الورطة

الورطة

صرخة ضد الديكتاتورية في سورية

بقلم: أزراج عمر

شريف الراس

عرفنا الكاتب "شريف الراس" في السابق بمقالاته الاجتماعية -السياسية النقدية ذات الطابع الساخر، تلك المقالات التي يحاول من خلالها أن يكشف عن الأسباب الحقيقية التي تكرس الأمراض الاجتماعية -السياسية في البلدان العربية على نحو يفتك بها فتكاً شرساً ويجر بالمواطنين الأبرياء إلى العيش داخل أقفاص ظروف وملابسات معقدة ومتشابكة تتسم بالقسوة وغياب الحرية، وسيادة التفاوت الطبقي، وانتشار الأمية، وممارسة الحكم عن طريق السيطرة والعنف، واللجوء إلى الاستغلال والاضطهاد النفسي والجسدي، وغيرها من السلبيات التي لا تزال سائدة ومؤثرة تأثيراً قوياً في المجتمعات العربية إلى يومنا هذا.يحاول الكاتب شريف الراس في عمله الجديد (الورطة) أن يعري نفس المشكلات ويسقط القناع عن الحكم الديكتاتوري الحالي في سورية وذلك بتوظيف عناصر السخرية، والفكاهة، والدراما، والحوار، والمنولوج، والسرد.قبل تقديم ملخص عن الأحداث المركزية في هذا العمل "الأدبي" ومناقشة الشكل الفني الذي استخدمه الكاتب، نبادر إلى القول بأن هذا "النص الأدبي" يمكن اعتباره وثيقة تدين ديكتاتورية حافظ الأسد التي تجلت في عدة مناسبات، منها إبادة آلاف من الناس في لحظات قصيرة في مدينة حماة بسورية.تبدأ أحداث "الورطة" بعودة محمود قاضي القلعة إلى بلده سورية ووصوله إلى المطار حيث قبض عليه وأُجلس في غرفة خاصة تحت حراسة شرطة الحدود، وبعد هنيهات يدخل عليه الضابط خضور ويحصل بينهما العناق والترحيب الحار، ومن خلال الحوار نعرف أن الضابط خضور كان طالباً عند محمود قاضي القلعة، وتتداعى الذكريات فيعلمنا الكاتب أن الضابط خضور كان يميز في الدراسة بكلبه الذي يصطحبه دائماً. في لحظات الترحيب والعناق يبدأ كابوس الرعب في الزوال عند محمود قاضي القلعة، ونفاجأ فيما بعد بخروج الضابط خضور على أساس أنه سيعود بعد مدة قصيرة.

ينتظر محمود قاضي القلعة طويلاً، وخلال فترة الانتظار تتداعى ذكريات محمود المتصلة بأهله وعائلته وذهابه إلى بيروت للعمل في الصحافة، حيث اكتشف أن الصحيفة التي ذهب للعمل فيها أمريكية الفلسفة والممارسة، وعلى لسان رئيس تحريرها نعلم أن المستقبل لأمريكا أي للإمبريالية وليس للتقدم والقوى المحبة للسلام في العالم. وإثر طلب محمود العمل دار نقاش بينه وبين رئيس التحرير حول علاقة الأدب والثقافة والفن بالسياسة، فقرر رئيس التحرير الفصل بينهما طالباً من محمود أن يكتب في شؤون الأدب والثقافة والفن وترك السياسة جانباً.أما موقف محمود من الاتجاه الأمريكي للمجلة فتلمسه في رفضه العمل في المجلة، غير أنه قبل بالفصل بين الأدب والثقافة والفن وبين السياسة، يعلن محمود بأنه سيعمق صلته (بالفقراء والمظلومين والمسحوقين أينما كانوا) ويصرخ:

(أظل مأخوذاً بالعروبة والإسلام والاشتراكية معاً).

تتوالى تداعيات محمود الذي يستيقظ على صفعات شرطة المطار وسبابهم وشتائمهم.. هنا يستغرب عدم عودة تلميذه القديم والضابط الحالي المقدم خضور.

يساق إلى السجن وبين الطريق والسجن يعلم محمود أن ابنه عدنان قتل بسبب انخراطه في صفوف المجاهدين الثوار المعارضين لنظام الحكم في سورية، وهكذا يكتشف سبب اعتقاله..

في السجن يلتقي محمود بأصدقاء قدامى ويقيم علاقات جديدة، ومن خلال مناقشاتهم تتعرف على المشكلات الاجتماعية والسياسية لتلك الشخصيات التي ترمز في مجموعها إلى الشعب السوري المضطهد.في السجن يرتكب الحراس العديد من الجرائم في حق المساجين.. إذ لجأوا إلى فرض الأعمال الشاقة عليهم، وأكثر من ذلك لجأوا إلى تحطيم معنوياتهم ونفسياتهم عن طريق إجبارهم المساجين الذكور على انتهاك أخواتهم، وفي حالة رفض أحدهم يُعدم فوراً كما حصل لـ (محمد وضاح الجبين) ومن بين أساليب العسف والديكتاتورية، لجوء مسؤولي السجن إلى تنفيذ الإعدام أسبوعياً في المساجين دون محاكمة.تتراكم مظاهر القهر البدني والنفسي وصور القتل إعداماً في (الورطة) إلى حد المأساة. وتنتهي (الورطة) بحدث مهم وهو مجيء (أبو نفخة) رئيس السجن إلى محمود قاضي القلعة طالباً منه أن يذهب معه، وعند الوصول إلى مقره وجد محمود البنت (رفيف) السجينة في أبشع حالة، وحينئذ أمره رئيس السجن أن يضاجعها أمامه ليتلذذ بالمنظر وينتقم لعجزه الجنسي، وقبل أن يتخذ محمود موقفاً مضاداً حلقت طائرات قتالية فوق بناية السجن وراحت تقتل بعنف وتحصد آلاف المساجين، وفي هذه اللحظات يختفي أبو نفخة نهائياً. ويغتنم محمود الفرصة ويدعو رفيف للهروب معه من بوابة السجن المفتوحة لتجاوز عالم عفن مغلق فيه جرافات تحمل جثث الشهداء بسيارات القمامة.تلك هي أبرز الأحداث في (الورطة) التي تنتهي بتفاؤل تاريخي إيجابي (هروب محمود قاضي القلعة ورفيف).إن نص الورطة يطرح في الجوهر أزمة نظام الحكم في سورية وبشاعة ديكتاتوريته وفي نفس اللحظة يقدم صورة عن بروز فعاليات حركات رفض ومقاومة في سورية (الابن عدنان المنخرط في صفوف المعارضين عملياً- محمد وضاح الجبين الذي رفض المس بقريبته في السجن وأعدم إثر ذلك - رفيف التي أدت برفضها الفيزيولوجي والنفسي لرئيس السجن أبو نفخة إلى إصابته في النهاية بعجز جنسي، كما تصور (الورطة) انتهازية بعض المنابر الإعلامية العربية التي تخدم الإمبريالية. إنه يمكن فهم بعض الشخصيات كدلالات ورموز، فالضابط خضور المتنكر لأستاذه ولجميع قيم الصداقة والإخلاص التي كانت تربطه بمحمود قاضي القلعة، ورئيس تحرير المجلة الأمريكية الاتجاه والفلسفة، وأبو نفخة وشرطة المطار الذين يستعذبون القتل والضرب والاعتداء على شرف السجينات، رموز لقطاع من المتنكرين والمنسلخين عن إنسانيتهم للفوز بالمنصب والسلطة والجاه والملذات، في حين نرى في شخصيات (عدنان الشهيد - رفيف - محمد وضاح الجبين - محمود قاضي القلعة) وغيرهم رموزاً لقطاع واسع من المناضلين والثوار الرافضين للديكتاتورية والعنف والبيروقراطية والاضطهاد والقتل، إذن فالكاتب شريف الراس يكشف من خلال هذين التيارين المتصارعين الواقع السياسي - الاجتماعي السوري المعاصر والمتميز بالديكتاتورية والظلم الاجتماعي وفي الوقت نفسه يكشف عن وجود قوى التمرد والثورة. إن (العجز الجنسي) الذي أصيب به "أبو نفخة" دلالة على العجز التاريخي للنظام الديكتاتوري للاستمرار في قيادة الحياة في القطر السوري، ثم إن خروج محمود قاضي القلعة ورفيف من السجن عن طريق الهروب له دلالة استمرار التمرد والرفض.

إن تيار الحكم وتيار التمرد والرفض في "الورطة" تميزا بالصراعية العنيفة والانتهاء بتفاؤل تاريخي إيجابي لصالح الثورة، وفي هذه الصراعية والتفاؤل التاريخي تكمن قيمة هذا العمل الأدبي أي (الورطة) التي لجأت إلى ثنائية في البناء والشكل الفني، بحيث تجد معطيات الفن الروائي التقليدي والريبورتاج واللجوء إلى تفاصيل زائدة والتفسيرات والتعليلات (التقريرية والمباشرة) تتجاوز على نحو متواز غير صراعي مع بعض تقنيات الفن الروائي الجديد (المنولوج - الديالوج - توتر الأحداث وعدم منطقيتها) إلخ.. لكن هذه الثنائية المتوازية لا تقلل من محتوى (الورطة) التي هي وثيقة إدانة صريحة وشجاعة ضد نظام (عبد الذات) الذي هو رمز الديكتاتورية والظلم والفاشية فيسورية المعاصرة.