وقفة مع أديبنا الراحل كمال رشيد
كمال رشيد
أمانات المجالس .. وقفة مع أديبنا الراحل كمال رشيد
إبراهيم العجلوني |
د. كمال رشيد رحمه الله |
وقفتُ في قراءة متأخرة لكتاب الصديق الراحل الدكتور كمال رشيد: «تأملات في السنة النبويّة» على بعض ما جاءَ تحت عنوان: «أمانة المجالس» من قوله، في سياق تأمله للحديث النبوي الشريف: «المجالس بالأمانة»: «والرسول صلى الله عليه وسلم يرى أن المجلس أمانة، فمن كان في مجلس فعليه أن يكون أميناً على ما سمعَ ورأى، مطلوب منه أن لا يتزيد من عنده في خير أو شرّ. ومطلوب منه أن لا ينقل إلا الخير، فلا يؤلف الروايات، ولا يضيف من عنده إلى ما رأى وما سمع، ليُحلّي الحديث ويُمتع مستمعين، بل مطلوب منه أن يترك ما رأى وما سمع في مكانه فلا ينقله الى مجلس آخر».
إن الالتزام بأمانة المجالس، كما يرى أديبنا الراحل، «يوفّر على الناس أوقاتهم، وتوتّر أعصابهم، ويصون أعراضهم، ويصرفهم إلى عالم المحبة والتراحم، كما أنه يكفهم عن الغيبة والنميمة والانشغال بالناس بدل الانشغال بأنفسهم، وهذا هو الأصل في الحياة التي أرادها الله لعباده».
ونحن إذ نتأمل هذه الوقفة مع أدب النبوة، ونرى الى الفصل الممتع الذي كتبه الدكتور كمال رشيد رحمه الله في ظلال حديث المجالس وأماناتها، فإننا نستحضر، في المقابل صورة مختلفة كل الاختلاف مما يجري في عالمنا المعاصر، من اعتداء على خصوصيات الناس وحُرُماتهم، ومن غلبة الفضائح على الأخبار التي تتناقلها وسائل الإعلام، ومن حرص حريص على تجاوز كل محظور في كشف المستور، ومن نَشْر أو إشاعة للفواحش بكل سبيل حتى إن بإمكاننا وصف عصرنا هذا بأنه «عصر الفضائح» بامتياز حيث يغدو «الخبر» سلعة يزداد ثمنها بازدياد ما تنطوي عليه من إثارة أو من ابتذال أو من مبالغة في كشف السوءات وتتبع العورات.
لقد صيرنا إلى زمن تُنصًبُ فيه الكاميرات والمايكروفونات على مفارق السبل، وعند كل منعطف وزاوية، وفي كل مخدع ورواق، حتى لم يعد للإنسان المعاصر فُرصةٌ لالتقاط أنفاسه بعيداً عن هذه «الرقابة» الشاملة، وحتى غدا هذا الإنسان مكشوف الستر، ذائع الأسرار، مُنتهك الحُرُمات..
وإذ تضيق أنفسنا بهذه الصورة الراعبة من اهتضام حرّيات الناس وخصوصياتهم. فإننا نعود الى أديبنا الراحل لنقرأ قوله: إن «الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام في هذا التوجيه النبوي يربّي المسلمين ويعلمهم وهو بهذا يحقق مصلحتين: مصلحة للفرد المسلم ومصلحة للجماعة المسلمة».
أما الفرد المسلم فإن حفظ المجالس يستُر حبوته، فإن أخطأ في ذاك المجلس أو ذُكِر بسوء، أو إن فَعَل منكراً فإن أمره لا يشيعُ في الناس، بل يبقى محصوراً في هؤلاء الذين حضروا المجلس، فلا يتعداهم إلى غيره.. وياله من تكريم للإنسان وحفظ لكرامته أن يكون خطوة في أضيق نطاق، وأن يُعطى الفرصة ليُحسّن من شأنه، ويقوّم نفسه، ويعود عن الذنب أو العيب..
.. أما الجماعة المسلمة فإن مصلحتها في أن ينحصر السوءُ في أضيق نطاق، فلا يصبح أمراً مألوفاً ومعتاداً، يتحدث عنه الناس كما يتحدثون عن الأسعار وشؤون المأكل والملبس..».
وليس خافياً هنا أن رؤية الاستاذ كمال رشيد مشتملة على معنى «تكريم الإنسان»، وعلى الإيمان بخيريّته التي فُطِرَ عليها، وعلى الثقة بقدرته على تجاوز أخطائه وعلى العودة بنفسه إلى سواء السبيل. وكل أولئك مما يغيب عن وسائل الإعلام المعاصرة التي تؤبّد لحظة الضعف في الإنسان وتريده على أن يَظَلّ في أسرِها، وتقيم ضجيجاً صاخباً حوله يحول بينه وبين أن يتدبّر أسباب ما هو فيه أو عقابيل ما ينتهي إليه..
ثمّ إن ذلك كله مُعَزّز عنده بحكمة عملية ترى أنّ «الفضول ونقل المجالس دليل قاطع على الفراغ الذي تعاني منه الأمّة، وعلى عدم وجود القضيّة الأهم التي تشغل الناس. فأمّة الجهاد لا تجد وقتاً للمجالس ولا نقل المجالس، وأمّة العمل والصناعة والتجارة ولعمل والكسب لا تجد وقتاً لغير العمل النافع، وأمّة العلم والفكر تجد في عالم الكتاب والكلمة خير أنيس وجليس».
رحم الله أديبنا الراحل كمال رشيد، وبلّغَهُ من الرضى والثواب كفاءَ ما أعطى لأمته، إنه سبحانه الذي يجزي إحساناً على الإحسان، ويُبقي ذكر الطيّبين العاملين على تتابع الحدثان.