نظرة في شعر عمر يحيى
نظرة في شعر عمر يحيى
الفداء
على الرغم مما اتّسم به شعر عمر يحيى من انشدادٍ الى الأساليب الشعرية السلفيّة يجدر بنا ألاّ نعمم هذا الحكم على شعره كله، فنحن واجدون لديه مواطن من السماحة والرشاقة والانسياب العضوي والبراعة التصويرية واللغوية والرقة والعذوبة والتغلغل اللطيف الى النفس الى جانب الجزالة والفخامة في مواقع الخطابة والحماسة ما يدهش القارئ ويطربه..!
وإذا رابك مثل قوله:
ستحمد من ليل السّرى بعد صبحه
مسيرك فاستدنِ المطيّ وأزمعِ
فعيش الفتى أن لايزال منقّلا
فيوماً على نجدٍ ويوماً بلعلعِ
فسوف تجد في شعره مواطن كثيرة تدهشك وتروعك، وخذ إليك قوله في حماة والحنين إليها:
إن غاب عن عيني وعن خاطري
ماغاب طيف المربع السّاحر
ولا هفا قلبي الى غيره
وإن طواه البعد عن ناظري
ياجيرة الوادي ألا رجعة
ترد بعض النوم للساهر
يادار ماترجمت عن لوعتي
لكنّ هذي زفرة الزافر..
أو قوله في التعبير عن ذاته الباكية:
خطبٌ أثار العندليب على ذرا الغصن الرطيب
أنّاته تدمي الفؤاد وكان يجتذب القلوب
ملك الغناء بكى فحقّ لمن تسمّع أن يذوب
ترك النسيب، ولانسيب لمن يلذ له النحيب..
فهل هناك أرق وألطف، وأسلس وأعذب من هذا الشعر الذي استحال لحناً شجياً يسري في حنايا النفس كما تسري الصهباء في الأوصال؟ فلا تعقيد ولاغرابة ولاغموض ولاكدّ ولاتكلف بل جدول ينساب من ينبوعه حراً طليقاً ليبهج النفوس ويحيي الموات ويروي العطاش ويبعث الحياة والجمال.
وإليك من وطنياته مثلاً قوله في نضال حماة:
لنا من الأرض وجه الأرض إن دفنت
جسومنا وغدونا سفر تذكار
تشوب ذراتِها منّا الدماءُ فلا
تردّ طغيانها أقدام أشرار
تبدو على الشّفق القاني محيّرةً
وتوقظ الروح في ألوان أزهار
فهل تجد أجمل من صورة أجساد الشهداء وهي تعود الى ثرى الوطن لتحميه في الحياة والممات، ودمائهم الزكية التي تسقي ذلك الثرى فتنعكس ألوانها في الشفق القاني مذكرة بالثورة الحمراء ومستحيلة الى أزاهير نضرة تبثّ الأحياء حديث الأرواح للأرواح؟
وإليك أخيراً هذه الصورة التي قلّما برع فيها إلا أمثال ابن الرومي وأبي تمام وشوقي وهو تصويره لصوت مغنيّة:
نغماتٌ من صوتك العذب
شاقته فأذكت حنينه واتقاده
كأنين الأوتار في جانب الماء
تراه يلقي إليها قياده
ينصت البحر هادئاً وهي تزداد
أنيناً والبحر ينسى ارتداده
فتنام الرياح أهدأ نومٍ
وترفّ الأمواج كالميّادة
أليست هذه الصورة متكاملة في إطار امتزاج الطبيعة بالروح الشاعرية تلك الخصيصة التي عهدناها في عيون الشعر الرومانسي الأجنبي؟
إن أمثال هذه الروائع ليست قليلة في شعر عمر، وهي أبلغ دليل يردّ على من اتهمه بالنظم، إنّه شاعر بكل ماتعني هذه الكلمة من معنى، لايقول إلا منفعلاً ولاتعوزه الخبرة بالفن الصافي ولا القدرة على اجتراحه.. ولكن جنى عليه هيامه بالقديم واستحضار هذا القديم بعد أن عفّى عليه الزمان، ولولا هذه العلّة، ولو أنه اصطفى من شعره العالي الرائع لكان لصورته الشاعرية حديث العجب العجاب.
إن عمر شاعر الأصالة العربية لاريب، وعلى الرغم من أنه عرف الفرنسية والتركية والفارسية لانجد أثراً لهذه اللغات وآدابها في شعره إلا في مواطن نادرة، واقرأ إن شئت قصائده في حماة واللواء السليب وأوصاف دفنة والحربيات وملكية الأزهار وعودة عثمان الحوراني وتأبينه، وقصيدته في المتنبي وزفرة الغريب والانجليزي في عمان والشباب الذاوي وقصيدة التكريم وغيرها تجد من الشعر أصفاه وأعلاه.
لقد جاء عمر في فترة حرجة هي فترة الصراع بين القديم والجديد ولكن ظروفه المكانية والمعاشية قضت عليه بأن ينصرف الى كسب عيشه، وأن يبقى بعيداً عن أوساط الشهرة الأدبية وعن المجالات التي تصقل الشاعر وترتقي بفنه، ولو أنه عاش في القاهرة واندمج في أوساطها الأدبية والنقدية لكان له شأن وأي شأن!