ظاهرة الفقهاء الشعراء

ظاهرة الفقهاء الشعراء

الشيخ الدكتور مصطفى السباعي نموذجاً

الشيخ الدكتور مصطفى السباعي

أحمد الجدع

ظاهرة قديمة :

ظهر الفقه والفقهاء منذ عهد رسول الله r ، فقد كان أبو بكر فقيهاً وكان عمر فقيهاً وكان عثمان فقيهاً، وكان علي فقيها ، وكان لكل واحد منهم شعر ، وكان أشعرهم علي بن أبي طالب.

وبلغ من شهرة علي بالشعر أن جمع شعره في ديوان ، وطبع عشرات المرات ، وشرح من قبل عدد من علماء الشعر .

والذي يستعرض شعر الإمام علي يجده معبراً عن تجاربه المتنوعة في حياة حافلة، كما يجد فيه أثر الفقه الذي تميز به ومارسه وزيراً للخلفاء وأميراً للمؤمنين .

ظاهرة ممتدة :

واستمرت هذه الظاهرة بعد الفقهاء الأربعة الراشدين رضوان الله عليهم ، بل إن هذه الظاهرة تنامت وأشرقت ، فظهر من بين الفقهاء شعراء عظام زاحموا الشعراء الذين قصروا عبقرياتهم على الشعر ، فلم يعرفوا إلا به :

من هؤلاء الفقهاء عروة بن أذينة ، فقد حلق بالشعر حتى عرف به ونسي الناس أنه عالم فقيه، بل إن له شعراً في الغزل تفوق به على كبار الشعراء في هذا الباب منه قوله :

إن التي زعمت فؤادكَ ملّها
بيضاء باكرها النعيم فصاغها
حجبت تحيتها فقلت لصاحبي

 

خُلِقَتْ هواك كما خُلِقْتَ هوى لها
بلباقة فأدقها وأجلّها
ما كان أكثرها لنا وأقلها

وهو بالإضافة إلى ذلك صاحب البيتين السائرين في التوكل على الله ، وهما نابعان من "شعور" عالم فقيه :

لقد علمتُ وما الإسرافُ من خُلُقي
أسعى له فيعنِّيني تَطَلُّبُهُ

 

أنَّ الذي هو رزقي سوف يأتيني
وإنْ قعدتُ أتاني لا يُعَنِّيني

وكان الإمام مالك بن أنس شاعراً ، وهو وإن لم يكن مكثراً إلا أنه قال الشعر وروي عنه، ومما قاله في مدح القناعة والتحذير من الجشع والطمع :

هي القناعة لا أرضى بها بدلاً

وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها

 

فيها النعيم وفيها راحة البدن

هل فاز منها بغير اللحد والكفن؟

وكان الإمام محمد بن إدريس الشافعي شاعراً مجيداً ، وله أشعار رائقة جمعت في ديوان لا زال متداولاً ، ومن أبياته السائرة :

ولولا الشعر بالعلماء يزري

 

لكنت اليوم أشعر من لبيد

ونحن وإن كنا لا نوافقه على موقفه هذا إلا أننا نحب أن ننبه على أثر الفقه في هذا البيت، فهو عندما أراد أن يقدم شاعراً مشهوراً ممن مضى من الشعراء قبله ، اختار الصحابي لبيد بن ربيعة ولم يختر غيره من أصحاب المعلقات كامرئ القيس وزهير والنابغة وهم باتفاق العلماء أشعر من لبيد ، ولكن الشافعي الفقيه قدم الصحابي على غيره .

ومن الفقهاء الشعراء الذين روي عنهم شعر رائق ، وذاع هذا الشعر وتناقله الأدباء من بعده الفقيه الكبير عبد الله بن المبارك ، فقد كان هذا العالم الفقيه مجاهداً لا يترك الثغور، وكان شعره ينم عن شخصيته وعن مذهبه وعن فقهه ، وله الأبيات السائرة :

وهل أفسد الدين إلا الملوك

وباعوا النفوس فلم يربحوا

لقد وقع القوم في جيفةٍ

 

وأحبار سوء ورهبانها

ولم تغل في البيع أثمانها

يبين لذي اللب إنتانها

وله الأبيات الشهيرة التي وجهها من ساحات الجهاد إلى الفقيه الفضيل بن عياض الذي لازم الحرمين متعبداً ، يقول له فيها :

يا عابدَ الحرمين لو أبصرتنا
من كانَ يخضبُ خدّهُ بدموعهِ
أو كانَ يُتعبُ خيلهُ في باطالٍ
ريحُ العبيرِ لكم ونحنُ عبيرُنا

 

لعلمتَ أنّكَ في العبادة تلعَبُ
فنحورنا بدمائنا تتخضَّبُ
فخيولُنا يومَ الصبيحَةِ تتعبُ
رهجُ السنابِكِ والغبارُ الأطيبُ

ولعبد الله بن المبارك ديوان شعر جمعه وحققه الدكتور مجاهد مصطفى بهجت .

ومن الفقهاء الشعراء : محمد بن داود الظاهري وأبي محمد علي بن حزم القرطبي ، فقد ألف كلاهما كتاباً في العلاقات العاطفية ، ألف الظاهري كتاب "الزهرة" وألف ابن حزم كتاب "طوق الحمامة" .. ولم يعبهما أحد لعملهما هذا ، ولم يقل أحد إن هذا التأليف يقدح في دينهما أو يزري بشخصيتهما !

وإذا أردنا أن نستقصي من قال الشعر من الفقهاء وأبدع فإننا سوف نخرج عن المقصود من هذا المقال ، ولكنني أحب أن أورد أبياتاً مشهورة لفقيهين كبيرين أجعلهما مسك الختام لهذه العجالة في شعر الفقهاء القدماء ، أحدهما أبو بكر بن عبد الرحمن الزهري وهو من رجال الرواية والحديث وله البيتان التاليان :

ولما نزلنا منزلاً طَلُّهُ الندى
أجدّ لنا طيبُ المكان وحُسْنُهُ

 

أنيقاً ، وبستاناً من النَّوْر حاليا
مُنىً ، فتمنينا فكنتِ الأمانيا

وهما بيتان فيهما من الموسيقى الداخلية الرائعة ما يرفعهما إلى أسمى درجات الإبداع الفني ولعل محبي الشعر ومتذوقيه لا يجهلون أبيات أبي بكر الشبلي ، وهو من أكابر الصوفية ، فقد أَتْهَمَتْ أبياته وأَنْجَدَتْ وسارت بها الركبان ، لروعتها ورقتها وجلال موسيقاها :

ظربّ ورقاء هتوفٍ في الضحى
ذكرت إلفاً وعيشاً سالفاً
فبكائي ربما أرقها
ولقد تشكو فلا أفهمها
غير أني بالجوى أعرفها

 

ذات شَجْوٍ صدحت في فنن
فبكت حزناً فهاجت حَزَني
وبكاها ربما أرقني
ولقد أشكو فلا تفهمني
وهي أيضاً بالجوى تعرفني

لقد أوردت هذه الرقائق من شعر الفقهاء حتى أبين لأولئك الذين يظنون في الفقهاء الجمود وجفاف العواطف أن هذا الظن باطل وليس له من الحقيقة ظل .

إلا أن الفقهاء الشعراء طرقوا في شعرهم أغراضاً متننوعة لا تختلف في جوهرها عن الأغراض التي طرقها غيرهم من الشعراء ، من هذه الأغراض الشعر الفلسفي ومن منا لا يذكر قصيدة ابن سينا في النفس :

هبطت إليك من المحل الأرفع
محجوبةٌ عن كلِّ مقلةِ عارفٍ

 

ورقاء ذات تعزز وتمنع
وهي التي سفرت ولم تتبرقعِ

ولهم شعر في الأخلاق والآداب والمدح والرثاء والبر والملاحم وحتى الهجاء ، أما براعتهم في الشعر التعليمي فحدث عن ذلك ولا حرج .

ظاهرة معاصرة :

وإذا انتقلنا إلى الفقهاء المعاصرين فإننا نجد الظاهرة مستمرة ، فهذا الفقيه الشيخ يوسف القرضاوي يعرف في مطلع حياته العلمية بالقرضاوي الشاعر ويؤلف مسرحية شعرية بعنوان "يوسف الصديق" ثم يصدر ديوانين يعتبران في طليعة دواوين الشعر الإسلامي المعاصر ، وهما "نفحات ولفحات" و "المسلمون قادمون".

والقرضاوي من رجال الدعوة الإسلامية المعاصرين لهذا كان شعره مستغرقاً هموم الدعوة وأدبياتها وهو مصدر خصب لما مرّ به الدعاة المعاصرون من محن وابتلاءات ولما مرّت به الأمة من مصائب ونكبات ، وهو في الوقت نفسه دعوة إلى النهوض ودعوة إلى الثقة بالنصر الموعود ...

وهذا مثال مزج فيه القرضاوي بين السخرية والجد وهو يصور إحدى المحن التي يمر بها الدعاة وهي الحرب الإعلامية التي تشن عليهم بلا هوادة ملصقة بهم شتى الصفات والنعوت التي تنفر منهم الناس وتصدهم عن دعوتهم ؛ وهذه الأبيات من أرجوزة له بعنوان "الأصوليون":

أبلغ رجال الأمن حتى يزحفوا
من الأصوليين أعداء الوطن
قد تأمن الهندوس واليهودا
إلا أولاءِ ! فأذاهم يحذر

 

فها هنا جماعة تطرفوا
أخطر من جميع عباد الوثن
وقد تقيم معهم العهودا
فهم علينا من يهود أخطرُ !

ومن الفقهاء المعاصرين الذين ملؤوا الدنيا وشغلوا الناس بعلمهم وفقههم وبراعتهم في مخاطبة الجماهير بكل مستوياتهم والمثقفين بشتى اختصاصاتهم والمستمعين بكل توجهاتهم ، بأسلوب سهل ممتنع ، يقبل عليه الناس بأفئدتهم قبل أسماعهم ، العالم الفقيه المفسر الشيخ الجليل محمد متولي الشعراوي .

هذا الفقيه الكبير عرفه الناس بعلمه وفقهه ولم يعرفوه بشعره ، وإن كان في نفسه شاعراً ، له شعر رائق يقوله في المناسبات التي تقتضيه فتبعثه ... والشعراوي على فقهه وعلمه ذو روح مرحة، يعرف هذه الروح فيه من اقتربوا منه ، ولعل أبياته في تحية أهل "دبي" إحدى الإمارات العربية المتحدة وذلك عندما كرموه فمنحوه جائزة الدعوة إلى الإسلام  تمثل هذه الروح :

شكراً دبيُّ بغير حدّ
ولكل أهلِ إدارة
أنا إن عجزت عن الردو
الله يرعاكم جميعاً
ويديم صفو ودادنا
ويزيل وحشة فرقتي
فدبي لؤلؤة الخليج
ودبي أمنية الغريب

 

ولحاكم ولنائب وولي عهد
في خدمة ، ولكل فرد
د فعند ربي خير رد
بالسلام وكل سعد
بمحبة ووفاء عهد
فيسرنا بكريم عَوْد
وريحها كأريج ورد
يعيش فيها "الويك إند" !

فأنت ترى روح المرح السائدة في القصيدة ، ويصل المرح ذروته في ختام القصيدة عندما يلمعها بالكلمة الانجليزية الشائعة "الويك إند" بمعنى عطلة نهاية الأسبوع !

ومن الفقهاء الشعراء المعاصرين الشيخ محمد المجذوب ، فله ديوانان "نار ونور" و "همسات قلب" وهما سجل حافل لأحداث الدعوة الإسلامية المعاصرة ، والشاعر بارع في عرض القضايا الإسلامية والدفاع عنها ، وهو من أكثر الشعراء الفقهاء المعاصرين التصاقاً بالفقه في شعرهم، فطابع الفقه ظاهر في قصائده وأشعاره، وسمة الإخلاص ظاهرة في كل بيت من أبياته .. وله في رثاء الشيخ الفقيه ناصر الدين الألباني قصيدة رائعة يقول في أحد مقاطعها :

فما عسى أن يقول الشعر في رجل
وأيُّ ضيرٍ إذا فردٌ تجاهله

 

يدعوه حتى عداه " ناصر الدين "
وقد فشا فضلهُ بينَ الملايينِ

ومن الفقهاء المعاصرين الذين عرفوا بالشعر الشيخ أحمد حسن الباقوري ، فقد كان شاعراً معروفاً ومسموعاً ، نشر قصائده في جرائد مصر التي عاصرها ، فأقبل عليها الناس لما فيها من روح الدعوة وروح الجهاد ما كان الناس يتلهفون عليه ويطربون لسماعه .

والباقوري صاحب النشيد المشهور الذي ردده شباب الدعوة لفترة طويله ، ولازال هذا النشيد من أروع ما قاله شعراء الدعوة من أناشيد ، يقول فيه :

يا رسول الله هل يرضيك أنا
ننفض اليوم غبار النوم عنا

 

إخوة في الله للإسلام قمنا
لا نهاب الموت .. بل نتمنى

أن يرانا الله في ساح الفداء

إلى آخر أبيات هذا النشيد المتميز ..

ومن الشعراء الفقهاء الشيخ عبد الله كنون ، فقيه المغرب ، صاحب المؤلفات العديدة ، وله شعرٌ منشورٌ في الصحف والمجلات وقد جمع بعضه في دواوين منها "إيقاعات الهموم" و "لوحات شعرية" ، ويغلب على شعره الوطنيات والجهاديات ، فقد عاش عصر الاستعمار الفرنسي للمغرب، وشاهد فظائعه وجرائمه ، ومن جرائمه التي تركت أثراً غائراً في المجتمع المغربي عمله الدائب على التفريق بين عنصري الأمة في المغرب ، العرب والبربر ، وعندما أصدر الفرنسيون الظهير البربري "القانون البربري" قال الشاعر الفقيه عبد الله كنون قصيدة جاء فيها :

ضاعت جهودُ الفاتحينا
ضاعت مآثرهم وقد
نقض العدا بنيانهم
طمسوا معالمه التي

 

وجدودُنا المستشهدينا
كانت لنا فخراً مبينا
من بعد ما راموه حينا
كنا بها مسترشدينا

إلى آخر هذه القصيدة الآسية التي يتحسر فيها الشاعر على أمجاد المسلمين في المغرب...

للفقهاء شعر رائق ، وهو يمثل فيما يمثل شخصياتهم وبيئاتهم والتاريخ الذي عاشوه، فقد كان شعر الفقهاء الأوائل الذين عاشوا عهد الجهاد المتواصل شعراً جاداً يمثل ما هم فيه من جهاد ومدافعة وحرص على نشر الدعوة ، ثم جاء الذين من بعدهم فعاشوا عهود النصر والاستقرار وقطف ثمار الجهاد وهي حياة رغدة وفكراً منطلقاً ، فقرأنا من أشعارهم ما يدل على حالهم وزمانهم، ثم دار الزمان دورته فعاد الإسلام كما بدأ ، واحتاج إلى الجهاد والنضال والمدافعة ، فعاد شعر الفقهاء عوداً على بدء ينم عن عهد جديد قديم في شعر يغلب عليه الجدّ ويغلب عليه طابع الدعوة والجهاد .

وقد مثلنا لذلك بشعر عدد من الفقهاء المعاصرين ، وهم أمثلة محدودة لشعراء فقهاء عديدين امتلأت بهم ساحة الجهاد والشعر والفقه بامتزاج فريد ، هذا الامتزاج الفريد نعرضه في أنموذج حيّ لفقيه شاعر عرفته ساحات الفقه والجهاد والشعر مجلياً في ميادينها الثلاثة ؛ إنه العالم الفقيه الشيخ الدكتور مصطفى السباعي.

مصطفى السباعي .. نموذجاً للشاعر الفقيه .

ولد الشيخ الدكتور مصطفى السباعي عام 1915 وبعد تسع سنين من مولده ألغيت الخلافة الإسلامية ودخل المسلمون في نفق مظلم ليعيشوا تحت حكم صليبي شرس يأبى عليهم أن يتقدموا وأن يستعيدوا خلافتهم التي هي مجدهم وعزهم وبقاؤهم ، فكان لزاماً على المخلصين من هذه الأمة أن يهبوا للعمل وأن يستعدوا للجهاد بكل أنواعه ...

نشأ السباعي في أسرة علم ودين ، فسار في هذا الطريق فقطع شوطه إلى أقصى مدى، فقد حصل على أعلى الدرجات العلمية بدراسات في فقه الشريعة الإسلامية لازالت حتى اليوم إحدى أهم الدراسات الفقهية المعاصرة.

وعندما شب السباعي كان الاستمعار الفرنسي يربض على صدر سوريا ، فقاد ضده المظاهرات ثم حمل السلاح ، وعندما دعا داعي الجهاد في فلسطين كان السباعي على رأس المجاهدين، فخاض غمار الحرب في أعزّ بقاع فلسطين .. في القدس دفاعاً عنها وبذلاً في سبيلها.

وعندما ذهب إلى مصر للدراسة في الأزهر الشريف استجاب لدعوة الإخوان المسلمين ، فانضم إلى صفوفهم تلميذاً ثم داعية من أشهر دعاتهم ، وعندما عاد إلى سوريا من مصر أسس مع عدد من إخوانه جماعة الإخوان المسلمين في سوريا ، وكان المراقب العام لها .

وذاعت شهرة السباعي داعية وخطيباً ، واختاره الشعب السوري نائباً في مجلس الأمة، فكان لسان الحق وداعية الله فيه .

وعندما اختير مدرساً في الجامعة السورية عمل جاهداً حتى أنشأ فيها كلية الشريعة ثم عمل على إنشاء موسوعة الفقه الإسلامي لوضع الفقه في صياغة عصرية تسهل الاستفادة منه .

هذا النشاط الدائب لم يصرف السباعي عن التأليف ، بل وضع كتباً تعتبر من أهم كتب الفقه المعاصرة منها "شرح قانون الأحوال الشخصية" و "المرأة بين الفقه والقانون" و "السنة ومكانتها في التشريع" و "المرونة والتطور في التشريع الإسلامي" إلى كتب أخرى في الدعوة والإصلاح.

مرض السباعي مرضاً لازمه لسنوات ، ولم يكن في مرضه مستمعاً إلى نصائح الأطباء بالخلود إلى الراحة وترك الخطابة والتأليف ، فاشتد عليه المرض حتى توفي عام 1964م ولم يتم الخمسين من عمره .

إن السنوات التي عاشها السباعي حافلة ، قلّ أن تجد مثلها في حياة الآخرين ، ونحن إذا تتبعنا حياة العلماء والفقهاء المشهورين وجدنا عطاءهم المميز يبدأ بعد عام الخمسين وحتى بعد الستين، أما السباعي فقد كان عطاؤه المميز في كل الميادين قبل أن يتم الخمسين ..

لقد كان السباعي عالماً فقيهاً سياسياً داعية مجاهداً مؤلفاً ... وهذه صفات قل أن جمعها رجل واحد .. وهو بهذا أحد أعمدة الصحوة الإسلامية المعاصرة ..

والسباعي الذي جمع كل هذه الصفات كان شاعراً ، انطلقت شاعريته من حسّ مرهف وعاطفة عميقة ونظرات صائبة وإخلاص شديد ..

وهو بهذا المقام في عالم الفقه والدعوة والجهاد أحد أبرز الفقهاء الشعراء المعاصرين .

يختط الإنسان طريقه في الحياة إما إلى فلاح وإما إلى ضلال ، وتبعات الفلاح باهظة وطريقه وعرة ومسالكه شائكة محفوفة بالمكاره .

وقد اختار السباعي طريق الفلاح وأعلنها في شعره عندما قال :

دعيني وشأني ليس عذري بشافع
وهل يلتقي طيران : هذا محلّق
وذاك مُسِفٌ حائمٌ فوق جيفة
وكم بين من يمشي بصيراً بدربه
وبين عَمٍ لا يهتدي لطريقه
وشتان ما بين الخليّ من الهوى
وأنّى يُداني عاقلاً ذا حصافة
دعيني ففي دنياي همٌّ ومحنة
وحلٌّ وترحال وحرب وهدنة

 

لديك ولا حالي يعنّ ببالك
تروم جناحاه سماءَ ملائك
على الأرض تدنيه لوطء سنابك
تضيء له الأقدار وعر المسالك
يُحاط بحجب مظلمات حوالك
وبين محبٍّ مدنف الجسم ناهك
جهولٌ سفيه هالكٌ وابن هالك ؟
وقطعُ طريق في المفاوز شائك
وتعليمُ أُستاذ وعزلة ناسك

وهو عندما يقارن بين دنياه المجاهدة المكابدة ودنيا الآخرين يجد لذته وسعادته في الجهاد والكفاح والدعوة والنضال :

ودنياكِ ، ما دنياك ؟ وهمٌ وخدعة
وفي يسرها ضنك وفي عزّها ضنى
إذا كنتِ عن دنياكِ ترضين إنني
فإن تسخري مني فلست بساخر
هُمُ الناس بين اثنين: صِيد تشوقهم
دعيني أعيش العمر في غربة الهوى
وفي النصح لذّاتي وفي الخير ثروتي

 

وسعيٌ حثيث نحو شتّى المهالك
تثير لأدنى الشيء أقسى المعارك
سعيد بدنيا الخير لست بِفارِك
وإن تضحكي مني فلست بضاحك
معاركُ في ساح الهدى ، وصعالك
ففي الحق محرابي وفيه مناسكي
وفي العلم محراثي وفيه سبائكي

هذا هو منهج الدعاة الذي اختاره السباعي وسار فيه ولقي الله عليه .

والرجل الناجح يكثر حاسدوه وشانئوه حتى يتمنون موته .. وماذا يكسبون من موته ، لحاهم الله!

هنا لابد لنا من لفته إلى الرجلين الحاسد والمحسود ، فالحاسد مقصر في عمله قاعد عن واجباته عبد لشهواته ، ينظر إلى المحسود نظرة الكاره لأنه لا يستطيع أن يبلغ أمجاده ولا أن يرقى إلى عليائه.. فشتان ما بين هذا وذاك .. ولقد كان السباعي محسوداً .. وكل رجل ناجح محسود ، وقديماً قال نصر بن سيار أحد القادة السادة:

إني خُلِقْتُ وحسادي ذوو عدد

 

ياذا البرية لا تُنقص لهم عددا

فكلما زاد الحساد دل ذلك على كرم المحسود وعلو قدره ورفيع منزلته ..

لقد مرض السباعي .. فشمت به حاسدوه .. وهل في المرض أو الموت حسد إلا عند مرضى النفوس والتحوت من الناس ؟

يقول عليه رضوان الله ورحمته :

ومنتظرٍ موتي ليشفي غيظه
كلانا سيلقى الله من غير ناصر
أغاظك مني شهرة ومحبة
لعمرك ما ذاك الذي قد أهابَ بي
ولكنه الإخلاص والعلم والظما
أبى المجد أن يعنو لكل مضلِّلٍ
فإن تكن الأيام أودت بصحتي
فما كنت خواراً ولا كنت يائساً

 

رويدك إن الموت أقرب موعدِ
فيحكم من منا الشقيّ ومن هدِي
من الناس أولتني قلادة سؤدد ؟
إلى دعوة الإصلاح في ظلِّ أحمد
وطول عناء الأمس واليوم والغد
تسيِّره الأهواء خبطاً بفدفد
وعاقت خطا عزمي بكل مسدَّد
ولست بثاوٍ في فراشي ومقعدي

هذا هو السحر الحلال والموقف السامي والعزم عند أولي العزم .

ثم هل يأبه محسود عظيم القدر بعيد الهمة بحاسد وضيع النوايا رويبض المقام ؟ وهل يثنيه عن عزمه في المضي نحو أهدافه السامية النبيلة ؟

سأمشي إلى الغايات مشي مكافحٍ
وأحمي لواء الحق من أن يدوسه
فمن ساءه عزمي على السير إنني
وإن يأْس أحبابي عليَّ من الردى

 

ألوذ بعزِّ الله من كل معتدِ
طغاة غَدوا حرباً على كل مرشد
إلى الله ماضٍ رغم أضغان حسِّدي
لطول السُرى فالموت في الحق مسعدي

ثم إن السباعي لا يلجأ في محنته إلا إلى الله ، ويرى الابتلاء بالمرض نعمة من الله عليه، فيشكر الله عليها صابراً محتسباً مثنياً على خالقه .

أراك جميلاً حين ترضى وتغضب
وحين تعافيني من الهم والضنى
وإن يك جسمي ملء عطفيه صحة
وإن غمرتني منك حسنى تسرني
وفي الضر والنعمى وفي المنع والعطا
أراك جميلاً في فعالك كلها
ولكن ظني فيك أنك معتقي
فيا رب هب لي منك صبراً ورحمة
ويا رب زدني عنك فهماً لمحنتي
وزدني إحساناً بما أنت أهلُه
وأنزل على قلبي الجريح سكينة

 

وحين تمني بالوصال وتعتب
وحين دمائي من جراحي تثعب
وإن تكن الأسقام تضوي وتعطب
وإن هُدَّ مني للمصائب منكب
وفي الأمن والأحزان تأتي وتذهب
فهل أنت راضٍ أم ترى أنت مغضَب؟!
وأنك تدنيني ولست تعذب
ويا رب حببني بما فيَّ تكتب
وثبت يقيني فيك فالقلب قُلَّب
وحسِّن فعالي أنت نعم المؤدِّب
وأحسن ختامي ليس لي عنك مذهب

شعر السباعي كله إيمان وكله مصابرة ، وفيه من جمال التعبير ما يضعه في مصاف الشعر الجدير بالدراسة والتأمل ، ومجموع أشعار السباعي تدل على شخصيته العظيمه ونفسه الأبية وحياته الحافلة .

وهو من الشعراء الذين رثوا أنفسهم قبل أن يرحلوا ، ورثاء النفس في الشعر العربي باب من أمتع أبواب الشعر وأصدقها عاطفة وأعمقها تأثيرا ..

والقصيدة التي رثى السباعي بها نفسه مليئة بالعاطفة ، مشحونه بالوفاء ، عابقة بالإيمان .

يقول واصفاً دهره وناسه :

وما لعينك تبكي حُرقةً وأسىً
على الأحبة تبكي أم على طللٍ
وهل من الدهر تشكو سوء عشرته
هيهات يا صاحبي آسى على زمن

 

وما لقلبك قد ضجّت به النار؟
لم يبق فيه أحباء وسمّار ؟
لم يوف عهداً ولم يهدأ له ثار ؟
ساد العبيد به واقتيد أحرار

ثم يتحدث عن موقفه هو من مغريات الدنيا وكيف اختار طريق الله دون طرائق الشيطان:

أمَتُّ في الله نفساً لا تطاوعني
وبعت في الله دنيا لا يسود بها

 

في المكرمات ، لها في الشر إضرار
حق ولا قادها في الحكم أبرار

ثم يذكر أولاده الصغار وحدبه عليهم وأسفه على فراقهم ،ثم يوكل رعايتهم إلى الله خالقهم:

وإنما حَزَني في صبية درجوا
قد كنت أرجو زماناً أن أقودهم
بالله يا صبيتي لا تهلكوا جزعاً
تركتكم في حِمى الرحمن يكلؤكم

 

غفلٍ عن الشر لم توقد لهم نار
للمكرمات فلا ظلم ولا عار
على أبيكم ، طريقُ الموت أقدار
مَن يهده الله لا توبقْه أوزار

ثم يذكر أمه وزوجه وإخوانه وأصحابه في لفتة وفاء وهو جدير بها لأنه رجل الوفاء والبر..

أفدي بنفسي أمّاً لا يفارقها
أستودعُ الله صحباً كنت أذخرهم

 

هَمٌّ وتنهار حزناً حين أنهار
للنائبات لنا أنس وأسمار

ثم يختم قصيدته بثقته بالله ودعائه في أن يلتقي كل هؤلاء معه في جنان الله :

الملتقى في جنان الخلد إن قُبلت

 

منّا صلاة وطاعات وأذكار

إذا أردنا أن نقارن هذه القصيدة العظيمة بقصيدة مالك بن الريب الشهيرة في رثاء نفسه تفوقت قصيدة السباعي لما فيها من الوفاء الذي لا يحد ، والإيمان الذي سكن القلب فاطمأن به، والموسيقى الحانية التي شاعت في أبياته كلها .

لقد عرف الشعر العربي ظاهرة الفقهاء الشعراء ، وهي ظاهرة حافلة بالشعر الجيد الجدير بأن يقرأ ويدرس ويصنّف في روائع الشعر العربي .. وقد وجدنا هذه الظاهرة ممتدة منذ فجر الإسلام حتى يومنا هذا .

وكان الفقه هو العلم الجامع لكل علماء الإسلام ، فقد كان الطبيب فقيهاً والرياضي فقيهاً والمهندس فقيهاً والمؤرخ فقيهاً .. وعندما وصل بنا قطار الحياة إلى هذا العصر وجدنا العلوم قد استقلت والتخصص قد دقّ حتى بلغ الفروع وفروع الفروع ، لهذا وجدنا الفقهاء قد اقتصروا على الفقه والأطباء قد اقتصروا على الطب والمهندسون قد اقتصروا على الهندسة . ومع هذا كله لم يترك هؤلاء وهؤلاء الشعر ، بل أضافوا إلى ظاهرة الفقهاء الشعراء ظواهر أخرى منها الأطباء الشعراء، والمهندسون الشعراء وفي كل قد ألف المؤلفون وكتب الكاتبون وصدرت الكتب.

ورحم الله الشيخ الفقيه الدكتور الشاعر مصطفى حسني السباعي رحمة واسعة وعوض المسلمين منه دعاة هداة فقهاء شعراء ...

              

* جريدة اللواء الأردنية ، العدد 1425 ، 29 جمادى الآخرة 1421هـ ، الموافق 27 أيلول 2000م .