عبدالحميد جودة السحار؛ المنسي العبقري

د. صلاح الدين عبدي

د. صلاح الدين عبدي

أستاذ مساعد بجامعة بوعلي سينا (ابن سينا) بهمدان

[email protected]

ولد عبد الحميد جودة السحار عام 1913في القاهرة لعائلة تعمل بالتجارة و إلتحق السحار بكلية التجارة و تخرج منها عام 1935 بجامعة فؤاد الأول و كان له عشق وحب ونهم بالأدب و مما ساهم في اثراء عقله الثقافي المتنوع جلوسه مع أبيه في مجلس أدبي كان يعقد يوماً في الأسبوع جامعاً فطاحل الفكر و الأدب من كل رياحين المعرفة. قام السحار بإصدار أول انتاج أدبي له و هو (أحمس بطل الإستقلال) عام 1943 وهو في سن الحادي و الثلاثون من عمره ثم توالت أعماله العظيمة من خلال روايات ومجموعات قصصية قصيرة أفاضت لنا أصالة هذا الأديب العريق.

هو من الادباء المنسيين في الادب العربي وهو يعاني صمت النقد و تجاهله لأعماله و يُعدُّ أعمدة الرواية العربية لكي نعطى له حقه المهضوم الذي هضم مثلما حدث لباكثير في نفس الوقت من قِبل الشيوعيون لإيمانه بالعروة الوثقي مثل باكثير إتُهم بالرجعية مماجعلت الأضواء تبتعد عنه. لكن الله سبحانه و تعالى يعوض مخلصيه بما هو أفضل من المنح البشرية فلازالت (قصص الأنبياء) هي خير مرجع لكاتب غير مُتخصص استشهد له المتخصصون بتمكنه في سرد القصص الديني و على سبيل الذكر أن أول مصدر ديني ترعرع عليه الأستاذ عمرو خالد منذ نعومة أظافره هي قصص الأنبياء للسحار و قد توج السحار براعته في هذا المجال من خلال سلسلته الرائعة (محمد رسول الله و الذين معه) مُجسداً عظمة الإسلام منذ نشوءه و ظهوره حتى الخلفاء الراشدين.                           

إن نظرة كلية في مستوی الانطباع لأعمال عبد الحميد جودة السحار في الرواية تجدها تتوزع بين الرواية الواقعية الوصفية المستوفية الشروط التي تغوص في واقع و تفاصيل الحياة الشعبية في المدينة و تقدم نماذج انسانية من مجتمع التجار و الموظفين و الحرفيين و الصعاليك غير أن السحار كان يهتم بالبعد و الحس الديني الأخلاقي في رسم شخصياته. يكتفي بوصف الملامح و السمات الخارجية دون تغلغل في النفوس و الخبايا ..وهم يهتم بالحدوته و الحبكة و يمكن اعتبار منهجه الروائي هو المنهج التقليدي في رسم الشخصية و تقديم الحدث و هو يغالي في الوصف ولم يتطور أدواته التعبيرية[1]

السحار بالنسبة للشخصيات تستخدم شخصيات حية و نشيطة ولانری بطأ في عمله من هذ الجانب فتنطلق شخصياته من الواقع الاجتماعي و يعتمد علی الواقع في بناء شخصياته.و الشخصيات الرئيسية كان تلعب بجانب الشخصيات الفرعية و هذه الشخصيات تعمل لإضاءة الشخصيات الرئيسية و لاتوجود الشخصيات المهملة.

تُُعدّ اللغة عاملاً‌ اساسياً‌ في بناء العمل الادبي إذ تنبع إهميتها من سيطرتها علی الشكل الخارجي للعمل الفني فهي ليست مجرد ناقل او مادة خام تقدم عناصرالعمل الفني بل هي المصدر الأساسي الذي يكشف العالم الداخلي  و يوحّد بينه و بين العالم الخارجي كما أن اللغة تختلف من بقية العناصرالفنة بأنها الوعاء الحامل لفكر الانسان و هي القادرة علي جعل الماضي واقعاً‌ معاشاً كما أنها تمتد بالحاضر الی رؤية مستقبلية مشحونة بالتوقعات و تمتاز كذلك بالدينامية في بنائها فتشكل تجاساً في العمل من خلال أدوارها و عليها أن تكون منسجمة مع اسلوب الكاتب في رسم شخصياته.ونلاحظ السحار يستوفي حق اللغة كل استيفاء وهو من جيل نجيب محفوظ و تتمتع روايته بلغة جميلة ولاتوجود اللغة الدارجة فيها الا ما شذ وندر.

المكان، يُعّد الارضية التي تتحرك عليها الأحداث و للمكان دورهام في العمل الفني إذ يُعّد العمود الفقري الذي يربط اجزاء‌العمل بعضها ببعض. و للمكان دلالات كثيرة ليدخل في جدلية مع الأشخاص و نفسياتهم فيكون وصف الطبيعة والمنازل والأثاث وسيلة لرسم الشخصيات وحالاتها و بذلك المكان ساهم  في تحديد طباع الشخصيات و أمزاجتهم كما يحمل ابعاداً سياسيةً واجتماعية و يحمل رؤية الكتاب ووجهه نظرالشخصيات.نتعرف من خلال الرواية علی ثلاث امكنة هي: القاهرة ، مسقط رأس حسين و زوجته و الاسكندرية محل عمله ثم الجيزة التي انتقل اليها .

ولاتفوتنا الفرصة أن نشير الی إحدی العيوب التي كثيراما تقع فيها السحار و هي لا ينضج عملها كل النضج أي توجود الحوادث المفاجأة و خارق العادة كثيراما في رواياته بين حين وآخر و دون يمهد لها المجال يدخله في صلب الرواية و هذه واحد من عوامل إعراض القراء عن اعماله علی رغم أن رواياته تتمتع بمستوی عال من الفكرة و عمقها ويستلذ القاري و يجبره علی التفكر فيما يفعله هل هذا العمل الذي ينجزه له الشرعية ام لا.

يحرص السحار كل الحرص أن يطبق الاعمال و الاخلاق القرآنية في اعماله و من حيث الحبكة من شأنه أن ينجح ولكنه في مواصلة عمله يدخله بعض اعمال و اقوال قسرا مما يضحي بعمل الرواية . فيما يلي نقرأ معا إحدی رواياته تحت عنوان « النقاب الازرق».

عالج جودة السحار عدة موضوعات منها « مسألة الاسرة» وهي موضوع من أخطر موضوعات الاجتماعي لما يحفها من مخاطر ومايعترض طريقها من عقبات و مشاكل ، تؤدي بها الی الانهيار ثم الدمار ، هذا عدا عما فيها من آداب سامية ، و حكم عالية ، و توجيهات رشيدة إلی أسس الحياة الفاضلة الكريمة و كما تقال إن الاسرة أول مدرسة للطفل و بعدها المجتمع لأن الطفل يتعلم تربيته الاولی من الاسرة ثم المجتمع.و من موضوعات أخری في هذه الرواية التميز الطبقي الذي يعاني منه المجتمع الاسلامي المسلم ولاسيما حينما كان داخل الاسرتين قربتين كل قرابة أي بين أخوين واحد منهما الثري والآخر فقير .ويشير ايضا الی بعض التقاليد المتخلفة منها هو امر خطبة طفلة من طفل و هما كانا في مهد و حينما كانا يثيبان رشدهما واحد منهما لايريد الآخرو هذا الامر ايضا يؤدي الی تقويض الاسرتين اللتين كانتا طالما علی يسر و هناء .الرواية تدور قصتها حول طفلين واحد منهما يدعي «حسين» و الطفلة تسمی « علية» التي تتمتع بكل ما ترغبه و الحال أن حسين يعاني من الفقر و الاسرتين تريدان أن تتزوج علية من حسين لأنها مخطوبة من طفولته غيرأن حسين حاليا كان يدرس في مدرسة الضباط و بعد عدة اشهر يتخرج و يعيش في مدينة غيرما هي فيه أي القاهرة ولما قرب أمرتخريج حسين تأهب ابوه لأن يطلب يد علية ابنة أخيه لأبنه ولايدري أن حسين يستخف نفسهأمام علية في كل تصرف تتصرفه علية و يعتقد أن هذا الزواج يؤدي الی تعاسة علية لأنه ينتقلها من القصر الی الكوخ و هو يحب فتاة أخری التقی بها في بيت خالته وأول لقاء كانت هدی تلبس نقابا ازرق و ذهبت في حياء و خفر وهذا هو بدء حبه لها.حسين علی رغم رفض أسرته يتزوج من هدی و ينتقل الی الاسكندرية و هنا بدء الحوادث و علية لما يصل اليها هذا الخبر يفكر بمشاركة ابنة خالتها تسمی اجلال أن تقوض اركان اسرة حسين وعز عليها أن تراها هادئة سعيدة فدفعها حقدها الی أن تسلط العددسات الكبيرة علی ماضيهالتكبرها و ليبدو  مهولاومفزعا و لهذا بدأت ترسل الرسائل الی حسين يفضح له عن ماضية زوجته و هذ الامر ادی الی ملأ المقت في جوف حسين و تثير مشاعر الغضب له و احتلت ذهنه صورة هدی و قد أسدلت علی وجهها نقابا من الرياء وفي آخر رسالة استلمها حسين لم يطق أن يصبر علی مشاعره الثائرة التي راحت تمور في اقطار نفسه فقام ليصفي مع من خدعته الحساب .

في طرف آخر كم من مرة عزمت و قررت هدی أن تخبره بما كانت في الماضي من الاخبار إذ كان عيبها أنها عرفت قبله فما كان ذلك ذنبها ساق اليها القدر رجالا لم يعرف الوفاء طريقه الی أفئدتهم و كأنما شاء أن يعوضها عن غدرهم خيرا فساقه اليها فتعلق به قلبها . اولا واخيرا أدت هذه المحاولات الشائنة الی طلاق و انفصال بعضهما عن بعض نستلذ معا من الرواية:

أقنعت طمأنينتها و استولی عليها اضطراب و بان وجهها سهوم !صار زوجها يلوح لها بالماضي و يخزها من بعيد ، و إن ذلك الوخز يحز في روحها و يزلزل الارض تحت قدميها و يضخم مخاوفها فيجعلها تنتقض إذا وجه اليها نظرة أو كلمها كلمة و هو يشيح عنها ، باتت قلقة أرقة تخشی ما ينتظرها في غدها ، كانت كالجالس علی بركان لا يدری مني يثور.

إنها علی يقين من أن زوجها بلغه شيء عنها و لكنها لا تدري ماذا بلغه ، ليته يفاتحها في هذا الموضوع لتدافع عن نفسها و تكشف له عن حبها و تنزع من صدره بذور الشك قبل أن تمد جذورها فيه.

فكرت في أن تقول لزوجها إنها لاحظت ذلك الوجوم الذي ران عليه و إنها حرزت سبب ما طرأ عليه من تبديل .إن عينيه تنطقان بالشك وحديثه يتسم بالتجريح فماذا عليه لوصارحها بما يضنيه ؟لو كشف لها نفسه لتكشف له نفسها و تستريح. كانت عازمة علی أن تقضي بكل شيء و لكنها تذكرت طبعه فأحجمت و قد لفها أسی مرير.

و راحت تفكر فيما بلغه فاهتدت إلی أن ما رفع اليه اتهامات غامضة لا يدعمها دليل. فلو أنه كان علی يقين مما بلغه لما بدا في هذا الحيرة ! و أشفقت علی نفسها من مفتريات الشانئين فسری في جوفها حزن ثقيل.

و سمعت طرقا علی الباب فقامت  في تثاقل و سارت و هي تمرر يدها علی وجهها ، و فتحت الباب فرأت أمامها علية تبتسم في انشراح و الی جوارها إجلال و علی شفتيها ابتسامتها الهازئة ، فأمتعضت و لم تحاول أن تخفی امتعاضها ، و رأت خلفها فتاة سمراء ماإن تبينتها حتی اضطربت و أحست رأسها يدور ، و فطنت إجلال الی الهزة التي اعترتها فنظرت الی علية و قد انفجرت شفتاها و التمعت عيناها ببريق كان أفصح من حديث .

وسرن الی غرفة الاستقبال ، علية هادئة و إجلال نشيطة و الفتاة السمراء تتلفت بعيون زائفه و تلاقت عيناها بعينی هدی من بصرها و لاح عليها الارتباك .و التفتت إجلال الی الفتاة و قالت:عديلة هانم .ثم التفتت الی هدی و قالت في رنة ساخرة : هدی هانم.و امتقع لون هدی ، فأحست علية راحة و قالت و هي تبتسم : أظن أنكما تقابلتما من قبل ؟ ولم تستطع هدی أن تخفی قهرها فقامت دون أن تستأذن و غادرت الغرفةو التفتت عديلة الی إجلال و قالت في غضب: قلت لي إننا سنذهب لزيارة صديقة.

فقالت إجلال و قد اتسعت عيناها و لوت شفتها في استغراب: أو ليست هدی صديقة ؟!

- لو قلت لي إننا سنذهب الی هدی ما جئت .

- ماكنت أقول لك ذلك ،كنت أريد أن تراك معنا.فقالت لها عديلة وهي ترمقها في زراية: نلت بغيتك فافرحي. و رنت ضحكة إجلال طليقة،رددتها جنبات الدارو صكت أذني هدی فكان لها وقع النارالتي تلسع فؤداها فتململت في غضب،ثم عادت وهي تحمل صينية عليها أقداح القهوة باسرة الوجه يضيق صدرها بإحساسات الحنق الشديد.

ورفعت إجلال القدح الی شفتيها ورشفت منه رشفة ، ثم قالت و هي تنظر الی علية: رأيت هذا الأسبوع في السينما رواية لطيفة ، شاب كان يعرف فتاة ،كانا يعملان معا في محل واحد و كانا في الأمسية يخرجان معا، وفي يوم قابل فتاة ثانية أحبها و تزوجها و عاش معها، و ذات ليلة قابل صديقته الأولی فاستيقظ حبه و اكتشفت أنه لم يكن يهوي غيرها ، فترك زوجته وعاد اليها.

وأطرقت علية و بان في وجهها وجد و استيقظت في جوفها احساسات الحب ، وأحست هدی غيظا و تدفقت دماؤها حارة في شرايينها ، و ساءها أن تسخر اجلال منها فراحت تجمع شتات نفسها و قالت متصنعة الهدوء :

هذه الدنيا عجيبة .لي صديقة تزوجت شابا كانت تطمع فيه أخری ، و راحت صديقتي تعيش هانئة تحسب أن غريمتها سلمت بهزيمتها.ومرت الايام و إذا بصديقتي تكشف أن زوجها قد تبدل ، انتابه قلق و حيرة ، فراحت تبحث حتی اهتدت الی علة قلقه: إن غريمتها لم تستكن للهزيمة ! تحرك حقدها و هبت غيرتها تدفعها الی تقويض سعادة منافستها لعلها تشيد علی أنقاضها سعادتها ، فراحت تنفث سمومها محاولة تلطيخ سمعة الزوجة ، فما كان من صديقي الا أن كاشفت زوجها بماضيها ، فلم يكن فيه ما يشين!كات كل جريمتها أنها خطبت لرجل قبله ثم فسخت هذه الخطبة ، فأقلع قلق الزوج و انقشعت سحائب الكدر ف ورفرف علی الزوجين الحب الصافي، و بقيت غريمتها للغيرة ذلك الغول البغيض الذي أخذ ينهش أحشاءها و يمزق قلبها.

و تجهم وجه علية و ضاق صدرها و شعرت بقلبها يدمي مقتا ف و خشيت أن تفصح عيناها خبيئة نفسها فأسبلت جفنيها أما إجلال فقد ابتسمت هازئة و قالت في سخرية :إن منافسة صديقتك ساذجة ، لعبت لعبتها و لم تكن في يدها الأوراق الرابحة.فقالت هدی في انفعال: لم يكن معها الا البغض و الحقد و الغيرة.

- هذه ادوات لاتكفي لإيقاظ زوج غارق في الخديعة ، لابد من أدوات أخری .فقالت هدی في لهفة : مثل ماذا؟

فقالت إجلال و هي ترميها بنظرة فاحصة عميقة : كان عليها أن تقوض دعوی الزوجة بأن الرجل الذي يعشقها كان خطيبها يوما ، و أن يكون في يدها برهان مادي تدفع به الی الزوج الغارق في سباته .

فقالت هدی و هي تنظر نظرات شاردة: ماأصعب الحصول علی برهان مادي .و فطنت إجلال الی اضطرابها فاعتدلت في راحة ، وقالت و ابتسامتها الهازئة علی شفتيها : ما ايسر ذلك علی من يبحث.

فقالت هدی في انفعال: والله إنها حرب دنيئة .فقالت إجلال في هدوء قاتل: الحرب حرب و الويل للمغلوب. و ارتفع بكاء طفل فهرعت هدی الی ابنها و راحت عديلة ترمقها و هي تهرول و في عينيها شجن، و طغی ضيق علية حتی إنها لم تعد تطيق أن تبقي ،كانت تشعر باختناق فالتفتت الی إجلال و قالت لها: هيا نتصرف.

وهبت واقفة يبدو الانفعال في حركاتها ، فقالت لها إجلال في هدوء : تريثي حتی تعود.

وقعدت علية و جعلت في أصابعها في انفعال لتشاغل عن النار التي راحت ترعی في جوفها ، و اقبلت هدی تضم اليها محمودا و قد اكتسی وجهها رقة ، فما أن وقعت عليها عين علية حتی أحست عقارب الغيرة تتحرك في جوفها فتململت في غضب ف و دنت من إجلال فلما وجدتها ترنو الی ابنها في تشوف قالت إمعانا في الكبد:إنه صورة حسين .

و نظرت إجلال و لاحت الهزيمة علی وجهها ، ولكنها قالت و هي تلوي شفتيها: لايشبهه كثيرا.

فقالت هدی و هي تتجه الی علية : أظن أن نظرة علية هانم أصدق. وهبت علية كمن لدغتها أفعی ، و غادرت الغرفة غاضبة ، و إجلال في أثرها ، اما عديلة فقد ذهبت الی هدی و صافحتها و ضغطت علی يدها غمغمت :آسفة ، لم أكن أدري.و انسلت من الغرفة و هي مطرقة يلوح في وجهها الأسی و الندم.

1- فصول من النقد و الأدب ، عبد الرحمن أبوعوف، ص230