ست قصص من سورية وكتاب "العربي"
ست قصص من سورية وكتاب "العربي"
بقلم: محمد الحسناوي
الكتاب الحادي ،الثلاثون من سلسلة كتب مجلة (العربي) صدر بعنوان: "القصة العربية: أصوات ورؤى جديدة" ضمَّ عشرين قصة قصيرة مختارة في مسابقة (العربي) لعام 1996/1997م، عشر منها نالت جوائز. قدَّم لهذه القصص العشرين القاص المصري أبو المعاطي أبو النجا بمقدمة نقدية جادة، يستوقفنا فيها ثلاثة أمور:
أولاً: القصة القصيرة لم يحدث أن كان لها بطل، وإنما بدلاً من ذلك "مجموعة من الناس المغمورين" ص18، وهي لذلك تعبر عن حال"الجماعات المغمورة" وبطبيعة الحال لهذه "الجماعات المغمورة" قضاياها الخاصة التي قد تختلف قليلاً أو كثيراً عن قضايا الطبقات والشرائح العليا في المجتمع. ص 20.
ثانياً: إن القصة القصيرة نضجت بالفعل في أحضان المذهبين الطبيعي والواقعي.. والخطيئة التي يمكن أن يتساوى الجميع في ارتكابها هي القول بأن قوانين ومبادئ الواقع التي وصلنا إليها هي نهاية الحقائق، أو أن الواقع كان وسيبقى خالياً من المعنى أو لا معقولاً. ص 26.
ثالثاً: هاتان المقدمتان كافيتان لأن يلحظ القاص الناقد القواسم المشتركة بين عشرين قصة عربية، كتبها قصاصون عرب، لمجلة (العربي) (ست قصص من سورية، خمس من مصر، ثلاث من الأردن، اثنتان من المغرب، اثنتان من السعودية، واحدة من ليبيا، وأخرى من تونس). على الرغم من أنه تناول بالتفصيل المناسب كل قصة على حدة، مركزاً على المضمون أكثر من الشكل، وعقد مقارنات جزئية وكلية بين القصص المذكورة وقصص أخرى لكتاب عرب وأجانب. لعل أهم ملمح تشترك به القصص العشرون - لحظه أبو النجا - هو ما لحظه (فرانك أوكونور) مؤلف كتاب "الصوت المنفرد"، وهو أن لا بطل للقصة القصيرة، بل " مجموعة من الناس المغمورين" تحل محل أبطال الروايات في القصة القصيرة العربية في كل الأقطار العربية بل يطبقها على القصص القصيرة الفائزة في مسابقة (العربي).. وسوف يدهش لمدى دقة هذه القاعدة ص 81 .
هل ترك أبو النجا للقراء والنقاد مهمة جمع ملحوظاته وتحليلاته المتفرقة؟ واستنباط القواسم المشتركة؟ ومثل هذه المقدمة لا يتسع لكل شيء، أم وراء الأكمة ما وراءها؟ لن نكلف أنفسنا استدراك كل ما تجاوزه أبو النجا - ناجياً بجلده - لكننا سوف نتوقف عند القصص السورية، بصفتها من قطر عربي واحد، ثم جاءت في الترتيب الأول عددياً - وسورية ليست أكبر قطر عربي - كما جاء في مقدمة المسابقة: ثلاث منها احتلت الصدارة في القصص العشر الأولى هي على الترتيب: الأولى والرابعة والسابعة.
آخر معطيات الإحصاء التي نتوقف عندها أن القصص العشرين مختارة من ثلاثة آلاف وست مئة قصة، تقدمت للمسابقة. هكذا تكون القصص الست التي سوف نتحدث عنها. بمعنى آخر نحن أمام وثيقة أدبية تاريخية عن سورية الحديثة، والمصادر غير المباشرة في التاريخ لا تقل أهمية عن المصادر المباشرة، ولا سيما المراحل التي يكثر فيها، أو يصعب تدوينها كالمرحلة المعاصرة، فقد قيل: (المعاصرة حجاب).
فماذا تقول القصص الست عن سورية الفن وسورية الحياة؟
أول ما تقوله هذه القصص: إن القصة القصيرة فن متقدم في سورية الأدب، لا لأن الجائزة الأولى (أولاد العنزة) كانت من نصيب كاتب سوري وحسب! بل لأن نسبة القصص الفائزة، والمختارة للسوريين أكبر من أي قطر عربي آخر، حتى القطر المصري الذي هو أكبر قطر عربي، وأسبق قطر عربي في فن القصة بالذات.هذا يعني فيما يعني أن (الطبقة المتوسطة السورية) بخير.. ولقد ارتبط ظهور القصة القصيرة بشكلها الحديث والرواية في كل المجتمعات بأمرين أساسيين، أولهما ظهور الطبقة المتوسطة كتطور اجتماعي له أسبابه العديدة ص14(2).. وهذا مؤشر مهم، لأن الطبقة المتوسطة السورية التي أبدعت الكثير في سورية الحديثة، قد نالها في العقدين الأخيرين ما نالها، حتى ظن المشفق عليها أنه قد تودع منها، مع اعتذارنا من استخدام مصطلحات مستوردة (كالطبقات).
المستوى الثاني من شهادة القصص السورية أنها تعكس جوانب الحياة السورية (المأزومة)(3) في المدينة والريف، وحتى المناطق الحدودية: فأبطالها (موظف في قصة عصا اللافتة) (عجوز وفتاة صبية ريفيتان في قصة نزق الوعور) (سجين رأي في قصة بديعة) (شخصية منفصمة في قصة الآخر) (طفل في المرحلة الابتدائية في قصة أولاد العنزة) (حمار تهريب في قصة كيف يموت الحمير).
وما دام العالم الذي يؤثره كاتب القصة القصيرة من هذه الجماعات المغمورة، فإن مشكلات هذه الجماعات تكون عادة من المشكلات المزمنة، فتأتي القصة القصيرة لتصور من هذه المشكلات لحظات السقوط النهائية، أو تلك التي تسمح بتصاعد الأنين أو الاصطدام أم بحائط اليأس، أو باستبصار بارقة ضوء تراود الظلام.. وهي في كل الأحوال تصور عبقرية التعايش مع الأزمات والتعلق بالحياة برغم كل شيء. ص 21.
لكي نقترب من أزمات الحياة السورية في القصص الست نجد ثلاثة ألوان متدرجة للمواطن السوري المأزوم.
- المواطن في مواجهة مع نفسه (قصة الآخر).
- المواطن في مواجهة مواطنيه (أولاد العنزة - نزق الوعور).
- المواطن في مواجهة مع السلطة (عصا اللافتة - بديعة - كيف تموت الحمير).
هل للإحصاء دلالة ما ها هنا: قصة واحدة للمواجهة مع النفس، اثنتان مع المواطنين، ثلاث مع السلطة؟
لنقترب أكثر..
في قصة (الآخر) لمحمد توفيق صواف انفصام في شخصية البطل الذي ينقسم إلى شخصين متصارعين متحاورين، لا نسمع حوار الثاني إلا من خلال كلام الأول، أما الثاني فليس سوى الجزء الأرقى والأنقى من ذاته، الذي ظل طوال عمره يمتثل لأوامره، التي كان يعتقد دائماً أنها تقوده كما تقود مجتمعه إلى عالم أفضل، ولكنها أصبحت تقوده في ظل الظروف الراهنة في مجتمعه إلى الفقر والجوع وعالم المهمشين ص48، ولا خيار للخلاص من هذه الأزمة إلا بوضع ذلك الجزء من ذاته -وهو ضميره- في سجن اختياري ص48، "لكي يستطيع أن ينقذ مستقبله ومستقبل أسرة بكاملها من الضياع في مجتمع قررت فيه الشمس أن تعمل في خدمة الأغنياء وأصحاب النفوذ" ص48.
لنلتقط بعض ملامح الشخصية المنفية: "ثم إنني لم أتركك وحيداً تماماً، فها قد أبقيتك بجانب ما تبقى من مكتبتي التي بعت معظم كنوزها لتوفير ثمن الخبز لأطفالي.. هذه البقية من الكتب الشهية من الكتب التي لم أجد من يشتريها برغم حبك وتقديرك لها" ص145 و 146 "مقابل تركك وعدني الذين أنا ذاهب إليهم الآن أن أنسى الفقر وكل ما يذكرني به من دين وشرف وضمير وغير ذلك مما تسميه فضيلة وأخلاقاً ومبادئ "ص 145" ماذا فعلتَ لهم لكي يكرهوك إلى هذه الدرجة "ص 145" "أن أبيع لحمك رخيصاً في سوق النخاسة المعاصر الذي لم يبق شيء لم يعرض فيه للبيع ابتداءً من الجنة والنار ولفّة الأولياء، مروراً بالوطن ،الأهل ، وانتهاء بأجساد النساء والدعوات الصالحات... "ص 147" والأطرف من ذلك كله أنه يقول له أخيراً: "حرام عليك يا أخي دعني أعيش حياتي كباقي خلق الله البسطاء الذين لم يُبتلوا بمثلك "146. انظر كلمة (حرام) بعمق، هل تجد فيها مفتاحاً للفهم والسبر؟
أما في قصة (أولاد العنزة) لوليد عبده معماري فيكتشف الصبي راوي القصة أن والده ووالد صديقه محمود قد رضعا من لبن العنزة، وهما طفلان صغيران، حين خفّ اللبن في ثديي أميهما إثر غارة جوية شنها الفرنسيون لاعتقادهم أن الثوار يختبئون فيها، كما يكتشف ذلك المعنى الرائع للقرابة والوطن، فهي ليست قرابة الدم، ولكنها الجوار والحوار والمعاشرة والمصلحة.. يكتشف أن القرابة الحقيقية هي التي تجعل الذين يبتعدون عنا في الدم هم الأقرب في لحظات الألم "ص 27. هل الوحدة الوطنية في أزمة؟
في قصة (نزق الوعور) لموفق نسيب مسعود أزمة علاقات بين أبناء القرية الواحدة المنعزلة التي يعيش أهلها في حضن الوعور.. حياة تبدو فيها قسوة النشر جزءاً من قسوة الطبيعة، حيث تضيع عنزة (هيلا) وجه حمود وغنمة المختار في يوم شتائي قارس ممطر. حين تخرج هيلا المسنة وابنة المختار الصبية (خزامى) بحثاً عن العنزة والغنمة تضيعان في الوعر وظلمة السحب والمطر والليل، ويداهمهما ضبع يريد افتراسهما. في تلك اللحظة تستنفر رجال القرية لعملية البحث والإنقاذ، لكن الخوف المتبادل في الثارات الأسرية متربص بهم، على الرغم من ذلك تقول زوجة المختار: "دماؤنا نحن النساء تختلف عن دمائكم أيها الرجال، إننا نتقن زراعة الحبوب، والاعتناء بالمواشي، وتقديم الخبز والحليب والبيض لكم.." وبالفعل لا يأتي الخطر أخيراً من (الضبع)، ولا من (الثارات)، وإنما من (أنيس): "وحين أعلنت الشهوة التي ولغت في الدم سطوتها، اختطف أنيس الفتاة، وهصوها بين ذراعيه بعنف، كانت خزامى التي تحسست بأنفها رائحة شهواته المفترسة تصرخ بين ذراعيه كشاة مذبوحة -أنيس كبّر عقلك يا واطي- اخرسي أيتها الخرقاء، وإلا فعلتها بك." في فجر تلك الليلة العاصفة، وجد رجال القرية العمة (هيلا) جالسة على الصخرة الناتئة، وهي تدفن رأسها بين ذراعيها، وتحت الصخرة كان أنيس ممدداً مضمخاً بدمائه. -أين البنية يا هيلا؟ فاجأها السؤال.. -رفعت رأسها بعد صمت دام قروناً.. - ذهبت". هل ما زال التخلف في ريفنا حليفاً للبيئة القاسية تترك بصماتها، ولضباع الوعور و (ضباع) البشر تفعل فعلها؟ أين التعليم، أين الدين، أين القانون والسلطة؟!!
السلطة تستحوذ على حصة الأسد في القصص الست: ثلاث قصص دفعة واحدة، فما أشد سطوتها!
في قصة (عصا اللافتة) لمحمد إبراهيم الحاج صالح.. عرض لمأساة أحد الموظفين الصغار، انتدبه مدير أحد المصانع مع بعض زملائه لتنظيم حفل استقبال للوزير، مثل: صنع بركة ونافورة ماء، وجلب سمك صغير وكبير بيسبح فيها، فإذا الحفل مفتعل لا ضرورة له، وإذا الوزير مع وفده الرسمي مجموعة (أدوات) تتحرك صنمياً بانتظام قسري (ميكانيكي)، وإذا العمال والموظفون يرزحون تحت الشمس اللاهبة طوال الوقت بصمت القبور: "وتجلت الشمس أكبر تجلٍّ لها، فصبّت نهراً من الحرارة والهواء الساخن على مشهدنا، وأحسستُ بسراب يمور الوجوه، ويجعل البركة تتمايل... وقف الوزير خلف المكبر، وهو يترنح في عيني... اندمجت الأصوات الثلاثة.. صرخة الوزير، و(صَوْيَةُ) المكبر، وضربة الطبل، فقفزت السمكات الكبيرة عالياً في الهواء، لبثت ترمح في فضاء المشهد زمناً، ثم اندفعت كل في اتجاه، وسقطت على الإسفلت المهيأ بالحريق... نبع العرق مني غزيراً، وأحسست بدمي ينزل إلى ساقي تاركاً رأسي في هوة فارغة، لكنني ما وقعت، بل ظللت متمسكاً بعصا اللافتة غائباً في دوران السراب... "ص 88 ، 89"
باختصار كان دور السلطة تحويل الإنسان إلى أشياء فارغة لا تحسّ ولا تعقل، حتى الأسماك، الحيوانات تخرجها عن طورها وطبيعتها. ما الذي يمسك الموقف؟ العصا! أية عصا؟ عصا اللافتة.
وفي قصة (بديعة) لحسن حميد بن أحمد.... مأساة مواطن اعتقل بتهمة سياسية لم تثبت عليه، وعلى الرغم من ذلك يعاني الأمرين سنين طوالاً، على أن أشد معاناة له كانت طلب زوجته الطلاق، وهي المحبة المخلصة، لا لأن حبها قد ضعف، بل لأنها ضحت بعمرها وبكرامتها وبأموالها وحتى بعرضها من أجله، ولم تستطع إنقاذه.. من ذا الذي (افترسها)؟ إنه (السجان) الجميل الماكر، ثم اتخذت قراراً خطيراً للحفاظ على هذا الحب، بأن سلّمت أوراقه السرية ومجلاته وصحفه للسلطة من جهة، وبقرار يخصها (وحدها) لعله (الاغتيال) أو (الانتحار) أو (التوبة النصوح) من جهة ثانية: "وثِقْ بأنني لن أمنحه شيئاً ولو أمروه على الهواء.. سأظل لك وحدك، أتفهم!! وحدك. راجي حبيبي، نعناعي الجميل. اقترب اقتربْ، اقترب لكي أضمك إلى قلبي..! "ص 136".
سخر أبو المعاطي أبو النجا من تضحيتها بعرضها من أجله بقوله: "إنها من أجلها هي، وهذا -في رأيه- جعل رسالتها سلوكاً مضحكاً أكثر منه مقنعاً "ص 45".
نحن نختلف مع قراءة أبي النجا لهذه القصة في هذه المسألة، وننبّه إلى أن الناقد غفل عن (غلبة السيرة الذاتية) على القصص السورية، وفي ذلك ما فيه من احتمال الواقعية الحرفية لبعض القصص والأحداث لدى كتاب شبان مثل صاحب هذه القصة، ويؤسفنا أن يوجد في واقعنا مثل هذه الفظائع، والمخفي أعظم. إن الإنسان المأزوم الواقع في المعضلة، هو غير المتفرج أو الناقد الناظر من بعيد من خارج الساحة. وبالمناسبة لم تكن هذه القصة (قصة في رسالة) بل الرسالة جزء منها، وإن جاءت الجزء الأكبر. هناك جزئية تضيء مساحة واسعة من عتمة السلوك المستضعف لدى شابة وحيدة في مدينة كبيرة: "عرفت أنها مقطوعة من شجرة، وعرفت أني وحيد تماماً في مدينة موحشة باردة." وجزئية أخرى: "حسبوني على جماعة عبدوش وأنا بريء.. لا علاقة لي به، كان الرجل قد أعدّ قائمة بأسماء من هم في حكم الولاء له، وكان اسمي مع الأسماء، ولكنني لم أر عبدوش إلا في الصور، ولم أعرف عن نياته شيئاً، كل ما عرفته أنه أُخذ مع كثيرين، وكنت من بينهم، وقد أدركت تهمتي هذه بعد أسئلة عديدة، وبعد حفلات شرسة من الضرب المدمي المهين" ضع خطاً -إذا سمحت- تحت قوله (كثيرين).
قصة (كيف تموت الحمير) لسامي بن حسن بن ناجي.. تحكي (مأساة) حمار يستخدم على المنطقة الحدودية مع قطر عربي مجاور في عمليات تهريب الأغنام. في إحدى المرات أخفق المهربون، فانهزموا تاركين أسلابهم من الأغنام وهذا (الحمار)، الذي نشأت بينه وبين المفرزة الحدودية علاقة، لم يرض بها (المفتش)، فدرس بنفسه واستشار نفسه، وقرر تشكيل "محكمة ميدانية برئاسته هو كونه أعلى رتبة بالموجودين!" "كيف لهؤلاء أن يكون لهم حمار، وزملاؤهم بالمراكز لا يملكون حماراً" ص 175. "وبعد مداولة وجدال طويلين للمفتش مع نفسه قرر الآتي وبالإجماع من طرفه: أولاً: إدانة المتهم بانتحال شخصية حارس حدود دون تكليف رسمي بذلك، مما ينال من هيبة الحرس. ثانياً: الحكم عليه بالنفق رمياً بالرصاص لتجروئهِ على ذلك. ثالثاً: اعتبار القرار وجاهياً نافذاً وقطعياً. "ص176".
تعاطي أبي النجا مع هذه القصة مَثَل آخر للقراءة الناقصة أو غير المتأنية، إن لم نقل: أسيرة مصطلحات (إيديولوجية) مستوردة، فهو لا يرى في هذه القصة غير السخرية المبالغة من "روح الغرور والإدّعاء والشكلية، وهي عيوب تسود حياتنا في أنظمة الحكم عندنا، حتى إن قائد مجموعة صغيرة من الجنود تحرس منطقة حدودية من دخول أو خروج المهربين، تنتابه الروح السائدة في نظام حكم بلاده، في التصرف كما يتصرف الحاكم" ص 51.
الناقد اختصر مثالب هذا النظام بالغرور والإدعاء والشكلية في هذه القصة، كما اختصرها بالبيروقراطية في قصة (عصا اللافتة)، على حين كانت هناك مسخاً لإنسانية الإنسان، وتحويله إلى شيء ناقد للحس والمعنى والكرامة. لم يسأل الناقد نفسه عن دلالة (السمك) في القصة: سمك كبير وسمك صغير، سمك حي وسمك ميت. ولا توقف عند هذه الإشارات (البرقيات): "جمعنا الشبكة، وقذفنا كل (فرخ) في برميل، ولاحظت أنا أن فرخين كانا مكشوطي الجلد بين الظهر والبطن. قلت للسمّاك بروح صداقة خوفاً من انفجار غضبه: "-ما هذه القرحات؟ نفث غضبه في كلامه رغم تذللي، وصرخ بي: -أأنا من قرّحها؟ سمك النهر أكثره مقرّح الجلد "ص 86. يا ناس ما معنى قول القاص المؤرخ الأدبي: "سمك النهر أكثره مقرّح الجلد" وقوله: "أأنا من قرّحها؟ "إذن من ذا الذي قرّحها؟ من هو الذي أفسد البيئة: هواء الجص وغباره ووحله المخاطي بالنسبة للبشر ص 82" و النهر بالنسبة إلى السمك، واكتملت الصورة حين كان صوت الوزير وقرعات المكبر والطبل تدفع السمكات حتى الكبار إلى القفز خارج البركة، والانطراح على جحيم الإسفلت اللاهب. إن مأساة النظام أضخم وأكبر من (الغرور والإدعاء والشكلية). حتى نقترب أكثر من جوهر الأقاصيص والعالم الذي تصوره أو تتحدث عنه، ندعو: إلى فك الرموز والشيفرة الفنية التي تحملها، فالحمير التي تموت ليست حميراً حقيقية، بل هي المواطنون. فلنتخيل أن (حمار) التهريب، وهو مواطن بالأصل ويمتلك شارباً، بدا بوضوح أنه يستهلك الكثير من وقته للعناية به، وقد كان مشذباً حسب طريقة كلارك جبيل "ص 174". لنتخيل الحمار بطل القصة مواطناً عادياً، ولنعد قراءة القصة، لنكتشف المأساة العميقة التي تغمر المواطنين والموظفين والبلد كله. لقد غفل الناقد أو تغافل عن عدد من الإشارات المعبرة:
- هضبة قبالة نقطة حدودية للبلد المجاور (الوحدة العربية).
- أما رأي الحمار فقد أُهمل تماماً لأنه أسير حرب من جهة، ومن جهة أخرى فهو لا يعدو كونه حماراً ومن المعيب الاستئناس برأيه. (الاستبداد).
- أما طعامه (الحمار) فقد تركت له الحرية الفكرية لانتقاء ما لذّ وطاب. (حقوق إنسان).
- وحماراً يعتبر نفسه أشجع مخلوق على ظهر البسيطة.
- وقد حاول أحد الجنود الذين عينه صديقي العزيز كطبيب معالجة الجرحى (من الأغنام)، لكنه لم يفلح لظروف فنية، ففضّل كالعادة إراحتها من منظور إنساني.. (حقوق إنسان).
- حل القيد لكن الحمار لم يتحرك قيد أنملة فاتحاً منخريه بأقصى ما يستطيعه حمار في هذه الدنيا. كان يستنشق عبير بلاده، كأن هاتفاً داخلياً أخبره أن هذه آخر فرصة يقف فيها ملقياً بهمومه وراء صهوته... (حب الوطن).
- لو عبر الحمار الحدود فهو بلا صاحب أو بطاقة شخصية... نيل حق اللجوء أو المصادرة.
إن للحمار في الأب السوري والعربي لشأناً ورمزاً قديماً وحديثاً، نكتفي بالإشارة إلى كتاب (حمار الحكيم) في مصر، وإلى زاوية (حمار) في مجلة (المضحك المبكي) الساخرة السورية المحتجبة! وإلى جمعية (حمار أبي سيارة) التي كانت تضم نخبة مختارة من أعضاء المجمع العلمي العربي بدمشق وأصدقاء لهم، وإلى (هويات) مطبوعة لأعضاء جمعية (الحمير) التي كان يتداولها طلاب في جامعة دمشق في السبعينيات. في مجلة (المضحك المبكي) ترسم صورة إنسان على شكل حمار، وتنسب إليه أقوال: مثل: (صحيح أنا حمار لكنني لا أقبل أن أكون وزيراً في وزارة فلان... صحيح أنا حمار لكن ليس لي قرنان).
إذن لم تكن الصفات الإنسانية التي خلعها مؤلف (كيف تموت الحمير) على الحمار من باب الإسراف في الضحك الذي يضر بفن القصة، لأن بطله ليس (حماراً) حقيقياً، بل هو مواطن (مستحمر)! لنعد قراءة الخاتمة: "صديقي العزيز أيضاً فكّر صحيحاً أنه يصلح لأن يكون قائداً تاريخياً أو حتى رئيس دولة على الأقل، تمتلك حق النقد، لكنه في المرات القادمة لن يتردد من أجل حمار، وأنه سوف يطلق النار على أي هدف يُطلب منه. صديقي العزيز أخذ بالاعتماد على المنطق في حساباته، لا يدري صديقي العزيز لِمَ هذه الضجة، فالمقتول حمار، كباقي حمير العالم؟ حتى إنه -كما رأينا وبصفته حماراً- لا يعرف مصلحته، بل حتى لا يعرف كيف يموت؟"
هكذا تدب الحياة والفن في القصص السورية الست،، فالسلطة حولت الإنسان في قصة (عصا اللافتة) إلى تمثال حجري مرمري، وإلى حمار في قصة (كيف تموت الحمير)، وإلى وحش في قصة (نزق الوعور) ، وإلى مجنون في قصة (الآخر)، وإلى سجين رأي في قصة (بديعة).
إذا لم يعرف أبو المعاطي أبو النجا الخلفية الفنية للحمار السوري، ولم يقرأ (الأصمعيات) لأديب الشام علي الطنطاوي، ولا رواية (طاحون الشياطين) للأديب السوري شريف الراس، ولا رواية (مزرعة الحيوانات) لجورج أورول، فنحن لا نشك بحسّه الفنّي ولا بحسّ القراء جميعاً من إدراك النكتة الكبرى، المأساة في تحول المواطن الإنسان إلى حمار، إنما للشرح حدود.
(1) مترجم إلى العربية.
(2) انظر كتاب (القصة القصيرة في مصر) د. شكري عياد - معهد البحوث والدراسات العربية - 1967 / 1968م - ص 25 و 41 و 60
(3) المرجع السابق - ص 40
(4) انظر قصة أبي سيارة وقصة حماره الذي كان ينقل عليه الحجاج برغم الازدحام طوال أربعين سنة من منى إلى عرفات في معجم "تاج العروس" وفي معجم "مقاييس اللغة" مادة "سبر".