دراسة نقدية لرواية عُرس الزين
دراسة نقدية لرواية "عُرس الزين"
(1-4)
د. نهى الزيني
يشكل "التضاد" التيمة الرئيسية لرواية الطيب صالح "عُرس الزين" التي صدرت عام 1962 ، وأزعم أنها التيمة الرئيسية لسائر أعماله على رأسها رائعته الشهيرة "موسم الهجرة إلى الشمال" الصادرة عام 1966 والتي قفزت به وبالأدب السوداني من المحلية إلى العالمية وهي الرواية التي قدم من خلالها معالجة فنية عبقرية للتضاد بين الأبيض والأسود/الغرب والشرق/الشمال والجنوب ، وهو مانجد له شبيهاً في قصة "دومة ود حامد" التي حملت اسمها مجموعته الصادرة عام 1965 لتعالج ثنائية التقدم والتخلف/التراث والحداثة ، غير أنه بينما يتسبب ذلك التضاد في صراع يفضي إلى نهاية مأساوية في "موسم الهجرة إلى الشمال" وإلى صيغة توافقية في "دومة ود حامد" فإنه يكشف في "عرس الزين" عن الجمال المخبوء في أعماق الكون وداخل تلافيف النفس البشرية حتى ليبدو حفل العرس الذي تدور حوله الرواية ويُختتم به المشهد كأنه متتالية أعراس تزف عشاق الحياة إلى روضة تتلألأ أنوارها على البعد تصاحبها إيقاعات دفوف يتردد صداها بين جنبات القارئ لزمن طويل ...
والرواية تدور حول خطبة الزين لنعمة التي تنتهي بعرسهما ، وهي فكرة في غاية البساطة إلا أن ثمة مفارقة تحيط بخبر الخطبة تثير الدهشة منذ الوهلة الأولى حين يبدو الخبر بمجرد انتشاره في باكورة القرية وكأنه خبر عجيب (قالت حليمة بائعة اللبن لآمنة –وقد جاءت كعادتها قبل شروق الشمس – وهي تكيل لها لبناً بقرش :
- سمعت الخبر؟ الزين مو داير يعرس .
وكاد الوعاء يسقط من يدي آمنة ، واستغلت حليمة انشغالها بالنبأ فغشتها اللبن) وهو المشهد ذاته الذي يتكرر عند الضحى بين ناظر المدرسة الغاضب من تأخر أحد التلاميذ عن حصته حيث يبحث التلميذ عن وسيلة تنجيه من العقاب (فقال وهو يكتم ضحكته :
- الزين ماش يعقدو له بعد باكر .
وسقط حنك الناظر من الدهشة ونجا الطريفي) كما يجد شيخ علي صاحب الدكان مخرجاً من مطالبة عبد الصمد بدين ماطله فيه بأن يلقي عليه بالخبر القنبلة (- يمين قروشك حاضرات ، كدي اقعد انحكيلك حكاية عرس الزين .
- قلت عرس منو ؟
- عرس الزين .
ولم يخلص عبد الصمد دينه في ذلك اليوم)
تلك المفارقة التي صنعت غرابة الحدث تتمثل في التضاد الحاد بين شخصية الزين : الخاطب/الذكر ، وشخصية نعمة : المخطوبة/الأنثى :
* فالزين المعروف بدمامة المنظر وبالبله – عبيط القرية – وبعدم اكتمال علامات الرجولة (وكان الزين على البئر في وسط البلد يملأ أوعية النساء بالماء ويضاحكهن كعادته فتجمهر حوله الأطفال وأخذوا ينشدون "الزين عرس .. الزين عرس" فكان يرميهم بالحجارة ويجر ثوب فتاة مرة ومرة يهمز امرأة في وسطها ومرة يقرس أخرى في فخذها والأطفال يضحكون ... كان وجه الزين مستطيلاً ناتئ عظام الوجنتين والفكين وتحت العينين ، جبهته بارزة مستديرة ، عيناه صغيرتان محمرتان دائماً ، محجراهما غائران مثل كهفين في وجهه ، ولم يكن على وجهه شعر إطلاقاً ، لم تكن له حواجب ولا أجفان وقد بلغ مبلغ الرجال وليست له لحية أو شارب) بينما نعمة الفتاة الجميلة العاقلة الذكية مطمع شباب القرية (تذكر نعمة وهي طفلة أن النساء كن إذا جئن لزيارة أمها كن يجلسنها على حجورهن ويمسحن بأيديهن على شعرها الغزير المتهدل على كتفيها ويقبلنها على خدها وشفتها.. ولما كبرت ولم تعد طفلة اصبحت رؤوس النساء والرجال على السواء تلتفت إليها حين تمر بهم في الطريق ، لكنها لم تكن تأبه لجمالها، وتذكر أيضاً كيف أرغمت أباها أن يدخلها في الكُتّاب لتتعلم القرآن ، كانت الطفلة الوحيدة بين الصبيان وبعد شهر واحد تعلمت الكتابة ، وكانت تستمع إلى صبيان يكبرونها يقرأون سوراً من القرآن فتستقر في ذهنها) ...
* ويكثر وجود الزين في الوسط النسائي (وكان الزين على البئر في وسط البلد يملأ أوعية النساء بالماء ويضاحكهن كعادته) فلم يكن أهل القرية ينظرون إليه كرجل تحتجب عنه النساء وإنما كبوق دعاية يُسمح له بأن يشيد بجمال الفتيات فيلفت نظر الخاطبين إليهن (فطنت أمهات البنات إلى خطورته كبوق يدعين به لبناتهن في مجتمع محافظ تحجب فيه البنات عن الفتيان ، أصبح الزين رسولاً للحب ينقل عطره من مكان إلى مكان... فكأنه سمساراً أو دلالاً أو ساعي بريد) بينما نشأت نعمة كفتاة وحيدة بين ثلاثة إخوة ذكور ثم تعلمت بين الصبيان (كانت الطفلة الوحيدة بين الصبيان) ..
* وبينما نشأ الزين كطفل يتيم في حاجة للرعاية (وكانت أم الزين تحس أن حياتها تنحدر للغروب ، ثم إن الزين كان ابنها الوحيد ، بل كان كل ماأنجبت ، ولم يكن كبقية الناس فخافت أن تموت ولايجد من يرعاه... يخطر الزين على بالها كطفل يتيم عديم الأهل في حاجة إلى الرعاية) فإن نعمة هي إبنة الحاج ابراهيم أحد وجهاء القرية (الزين لن يتزوج امرأة من عامة الناس ، ولكنه سيتزوج نعمة بنت الحاج ابراهيم وناهيك بهذا دليلاً على كرم الأصل والفضل والجاه والحسب) وتميزت بقوة الشخصية والشعور بالمسئولية (وتذكر أيضاً كيف أرغمت أباها أن يدخلها في الكُتّاب...ونشأت نعمة طفلة وقورة محور شخصيتها الشعور بالمسئولية) ..
* وتبلغ المفارقة منتهاها والتضاد حده الأقصى حين تتحول الأنثى إلى طالب والذكر إلى مطلوب ، فالزين الذي تعود أن يعلن عن حبه لجميلات القرية (ينظر الزين بعينيه الصغيرتين كعيني الفأر القابعتين في محجرين غائرين إلى الفتاة الجميلة فيصيبه منها شئ - لعله حب ؟ وينوء قلبه الأبكم بهذا الحب فتحمله قدماه النحيلتان إلى أركان البلد يجري هاهنا وهاهنا كأنه كلبة فقدت جراءها ، ويلهج لسانه بذكر الفتاة ويصيح باسمها حيثما كان) لايقوم بأية مبادرة تجاه نعمة أجمل الجميلات (كل هذا وفي الحي فتاة واحدة لايتحدث الزين عنها ولايعبث معها ، فتاة تراقب من بعيد بعيون حلوة غاضبة ، كلما رآها مقبلة يصمت ويترك عبثه ومزاحه ، وإذا رآها من بعد فر من بين يديها وترك لها الطريق) فهي التي تراقبه وتهتم بشأنه ثم هي التي تقرر الزواج منه (المرجح أن نعمة بما فيها من عناد واستقلال في الرأي وربما بوازع الشفقة على الزين أو تحت تأثير القيام بتضحية وهو أمر منسجم مع طبيعتها قررت أن تتزوج الزين).
كما يتجسد التضاد في خلفية الحدث الرئيسي عبر مجموعة من الموتيفات الدالة التي تنقل للقارئ رسالة مفادها أن المقابلة بين الشئ ونقيضه هي االقادرة على البوح بسر ذلك الجمال والثراء في الطبيعة وفي الشخصية السودانية كلتيهما ، ومن أمثلة ذلك :
* الأرض/ السماء (أشعل محجوب سيجارة ثم رفع وجهه إلى السماء وتمعن فيها دون إحساس كأنه قطعة ارض رملية لاتصلح للزراعة وقال بفتور : الثريا طلعت ، وقت زراعة المريق) ، الضوء/ الظل (فإذا ماجوا في ضحكهم أحياناً تراقص الضوء والظل على رؤوسهم... ثم انزلق الضوء عنهما كما ينزلق الرداء الحريري الأبيض عن منكب الرجل) ، النور/ الظلام (هذه هي اللحظة التي تلمحهم فيها ، بين النور والظلام ، وكأنهم غرقى في بحر) ، الشجار/ المرح (وأحياناً يحتدون في كلامهم ، يتشاجرون ، تخرج الكلمات من أفواههم كأنما قطع من الصخر ، تتقاطع جملهم ، يتحدثون في آن واحد ، ترتفع أصواتهم ، في مثل هذه الحالات يظن الغريب عنهم أنهم غلاظ الطبع ... وبعض الناس يقولون عنهم أنهم ضحاكون كالأطفال )
* الخصوبة/ القحط (الأرض ساكنة ولكن أحشاءها تضج بماء دافق هو ماء الحياة والخصب...وأحياناً تلم بهم سنوات قحط حين تضن السماء بالمطر) الحضر/ البدو عند أطراف النيل في شمال السودان ومايرتبط به من تباين في التركيبة السكانية والعلاقات الاجتماعية (يفدون من أرض الكبابيش ودار حمر ومضاب الهواوير والمريضاب في كردفان يشح الماء في أراضيهم في بعض المواسم فيفدون على النيل بإبلهم وأغنامهم طلباً للري .. أغلبهم لايلبثون حتى تنكشف الغمة ثم يعودون من حيث أتوا ولكن بعضاً منهم كانت تستهويهم حياة الاستقرار على وادي النيل فيبقون ومن هؤلاء عرب القوز، ظل هؤلاء البدو سنوات طويلة يرابطون على طرف الأرض المزروعة يبيعون اللبن ، يرعون الغنم... لايتزاوجون مع السكان الأصليين فهم يعتبرون أنفسهم عرباً خلصاً وأهل البلد يعتبرونهم بدواً أجلافا)
* الخير/ الشر (وأضاف شيخ علي أيضاً : رحمة الله عليه ، جاب لنا الخير في البلد.... كانت الواحة دائماً شغله الشاغل وتقوم في نظره رمزاً للفساد والشر) ، الروح/ الجسد (وتختلط أصوات الراقصين وضربات الدلاليك بدقات الطار ونشيد المداحين في البيت المجاور.. وتدمع أعين الناس وبعضهم يجهش بالبكاء خاصة الذين حجوا وزاروا مكة والمدينة والأماكن التي يصفها المادح... وتختلط زغاريد النساء في حلقة المديح بزغاريد النساء في حلبة الرقص ، وأحياناً يهاجر فريق من حلبة الرقص إلى حلقة المديح ، هناك تتحرك أرجلهم ويثور حماسهم ، وهنا تدمع أعينهم ، كذلك يتحول فريق من حلقة المديح إلى حلبة الرقص ، يهاجرون من الشوق إلى الصخب)
* الصوفي/ السلفي ، فالولي (الحنين) الذي يجسد المحبة (في البلد إنسان واحد يأنس إليه الحنين ويهش له ويتحدث معه – ذلك هو الزين ، كان إذا قابله في الطريق عانقه وقبله على رأسه وكان يناديه "المبروك" ، وكان الزين أيضاً إذا رأى الحنين مقبلاً ترك عبثه وهذره وأسرع إليه وعانقه) وإمام المسجد الذي يجسد الكراهية كما يستشعرها الزين (لكن الزين في موضوع الإمام كان معسكراً قائماً بذاته ، يعامله بفظاظة ، وإذا قابله قادماً من بعيد ترك له الطريق ، ولعل الإمام كان الشخص الوحيد الذي يكرهه الزين) وكما يستشعرها أهل القرية جميعاً ، فالحنين في رأيهم ولي صالح زاهد ووديع (الحنين ولي صالح وهو لايصادق أحداً إلا إذا أحس فيه قبساً من نور... وقال الحنين بصوته الرقيق الوديع : ربنا يبارك فيكم ربنا يجعل البركة فيكم ... الحنين راجل مبروك... والحنين قلما يتحدث مع أحد من أهل البلد... كان رجلاً صالحاً منقطعاً للعبادة ، يقيم في البلد ستة أشهر في صلاة وصوم ثم يحمل إبريقه ومصلاته ويضرب مصعداً في الصحراء) بينما إمام المسجد الذي قضى عشرة سنوات في الأزهر على النقيض من ذلك تماماً (كان رجلاً ملحاحاً متزمتاً كثير الكلام ... كانوا في دخيلتهم يحتقرونه لإنه كان الوحيد بينهم الذي لايعمل عملاً واضحا... لم يكن له حقل يزرعه ولا تجارة يهتم بها ولكنه كان يعيش من تعليم الصبيان... وكان يرتبط في أذهانهم بأمور يحلو لهم أحياناً أن ينسوها : الموت والآخرة والصلاة فعلق على شخصه في أذهانهم شئ قديم كئيب مثل نسيج العنكبوت ، إذا ذكر اسمه خطر على بالهم تلقائياً موت عزيز لديهم ، أو تذكروا صلاة الفجر في عز الشتاء... لم يكن يعنيه – كما يعنيهم – أوان زراعة القمح وسبل ريه وسماده وقطعه أو حصاده ... ومن ناحية أخرى كان هو يهتم بأمور لايأبه لها إلا القليلون من البلد ، كان يتتبع الأخبار من الإذاعة والصحف ويحب أن يناقش هل ستقوم الحرب أم لا ؟ هل الروس أقوى أم الأمريكان ؟ ماذا قال نهرو وماذا قال تيتو؟.. كان يلهب ظهورهم في خطبه وكأنه ينتقم لنفسه منهم بكلام متدفق فصيح عن الحساب والعقاب والجنة والنار ومعصية الله والتوبة إليه ، كلام ينزل في حلوقهم كالسم)
* الحياة/ الموت تلك الثنائية الإبداعية الكبرى والتي عبر عنها الكاتب تعبيراً عميقاً فذاً مبهراً وذلك في المشهد الختامي حين يختفي الزين من حفل العرس ثم يجدونه واقفاً يبكي عند مقبرة الولي الحنين ، وهم في ذهابهم إلى المقبرة وإيابهم بصحبة الزين لايفقدون كلية صخب العرس وزغاريده ولايغادرون كلية صمت القبر وأحزانه وإنما يتزاوج الضدان : العرس/المقبرة في دويتو سرمدي يبدو فيه كل ضد وكأنه يكشف أسرار ضده (ساروا صامتين وراء محجوب بين القبور تتناهى بهم أصوات الغناء والزغاريد عالية واضحة ، ثم خافتة بعيدة ، كان المكان بلقعاً إلا من شجيرات السلم والسيال التي تناثرت بين المقابر وامتلأت الثغرات بين فروعها بالظلام فبدت كأنها سفن في لجة .. وقال محجوب : "الزين ، الجابك هنا شنو؟" لم يرد ولكن بكاءه اشتد حتى أصبح شهيقاً حاداً ، وقفوا وقتاً يراقبونه في حيرة ثم قال الزين في صوت متقطع يتخلله النحيب: "أبونا الحنين إن كان ما مات كان حضر العرس" ... وقام الزين وسار معهم ، وصلوا الدار الكبيرة حيث أغلب الناس فاستقبلتهم الضجة وغشيت عيونهم أول وهلة من النور الساطع المنبعث من عشرات المصابيح، كانت فطومة تغني والدلاليك تزمجر وفي الوسط فتاة ترقص وحولها دائرة عظيمة فيها عشرات الرجال يصفقون ويضربون بأرجلهم ويحمحمون بحلوقهم ، انفلت الزين وقفز قفزة عالية في الهواء فاستقر في وسط الدائرة ، ولمع ضوء المصابيح على وجهه فكان لايزال مبللاً بالدموع) ......... (يتبع) ..