منهج الإصلاح والتغيير عند بديع الزمان النورسي

منهج الإصلاح والتغيير 

عند بديع الزمان النورسي  

  عبير الطنطاوي

الكتاب: من سلسلة (كتب قيّمة) العدد (18) التي تصدرها (دار القلم) بدمشق، و(الدار الشامية) في بيروت، من تأليف الأستاذ عبد الله الطنطاوي وكما هو ظاهر من الاسم فقد تحدّث الكتاب عن الإمام الشيخ سعيد النورسي ومنهجه الإصلاحي التغييري عنده، للنهوض بالمجتمع الإسلامي من جديد من كبوته التي امتدّت قروناً، سبقه خلالها الغرب النصراني..

يتكوّن الكتاب من (159) صفحة من القطع الصغير، ابتدأه بمقدمة عرّفنا فيها على موضوع الكتاب ثم انتقل إلى تعريفنا بشخص الإمام بديع الزمان النورسي، والفترات الزمنية التي أمضاها في سجون تركية مختلفة، وكانت قد ازدهرت –أي السجون- في العهد الكمالي العلماني الذي حكم تركيا منذ سقوط الدولة العثمانية حتى اليوم. كما تحدّث عن بعض من كرامات الشيخ النورسي، نذكر منها رؤياه لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) في المنام وقد طلب من رسول الله أن يدعو الله له، أن يفهّمه القرآن، ويرزقه العمل به، فبشّره الرسول الكريم بذلك قائلاً له:

"سيوهب لك علم القرآن، شريطة ألاّ تسأل أحداً شيئاً".

فعاش الإمام النوُّرسيّ طوال حياته الشاقة الصعبة لا يسأل أحداً شيئاً تنفيذاً لرغبة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وغير تلك من الكرامات، ككرامة بقاء جسده بعد موته دون تحلل، وسواها من الكرامات لهذا الرجل الربّاني.

وقد قسّم المؤلف حياته إلى قسمين: مرحلة سعيد القديم وسمّاها مرحلة العمل الفردي. والتكوين الذاتي، وتنتهي عام 1926 وفيها انصرف سعيد إلى العبادة في إحدى الخرائب من جبل (أرك).

والمرحلة الثانية تبدأ من شتاء عام 1926 وهي مرحلة سعيد الجديد، وكانت مليئة بالاتهامات، والملاحقات، والمطاردات، والسجون، والمحاكمات، والمنافي.

تحدّث الأديب عن حياة النورسي الذي ولد عام (1877م) في قرية (نُوْرْس) شرقيّ الأناضول في تركيا، ثم انتقل إلى (عصر النورسي) وتحدّث عن الظلمة التي كانت سائدة في تركيا آنذاك، حيث كانت كالرجل المريض حقاً، وكيف أنّ ظهور النورسي كان شمعة في سماء تركيا.. ثم تحدّث عن (المؤثرات في تكوينه الفكري) وقسّمها المؤلف إلى: مؤثرات اجتماعية تمثلت في: أسرته الإسلامية التي كانت مثالاً للأسرة الصالحة، وقريته الصغيرة المحافظة.. والقسم الآخر: هو المؤثرات الثقافية، وهي عدّة، ملخصة في عدد من العناصر مثل:

الشيخ عبد القادر الكيلاني، الشيخ أحمد الفاروقي السرهندي، علوم اللغة، العلوم الإسلامية، الغرب وفكره المادي، أسفاره الكثيرة، والأهم من كل ذلك: القرآن الكريم.

ثم طالعنا فصل آخر بعنوان (منهجه في التعامل مع الخلافات الفكرية) وقد قام الأديب بتلخيص منهجه في ست نقاط، وبيّن لنا موقف النورسي من بعض القضايا كالتصوّف والاجتهاد وغيرهما. ثم انتقل بنا إلى فصل بعنوان: (ملامح خطته الإصلاحية والتغييرية) تحدّث فيها عن الصفات الحسنة والسيئة في نظر النورسي للقيادي الناجح، وتحدّث عن خطة الترتيب في التغيير.. ثم عرّفنا على أهداف النورسي في فصل بعنوان: (أهدافه) وهي: إنقاذ الإيمان، والقضاء على الجهل والاستبداد، وعرض لنا نظام النورسي في التغيير وتتكوّن من سبعة عناصر مثل: التدرّج في التغيير والوسطية أي عدم التعصّب أو المغالاة في التحيّز والشمولية. وكانت دعوته عالمية.. ثم فصل بعنوان (وسائله في تحقيق تلك الملامح الإصلاحية) حيث استخدم كل الوسائل المتاحة من خطب ومواعظ ومحاضرات ورسائل وغيرها الكثير من الوسائل. واختتم الطنطاوي الكتاب بفصل بعنوان (الأبعاد الفكرية والاجتماعية والسياسية لدعوته) يتلخص في أن المدّ الإسلامي المعاصر في تركيا هو نتيجة لتلك الجهود التي بذلها النورسي طوال عمره المديد.

أسلوب الكتاب:

وبين حين وآخر يطالعنا الأستاذ الطنطاوي بكتاب جديد يزيد من عدد أنصار الأدب الإسلامي المعاصر، فالساحة الأدبية الإسلامية الآن بحاجة ملحّة جداً إلى أدباء مجددين يمسكون بأقلامهم ويعرضون إسلامنا وتاريخنا ومفكرينا بأسلوب بسيط سلسل سهل ممتنع فيه الفائدة والمتعة.. كهذا الكتاب الذي هو في الأصل عبارة عن محاضرة ألقاها الطنطاوي في المركز الإسلامي التابع لجامع الشهيد الملك عبد الله في عمّان، تناول فيها شخصية عظيمة في التاريخ الإسلامي المعاصر، ولو فتحت الكتاب لما تركته حتى تصل إلى آخر ورقة فيه، للأسلوب الرائع الذي امتاز به، ولعنصر التشويق الذي لازمه منذ بدايته وحتى ختامه.. فقد كان اختياره لنظام تقسيم الفصول في عرض المعلومات اختياراً موفّقاً نحا فيه نحو الوضوح الذي يسكب المعلومات في أذن السامع وعقله وقلبه، بطريقة لا تترك مجالاً للتساؤل أو عدم الفهم.. كما أننا من خلال قراءتنا للكتاب يظهر لنا مدى سعة اطلاع المؤلف المحاضر، وغزارة معلوماته عن هذه الشخصية الفذّة، وإحاطته الشاملة بالموضوع مع أنه –كما قلنا- عبارة عن محاضرة نُشرت في كتاب.

استخدم الكاتب أسلوب الاقتباس لبعض عبارات النورسي رحمه الله منها، ولعلها من أشد العبارات التي ثارت إعجابي، قول النورسي:

"ألا فلتعلموا جيداً، أنه لو كان لي من الرؤوس بعدد ما في رأسي من شعر، وفصل كل يوم واحد منها عن جسدي، فلن أحني هذا الرأس، الذي نذرته للحقائق القرآنية، أمام الزنادقة".

لابدّ أن ننوّه بأنّ الأديب قد ذكر العديد من التشبيهات الراقية والرقيقة مثل "من أراد أن يرى الإيمان والقرآن والإسلام متمثلة في رجل يمشي على قدمين، فيما تسبح روحه في ملكوت السماوات والأرض، فلينظر إلى النورسي."

وغير ذلك من التشبيهات الجميلة.. كما استخدم عبارات غريبة بديعة الجمال كقوله: "سبق أن ذكرنا نظريته المستقبلية عن أوربا الحبلى بهذا الدين الحنيف، وسوف تلد يوماً، نراه قريباً بإذن الله وعونه، ويراه غيرنا بعيداً أو مستحيلاً" ونوّه الكاتب عن بعض المصلحين كحسن البنا والمودودي، وقال: لو أتيح لبديع الزمان هامش من الحرية كالذي أتيح للإمام البنا، والأستاذ المودودي، لكان لفكره دويّ كذلك الدويّ الذي كان لهما. رضي الله عنهم جميعاً.

عرض الكاتب مؤلفات النورسي التي جمعت في ثمانية مجلدات ضخمة هي الكلمات – المكتوبات – اللمعات – الشعاعات – إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز – المثنوي العربي النوري – الملاحق – صيقل الإسلام وكلها ترجمت إلى العربية والإنكليزية والألمانية والأردية والفارسية والكردية والفرنسية والروسية. وكان الفضل في ترجمتها إلى العربية، وإخراجها بهذا الشكل الجميل الأستاذ إحسان قاسم الصالحي فهو الذي ينهض بخدمة رسائل النور بهمّة ونشاط وإتقان وإخلاص عزَّ مثيله عند العرب.

ورسائل النور الرائعة هذه، من أجمل أدبيات الإسلاميين في العصر الحديث، وكان مؤلفها الإمام بديع الزمان النورسي يقول لزائريه الذين خفّوا للقائه بعد الإفراج عنه من السجون الأتاتوركية الظالمة الغاشمة في الخمسينيات من القرن العشرين، وهو في السابعة والسبعين من عمره، كان يقول لزائريه الذين يرغبون بزيارته.

"كل رسالة من رسائل النور تطالعونها، تستفيدون منها فوائد أفضل من مواجهتي بعشرة أضعاف".

وأخيراَ لم يبق لي إلا أن أدعو الناس إلى قراءة هذا الكتاب/ المحاضرة بإمعان، وقراءة آثار ذلك الرجل الشريف سعيد النورسي الذي قال عن نفسه في يوم من الأيام: إنه يحاط بالأنوار فقريته نورس، وأمه اسمها نوريّة، وجدّه نوري، والجامع الذي يبيت فيه نور شين.. كما أقدم تحية احترام وتقدير وإعجاب إلى الأديب عبد الله الطنطاوي الذي لم يأل جهداً في عرض تلك الشخصية بأفضل أسلوب وأحسن تقديم وأرقى عرض، وأشكره على حديثه عن دور النساء في نشر مؤلفات النورسي، وكأني ألمح من هذا العرض احترام الأديب للنساء، وعدم إهماله لدور المبدعات، فهو على خلاف البعض الذين يهملون دور المرأة ولا يتحدثون عنه – إذا تحدّثوا -إلا باقتضاب.