تَعْليقاتٌ عَلى مُتونِ الْكُتُبِ الْعَرَبيَّةِ 79

مَنْهَجٌ فِي التَّأْليفِ بَيْنَ كُتُبِ الْعِلْمِ وَبَيْنَ طُلّابِها ، بِوَصْلِ حَياتِهِمْ بِحَياتِها

[ تَعْليقَةٌ عَلى مَتْنِ " أَسْرارُ الْبَلاغَةِ " لِعَبْدِ الْقاهِرِ الْجُرْجانيِّ ]

د. محمد جمال صقر

[email protected]

قالَ

قُلْتُ

مِنْ ذلِكَ ( قلب التشبيه ) أَنَّكَ تَقولُ فِي النُّجومِ : كَأَنَّهَا الْمَصابيحُ ، ثُمَّ تَقولُ في حالَةٍ أُخْرى فِي الْمَصابيحِ : كَأَنَّها نُجومٌ . وَمِثْلُه فِي الظُّهورِ وَالْكَثْرَةِ تَشْبيهُ الْخَدِّ بِالْوَرْدِ ، وَالْوَرْدِ بِالْخَدِّ ، وَتَشْبيهُ الرَّوْضِ الْمُنَوَّرِ بِالْوَشْيِ الْمُنَمْنَمِ وَنَحْوِ ذلِكَ ، ثُمَّ يُشَبَّهُ النَّقْشُ وَالْوَشْيُ فِي الْحُلَلِ بِأَنْوارِ الرِّياضِ .

لما عرفتُ في لسان العرب : " نَوَّرَتِ الشَّجَرَةُ ، وَأَنارَتْ أَيْضًا - أَيْ أَخْرَجَتْ نَوْرَها " ، ذاكرت أستاذنا في أن الصواب فتح الواو من " الْمُنَوَّرِ " ، فتوقف ، ثم أبى ! ولعله ذهب إلى مزاوجة اسم المفعول " الْمُنَمْنَمِ " ، باسم المفعول " الْمُنَوَّرِ " ، ولا سيما أن له وجها من حيث ينوِّر الزهرُ الروضَ !

ثم قد قال أبو الفرج الأصفهاني : " قَوْلُه ( قيس بن الخطيم ) :

كَأَنَّ الْمَصابيحَ حَوْذانُها ( من بقول الأرض )

أَرادَ : كَأَنَّ حَوْذانَهَا الْمَصابيحُ ، فَقَلَبَ ، وَالْعَرَبُ تَفْعَلُ ذلِكَ ؛ قالَ الْأَعْشى :

... كَأَنَّ الْجَمْرَ مِثْلُ تُرابِها

أَرادَ : كَأَنَّ تُرابَها مِثْلُ الْجَمْرِ " .

مِنْ لَطيفِه ( قلب التشبيه ) قَوْلُ عَليِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ :

دِمَنٌ كَأَنَّ رِياضَها يُكْسَيْنَ أَعْلامَ الْمَطارِفْ

وَكَأَنَّما غُدْرانُها فيها عُشورٌ مِنْ مَصاحِفْ

وَكَأَنَّما أَنْوارُها تَهْتَزُّ في نَكْباءَ عاصِفْ

طُرَرُ الْوَصائِفِ يَلْتَقينَ بِها إِلى طُرَرِ الْوَصائِفْ

وَكَأَنَّ لَمْعَ بُروقِها فِي الْجَوِّ أَسْيافُ الْمُثاقِفْ

الْمَقْصودُ الْبَيْتُ الْأَخيرُ ، وَلكِنَّ الْبَيْتَ إِذا قُطِعَ عَنِ الْقِطْعَةِ كانَ كَالْكَعابِ تُفْرَدُ عَنِ الْأَتْرابِ ؛ فَيَظْهَرُ فيها ذُلُّ الِاغْتِرابِ ! وَالْجَوْهَرَةُ الثَّمينَةُ مَعَ أَخَواتِها فِي الْعِقْدِ ، أَبْهى فِي الْعَيْنِ ، وَأَمْلَأُ بِالزَّيْنِ - مِنْها إِذا أُفْرِدَتْ عَنِ النَّظائِرِ ، وَبَدَتْ فَذَّةً لِلنّاظِرِ .

إذا وجدت سيدنا اسْتَلْطَفَ ، فانتظر في تعليقه قطرات العسل المصفى من البيان المصطفى !

ثم كلامه هذا وَعْيٌ للنَّصّيَّة ، لم يمض به إلى الغاية !

ثمت كان بعض أساتذتنا ممن لم يستغرقهم العلم ، يجمع مُعْجَمًا على مُعاجِم بضم الميم الأولى ، ويصر عليه ، وكنت أستحيي أن أكلمه فيه ؛ فربما ذكرت له جمعهم مطرفا على مطارف ، تنبيها على وجه الصواب ، فلا ينتبه !

وَبَيْضاءَ زَغْفٍ نَثْلَةٍ سُلَميَّةٍ لَها رَفْرَفٌ فَوْقَ الْأَناملِ مِنْ عَل

علق أستاذنا على ذلك قوله : " " بَيْضاءَ " يَعْنِي الدِّرْعَ ، وَ" زَغْفٍ " دِرْعٌ مُحْكَمَةٌ واسِعَةٌ طَويلَةٌ حَسَنَةُ السَّلاسِلِ ، وَ" نَثْلَةٍ " الدِّرْعُ السّابِغَةُ ، وَ" سُلَميَّةٍ " مَنْسوبَةٌ إِلى سُلَيْمانَ - عَلَيْهِ السَّلامُ ! - وَهُوَ صانِعُ الدُّروعِ ، وَالرَّفْرَفُ ما تَدَلّى مِنْ زَرَدِ الدِّرْعِ عَلى جَوانِبِها " ؛ فذاكرتُه في أن صانع الدروع هو داود ، لا سليمان - عليهما السلام ! - كما قال الأسود بن يعفر النهشلي ( أعشى نهشل ) :

وَدَعا بِمُحْكَمَةٍ أَمينٍ سَكُّها مِنْ نَسْجِ داودٍ أَبي سَلّام

غير أن بعض الشعراء نسبوا صناعتها إلى ابنه سليمان ، كما في قول الحطيئة :

فيهِ الرِّماحُ وَفيه كُلُّ سابِغَةٍ جَدْلاءَ مُبْهَمَةٍ مِنْ نَسْجِ سَلّام

فربما أخطؤوا ، وربما كان آثروا النسبة إلى سلمان المشهور عندهم بتسخير عفاريت الجن ، أو ربما استحسنوا إيقاع صيغة النسبة إلى سليمان ، واثقين من معرفة السامع والقارئ . قال أستاذنا : " رَأَيْتُ أَنَّ الْأَمْرَ فيها مَشْهورٌ مَعْروفٌ ؛ فَلَمْ أَشَأِ التَّطْويلَ " !

وَفِي الْجَداوِلِ أَسْيافٌ مُحادَثَةٌ وَالطَّيْرُ تَسْجَعُ أَهْزاجًا وَأَرْمالا

علق أستاذنا على ذلك قوله : " الْأَسْيافُ الْمُحادَثَةُ هِيَ الْمَصْقولَةُ ، وَالْأَهْزاجُ جَمْعُ هَزَجٍ ، وَالْأَرْمالُ جَمْعُ رَمَلٍ ، وَهُما مِنْ أَوْزانِ الشِّعْرِ وَأَوْزانِ الْغِناءِ أَيْضًا " ، ولكن أوزان الغناء هي المرادة هنا !

يُشَبَّهُ الشَّيْخُ إِذا أَفناهُ الْهَرَمُ ، وَحَناهُ الْقِدَمُ ، حَتّى يُدْخِلَ رَأْسَه في مَنْكِبَيْهِ - بِالْفَرْخِ ،كَما قالَ :

ثَلاثُ مِئينَ قَدْ مَضَيْنَ كَوامِلًا وَها أَنَا هذا أَرْتَجي مَرَّ أَرْبَع

فَأَصْبَحْتُ مِثْلَ الْفَرْخِ فِي الْعُشِّ ثاوِيًا إِذا رامَ تَطْيارًا يُقالُ لَه قَع

وَهُوَ كَثيرٌ ، ثُمَّ يُعْكَسُ ، فَيُشَبَّهُ بِالشَّيْخِ ، كَما قالَ أَبو نُواسٍ يَرْثي خَلَفًا الْأَحْمَرَ :

لَوْ كانَ حَيٌّ وائِلًا مِنَ التَّلَفْ  

لَوَأَلَتْ شَغْواءُ في أَعْلى شَعَفْ

أُمُّ فُرَيْخٍ أَحْرَزَتْه في لَجَفْ

مُزَغَّبِ الْأَلْغادِ لَمْ يَأْكُلْ بِكَفْ

كَأَنَّه مُسْتَقْعَدٌ مِنَ الْخَرَفْ

وَأَعاده ( التشبيه المقلوب ) في قَصيدَةٍ أُخْرى في مَرْثيَّتِه أَيْضًا :

لا تَئِلُ الْعُصْمُ فِي الْهِضابِ وَلا شَغْواءُ تَغْذو فَرْخَيْنِ في لَجَف

تَحْنو بِجُؤْشوشِها عَلى ضَرَمٍ كَقِعْدَةِ الْمُنْحَني مِنَ الْخَرَف

علق أستاذنا على الشعر الأول قوله : " (...) الشَّطْرُ الْأَوَّلُ مِنَ الْبَيْتِ الثّاني رَواهُ ( الراوي ) فِي الْمُعَمَّرينَ وَفي تَفْسيرِ الطَّبَريِّ وَحَماسَةِ الْبُحْتُريِّ :

وَأَصْبَحْتُ مِثْلَ النَّسْرِ طارَتْ فِراخُه

وَلا شاهِدَ فيهِ ، وَفي مُعْجَمِ الشُّعَراءِ :

فَأَصْبَحْتُ بَيْنَ الْفَخِّ فِي الْعُشِّ ثاوِيًا

وَهُوَ مُصَحَّفٌ ، وَفي أُصولِ أَسْرارِ الْبَلاغَةِ :

مِثْلَ الْفَرْجِ فِي الْعَيْنِ

وَهُوَ تَصْحيفٌ أَيْضًا ، صَوابُه ما أَثْبَتُّ ، بِدَلالَةِ كَلامِ الشَّيْخِ ، رَحِمَهُ اللّهُ " ! وكان أستاذنا - رحمه الله! - إذا قرأ نصوصًا أية نصوص كانت ، أمة وحده ؛ شهدتُه يوما وقد التقط لمحمد علي النجار محقق خصائص ابن جني ، زلة - يحلق بعلمه وفنه ، واقفا على نيف وثمانين !

ثم هذا أبو نواس يختار أن يرثي شيخه اللغوي الشاعر ، من الرجز محتوى المتون مرة ، ومن المنسرح مستعصى الإبداع مرة ، ثم لا يخلي القصيدتين من الإغراب المناسب ، هدية من جنس ولع المهداة إليه ! فقاتله الله ؛ ما أذكاه ، وما أصدق تلمذته !

ثمت قد شبهني أستاذي الدكتور أحمد درويش في حديثه بالإذاعة المصرية في أوائل تسعينيات القرن الميلادي العشرين ، عن مجموعتي الشعرية الأولى ( لبنى ) - بخلف الأحمر الذي لم يزدحم العلم والشعر في صدرٍ ، مثلما ازدحما في صدره ، ونبه على معنى تلمذتي لأستاذنا محمود محمد شاكر - رحمه الله ! - الذي لا أذكر لقب أستاذنا مطلقا إلا عنيتُه به - فمَنْ لي الآن وله ، بمثل أبي نواس ، مَنْ لنا !

مِنْ شَأْنِ الْمَدْحِ إِذا وَرَدَ عَلَى الْعاقِلِ أَنْ يَقِفَه بَيْنَ أَمْرَيْنِ يَصْعُبُ الْجَمْعُ بَيْنَهُما وَتَوْفِيَةُ حَقِّهِما : مَعْرِفَةُ حَقِّ الْمادِحِ عَلى مَا احْتَشَدَ لَه مِنْ تَزْيينِه ، وَقَصْدِه مِنْ تَفْخيمِ شَأْنِه في عُيونِ النّاسِ بِالْإِصْغاءِ إِلَيْهِ وَالِارْتِياحِ لَه ، وَالدَّلالَةِ بِالْبِشْرِ وَالطَّلاقَةِ عَلى حُسْنِ مَوْقِعِه عِنْدَه - وَمَلْكُ النَّفْسِ حَتّى لا يَغْلِبَهَا السُّرورُ عَلَيْهِ ، وَيَخْرُجَ بِها إِلَى الْعُجْبِ الْمَذْمومِ وَإِلى أَنْ يَقولَ : أَنا ، فَيَقَعَ في ضَعَةِ الْكِبْرِ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُ ، وَيَظْهَرَ عَلَيْهِ مِنْ أَمارَتِه ما يُذَمُّ لِأَجْلِه وَيُحَقَّرُ ؛ فَما كَبُرَ أَحَدٌ في نَفْسِه إِلّا غانَ الْكِبْرُ عَلى عَقْلِه ، وَفَسَخَ عُقْدَةً مِنْ حِلْمِه . وَهذا مَوْقِفٌ تَزِلُّ فيهِ الْأَقْدامُ ، بَلْ تَخِفُّ عِنْدَهُ الْحُلومُ ، حَتّى لا يَسْلَمُ مِنْ خُدَعِ النَّفْسِ هُناكُ إِلّا أَفْرادُ الرِّجالِ ، وَإِلّا مَنْ أَدامَ التَّوْفيقُ صُحْبَتَه ، وَمِنْ أَيْنَ ذلِكَ وَأَنّى !

ومهما يكن من رأيت ، فإن المدح يعجبه ، إلا أن يكون فاسد الطبع ! ألا يعجبه أن يجد الناس يعرفون فضله ! لكن الممدوحين مختلفون فيما بعد على ما ضبط سيدنا ، رضي الله عنه !

الْمِثالُ فيما جاءَ فيهِ التَّشْبيهُ مَرْدودًا فيهِ الْفَرْعُ إِلى مَوْضِعِ الْأَصْلِ ، وَالْأَصْلُ إِلى مَحَلِّ الْفَرْعِ - قَوْلُه ( القاضي التنوخي ) :

وَكَأَنَّ النُّجومَ بَيْنَ دُجاه سُنَنٌ لاحَ بَيْنَهُنَّ ابْتِداع

وَذلِكَ أَنَّ تَشْبيهَ السُّنَنِ بِالنُّجومِ تَمْثيلٌ ، وَالشَّبَهُ عَقْليٌّ ، وَكَذلِكَ تَشْبيهُ خِلافِها مِنَ الْبِدْعَةِ وَالضَّلالَةِ بِالظُّلْمَةِ . ثُمَّ إِنَّه عَكَسَ فَشَبَّهَ النُّجومَ بِالسُّنَنِ ، كَما يُفْعَلُ فيما مَضى مِنَ الْمُشاهَداتِ ، إِلّا أَنّا نَعْلَمُ أَنَّه لا يَجْري مَجْرى قَوْلِنا : كَأَنَّ النُّجومَ مَصابيحُ تارَةً ، وَكَأَنَّ الْمَصابيحَ نُجومٌ أُخْرى ، وَلا مَجْرى قَوْلِكَ : كَأَنَّ السُّيوفَ بُروقٌ تَنْعَقُّ ، وَكَأَنَّ الْبُروقَ سُيوفٌ تَنْسَلُّ مِنْ أَغْمادِها فَتَبْرُقُ ، وَنَظائِرِ ذلِكَ مِمّا مَضى ؛ وَذلِكَ أَنَّ الْوَصْفَ هُناكَ لا يَخْتَلِفُ مِنْ حَيْثُ الْجِنْسُ وَالْحَقيقَةُ ، وَتَجِدُهُ الْعَيْنُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ ، وَلَيْسَ هُوَ في هذا مُشاهَدًا مَحْسوسًا ، وَفِي الْآخَرِ مَعْقولًا مُتَصَوَّرًا بِالْقَلْبِ مُمْتَنِعًا فيهِ الْإِحْساسُ .

لكن الصواب هنا أن تؤول البدع بالنجوم لا الدجى ، لكن ترشيحه لتشبيه السنن لا البدع بالنجوم في قوله الوارد بعد ذلك :

" مُشْرِقاتٌ كَأَنَّهُنَّ حِجاجٌ يَقْطَعُ الْخَصْمَ وَالظَّلامُ انْقِطاع "

هو الذي أغرى سيدنا بما غري .