاعل ، إنها كتابة تحاول العودة إلى الوراء للإنصات إلى المسكوت عنه اجتماعيا ، وتحويله إلى طريقة في إدراك لا اختزالية الآخر، وغنى معيشه ومواقفه.
الهوامش والإحالات :
* يوسف القعيد : " قطار الصعيد " : سلسلة روايات الزمن ، عدد:3 ، منشورات الزمن ، مارس 2001 ، مطبعة النجاح الجديدة ، الدار البيضاء
(1) د صبري حافظ : " الكتابة الأسطورية التكرارية والحوار مع الجذور" : العلم الثقافي ، عدد بتاريخ: 10يونيو 1995، ص :12.