الأصل اللغوي للإبهام
الغموض / الإبهام: الدلالة والإشكال
الأصل اللغوي للإبهام والغموض بين التوحد والتشتت
د. محمد دخيسي - وجدة المغرب
قراءة في كتاب (الإبهام في شعر الحداثة- العوامل والمظاهر وآليات التأويل) لد. عبد الرحم محمد القعود.
مقدمة
مهما قيل عن الشعر، يبقى ذلك الكائن الزئبقي الذي لا يمكن أن يلبث على حال حتى يغير من عباءاته؛ ولا يخدش ذهن المتلقي إلا بذلك الفلك المشحون بالمرايا والخبايا.
سؤال يتردد على ألسن العامة كما على لسان المثقف –العربي وغيره- لماذا لا يــفهم الشعــر؟ تساؤل شغل بال الناقد العربي القديم وحيره فطرح الأمر على أبي تمام: " لم لا تقول ما لا يفهم"[1] والحديث في صلب هذا الموضوع يقودنا حتما إلى معرفة الأجواء المحيطة بهذا التغير المفاجئ في مفهوم الشعر العربي. والمراد من هذا التحول هو الوصول إلى ذروة التمثل التأثري القائم بين المبدع والمتلقي. محاولة كهذه أساسها التناغم الحاصل بين الطرفين بغية الاشتراك في بناء الأفق المقصود أو"أفق التوقعات" كما سطرته نظرية التلقي[2] لذا فلا غرابة أن ينشأ النص الشعري القابع في أعماق الذات، الباحث عن الإلهام الموازي الذي يخلقه القارئ.
لن نتيه في هذا الحيز في متاهة الأبعاد التي لا توصل إلى المبتغى بقدر ما نحمل هم البحث عن مضامين الإبهام- أو الغموض ….
في معرض التساؤل حول هذه المفاهيم جاء مؤلف " الإبهام في شعر الحداثة : العوامل والمظاهر وآليات التأويل" للدكتور عبد الرحمن محمد القعود" ليتوج سلسلة الأبحاث المتناثرة في هذا المجال.
والسبيل إلى إيجاد الصيغة الملائمة لحل الأزمة الدلالية التي شغلت بال المهتم وغير المهتم، فالمعنى غير منثور يعرفه العام والخاص كما شاع مع النقد العربي القديم خاصة مع الجاحظ... وإنما هو اللفظ الحامل للدلالات المتعددة التي يمكن أن توجد في اللفظ مباشرة كما يمكن أن نتربص بها خارجه من خلال العلاقات الأفقية والعمودية التي يشكلها التعالق الدائم بين الإبداع ، المؤلف ،والمتلقي..
إن الحديث عن هذه العلاقات يجرنا حتما إلى القول إن اللفظ مهما تماهى مع القول يبقى ذلك المجال الخصب الذي يستطيع المبدع من خلاله أن ينشئ النص – الأدبي كما هو الحال في مجالنا- لذلك، لا بد من تخطي حاجز اللفظ للوصول إلى المبتغى والمقصود منه، أو ما يسمى المعنى الحقيقي من وراء الألفاظ وتراتباتها – السياق- داخل النص. والنص كما معروف في الخطابات النقدية المختلفة يقوم على السياق الذي بدوره يقوم كما قال محمد مفتاح: " بدوره، وكذلك مدار الحديث .. بدور كبير في تحديد الشيء وترتيب مقوماته الذاتية والعرضية، أو في إسناد رسوم إليه، لأنه بدون سياق سينحصر التحليل في المفردات أو المصطلحات ، أو المفاهيم الجزئية المنفصلة، أو يضل في متاهة المعرفة الخلفية التي لا يدري آخرها من أولها."[3]
من الأكيد أن التجليات التي يقوم عليها اللفظ لا تنحصر في المستوى السطحي الذي يستطيع تعرفه الخاص والعام، وهذا حال الشعر كما حدده أبو تمام في مقولته، لأن حقيقة قوله لا تدل أنه يقول شيئا بعيدا وإنما المتلقي يجب أن يكون على دراية متبصرة يستطيع من خلالها قراءة الصعب وتحليل المشتبه فيه. وكثير هي الأقوال التي عنيت بهذا المجال، لذلك، فنحن من زاوية تعريفية أولا وأخرى استكشافية تحليلية سنحاول تخطي دور الزمان والمكان للبحث في إشكالية الغموض أو الإبهام في الشعر...
1- الإبهام – الغموض: المصدر والإشكال
حين نبحث في الأصول الدلالية للمصطلحين نقف عند مجموعة من الإشكالات التي جعلتنا لا نستسيغ المفهوم إلا برده إلى أصله اللغوي. هذا الذي جعلنا نعود إلى أمهات الكتب لنتحين الصحيح من الخاطئ. لقد أدرك مؤلفو المعاجم الفرق الحاصل بين اللفظتين خاصة حين نطرح كل واحد منهما في السياقات الدلالية، ولعل الدكتور عبد الرحمن محمد القعود لم يعط الأمر اهتماما- مبدئيا من خلال القراءة الأولى- ، إذ لم يجعل الفاصل بين الغموض والإبهام فاصلا دلاليا بقدر ما أعطاهما السياق المتوحد. يقول مثلا في إحدى صفحات مؤلفه:" ليكون في تقديري، اكثر إيحاء بأن الغموض أو الإبهام في شعر الحداثة العربية المعاصرة هو شيء قار." [4]
وفي موضع آخر لا يتوانى عن ذكر اللفظتين أيضا متجاورتين، يقول:" إلى أي مدى يمكن أن يساهم البعد الميتافيزيقي في إبهام الشعر وغموضه."[5]
وغير هذا النموذج كثير في هذا المؤلف[6]، غير أن المسير الذي انتجه الخطاب اللغوي العربي القديم كان له الرأي المخالف، ولعل صاحب الكتاب – ربما عن وعي – حاول ألا يتيه في متاهات التشكيلات اللغوية. إلا أننا نجده يصرح في موضع آخر من الكتاب أنه يختار مصطلح الإبهام عنوانا لبحثه لما يجد فيه الخيار الصحيح والمنسجم مع طروحاته، يقول في مقدمة الكتاب:" ولعل أكثر ما يورق هم أصحاب هذه الكتابات، هو مستوى التعمية والانغلاق الذي وقفت عنده كثير من القصائد الحداثية. وهذا ما دفعني إلى استعمال مصطلح " الإبهام " بدلا من الغموض."[7]
إذن، ألا يمكن اعتبار هذا الأسلوب تلاعبا على اللغة بواسطة اللغة نفسها ما دام يعترف أنه يختار الإبهام. هذه الأعذار تبقى لحد الآن غير منسجمة خاصة حين نقرأ بين دفات الكتاب فقرات يتحدث فيها عن الغموض شكلا مميزا للقصيدة المعاصرة. لنأخذ بعض الأمثلة عنده حتى لا نبقى نردد أفكارا جزافية، يقول في أول عبارة في الكتاب: " مع احتمالية الغموض في الشعر، بالنظر إلى الطبيعة الفنية التي تحكمه، والمادة اللغوية التي تشكله والمنبع الشعوري النفسي الذي يغذيه، إلا أن الشكوى من هذا الغموض ترتفع وتنشط بين الحين والآخر."[8]
ويقول في موضع آخر:" ولعل إسهام الأسطورة في تشكيل ظاهرة الغموض، في حدودها المقبولة في هذا الشعر هو ما جعله يعد التيار الأسطوري في الشعر العربي المعاصر ظاهرة فنية، لكن الجانب السلبي في هذا هو أن ظاهرة الغموض خرجت بسبب هذا التيار نفسه، من إطارها الفني المقبول نقديا وتلقيا إلى حدود الإبهام والتعمية والانغلاق الدلالي."[9]
إن المؤلف هنا يحطنا على طريق ربما لو صرح به في أول الطريق لاستضاءت معه الرؤى. فهو بهذه التراتبية في إلحاق الإبهام بالغموض واعتبار الإبهام درجة أكثر في الالتباس من الغموض. قصدنا إذن، بدأ يتضح من خلال اعتبار الأصل اللغوي واحدا من الأمور التي يكنها أن تكشف عن المستور. لذا فمحاولتنا حينا ستكون بلا شك استكشاف الغابر في الكتب والمعاجم أولا ثم بعها الوصول لحل الإشكال الذي طرحه عبد الرحمن محمد القعود.
والحديث في هذا المجال أيضا يجرنا حتما إلى استنباط أهم القضايا الشائكة التي ميزت القصيدة المعاصرة، منها ما هو متعلق أساسا بالقضية، وما بجانبها.
في الآن نفسه سنتغاضى عن إشكال الحداثة لأنه يشكل بنفسه حقلا واسعا يستحق بحثا خاصا...
-- -------------------------
[1] - الأمدي: الموازنة بين أبي تمام والبحتري، دار المعارف مصر، ط. 2، 1972، 1/ 21.
[2] - روبلت هولب: نظرية التلقي، ترجمة عز الدين إسماعيل، كتاب النادي الأدبي الثقافي بجدة، 97، ط- 1، 1994، يعرف أفق التوقعات بأنه نظام العلاقات أو جهاز عقلي يستطيع فرد افتراضي أن يواجه به أي نص، ص- 16.
[3] - د. محمد مفتاح: مجهول البيان، دار توبقال للنشر، ط- 1، 1990، ص- 28.
[4] - عبد الرحمن محمد القعود: الإبهام في شعر الحداثة،( م. س) ، ص- 013.
[5] - نفسه: ص- 34.
[6] - انظر المرجع نفسه:الصفحات- 111-75-65-43....
---------------------------
أولا: الغموض.
حين نبحث في المصادر اللغوية نستبين الفرق بين اللفظتين، ولعل أولى هذه المصادر سيكون لسان العرب حيث يقول ابن منظور في مادة غمض :" أغمض طرفه عني وغمَّضه، أغلقه ...أنشد ابن بري لرؤبة:
بلال، يا ابن الحسب الأمحاض ليس بأدناس ولا أغماض
جمع غمْض وهو خلاف الواضح..وقال غيره: أغمضت الفلاة عن الشخوص إذا لم تظهر فيها لتغييب الآل إياها..
والغامض من الكلام خلاف الواضح وقد غمض غموضة وغمضته أنَّا تغميضا.."[1]
فالملاحظ حول هذا التعريف الأولي أن الغموض خلاف الوضوح، أي ما كان مضمرا غير بارز، وهذا ما يجعلنا نقف أمام أهم التجارب التي أرخت للظاهرة من خلال البحث في أسرار اللغة العربية النابعة من القرآن الكريم والحديث الشريف. فابن قتيبة يورد:" أمثلة من كلام النبي (ص) وأبي بكر وعمر وفصحاء العرب وبلغائهم، ثم يوضح أن ما فيها من الغموض في المعنى لا يتكشف للباحث المتروي، والعارف بأسرار الكلام وفنونه ويورد أمثلة من الشعر الذي اختلف في معناه."[2]
فالشرط المعرفي يبقى الأساس لتبني واستكناه السر من وراء الكلمات. وبدون التعمق والتتبع المنهجي لكل معاني النصوص لا يمكننا الوصول إلى المعنى الحقيقي، وهو ما سمي عندهم بالغموض. كما أن هذا التعريف لا يتعلق بمستوى دلالي معين بل يتعداه إلى مجالات أخرى، نذكر منها على سبيل المثال المجال اللغوي الخصب : النحو.
لقد حاول نصر حامد أبو زيد أن يبحث في مجال التأويل عند سيبويه، واستطاع أن يتوصل إلى أمر مهم يتصل ببحثنا، فقد انتبه إلى مشكل الغموض عند النحاة وعده من الحقول التي أثاروا فيها فضول المتلقي للبحث والتنقيب. يقول: " لقد أجهد النحاة النصوص بالتأويل، لأنهم خالطوا بين أمرين من الحق أن يفرق بينهما: وهما (المعنى الشكلي) و(المعنى الفلسفي) ..ومما يتصل بهذه النبرة الاستعلائية في نظر المحدثين للتراث اللغوي، الحديث عن( التعقيد) الذي تسبب فيه النحاة. وكثيرا ما يستندون إلى ما وراء الجاحظ عن أبي الحسن الأخفش (ت- 211 ه) من أنه تعمد الغموض والعسر في كتبه حتى يلتمس من الناس تفسيرها رغبة في التكسب بها."[3] فالغموض مكسب منهجي يستند إليه النحوي لجلب العسر على المتلقي لإعمال فكره وطلب الغريب.
إن هذه التعريفات الأولية توضح أن النظر في الغموض عنصر سلبي في الإبداع لا يستقيم، وأن البحث في المكنون من ضروريات الكشف عن المعاني الحقيقية. والغامض يمكن أن يوازي المتشابه في القرآن ، يقول تعالى: " هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات" والمتشابه كما عرفته مختلِف كتب التفسير الآيات التي فيها اشتباه في الدلالة على كثير من الناس، أما الآيات البينات فهي الواضحات التي لا التباس في معانيها ولا غموض.
حتى لا نتيه في حيثيات التعريفات الخاصة بالغموض، نخلص للقول إن الغموض كما عرفته المعاجم العربية وكتب التفسير والنحو و.. يعبر صراحة على خلاف الواضح، فكل كلام غير واضح المعنى فهو غامض، يحتاج إلى إعمال الذهن والفكر لفهمه أو " تأويله" .
*ثانيا: الإبهام.
جاء في لسان العرب في مادة بهم :" طريق مبهم إذا كان خفيا لا يستبين ..واستبهم عليه الأمر أي استغلق .. وأمر مبهم لا مأتى له.. وكلام مبهم لا يعرف له وجه يؤتى منه، مأخوذ من قولهم حائط مبهم إذا لم يكن فيه باب.. يقال أمر مبهم إذا كان ملتبسا لا يعرف معناه ولا بابه."[4] وأضاف في موضع آخر:" وقيل للأصبع إبهام لأنها تبهم الكف أي تطبق عليها."[5]
فالإبهام بهذا كما بينه ابن منظور ليس هو خلاف الواضح فقط كما رأينا عنده مع لفظ الغموض، بل هو المستغلق على الفهم الذي لا يمكن أن يؤتى له باب لتعرفه. وبالتالي لا يمكن الوصول إلى معناه سواء أكان المتلقي خابرا بخبايا الكلا م متقنا لصور الفهم والتأويل أم لم يكن كذلك.
أما إذا بحثنا على دلالة اللفظة في النحو، فسنجد الإبهام عند النحاة يدل :" أن الجملة تامة من حيث التركيب النحوي ولكنها غامضة من حيث المعنى"[6] فالباحث هنا حاول أن يعطي تعريفا شموليا لقضية الغموض والإبهام جامعا بينهما على أساس أن الغموض في المعنى داخل بنية الجملة هو الإبهام بعينه. كيف ذلك؟ لربما حين نكشف عن السياق العام الذي حاو ل فيه الباحث عبد الكريم امجاهد الوصول إلى حقيقة الغموض في الشعر، نجده يقر بالغموض بدل الإبهام في الشعر، باعتبار الأول لم يظهر إلا حديثا مع بروز مشكلة القديم والحديث، والإبهام هو الكل الذي تنطوي تحته الظاهرة اللغوية.
إن هذه الالتفاتة الأولية إلى بعض التعريفات مكنتنا من الوقوف على حقائق بدت لنا في أول الأمر إشكالية البحث عند الدكتور عبد الرحمن محمد القعود، ومن تلك الحقائق ما هو مرتبط باللفظ الداخل في السياق، وقد اختار كما سبقت الإشارة مصطلح الإبهام على حساب الغموض، لأن الأول يدل على ما يمكن فهمه على العكس من الثاني الذي يستعصي الفهم.
ثالثا: التشابك والإشكال.
إن الكلام كما ذهب إلى ذلك عبد القاهر الجرجاني على ضربين:" ضرب أنت تصل منه إلى العرض بدلالة اللفظ وحده وذلك إذا قصدت أن تخبر عن زيد مثلا بالخروج على الحقيقة، فقلت: خرج زيد،... وضرب أنت لا تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده ولكن يدلك اللفظ على معناه الذي يقتضيه موضوعه في اللغة، ثم تجد لذلك المعنى دلالة ثانية تصل إلى الغرض ومدار هذا الأمر على الكناية والاستعارة والتمثيل."[7] فالضرب الثاني هو فصد كلامنا، فهو يحتاج دائما إلى تمثل مجموعة من الخطابات التي بدونها لا يمكن أن نصل إلى المعنى المتوخى من وراء المكتوب. والحديث هنا يجرنا حتما كما فعل الإمام عبد القاهر الجرجاني إلى مواضيع البلاغة التي تهتم بالكلام من حيث مدلولاته وهي على الخصوص الكناية والتشبيه وما ينحو منحاهما..
لكننا لن ندخل في التفاصيل البلاغية ، بقدر ما نحاول الآن أن نحلل الإشكال المتعلق بالإبهام والغموض لنصل لحل نرصد من خلاله القصيدة العربية المعاصرة، أو ما اصطلح عليها القصيدة الحداثية.
يمكن أن نتلمس الجذور المعرفية لإشكاليتنا من الطرح النظري التالي:
ما هو الأساس الذي قامت عليه الإشكالية (الغموض / الإبهام ) ؟ ثم ما السبيل إلى الكشف عن مكونات كل واحدة اعتبارا للتعريف اللغوي أولا ونظرا للتراتبيات السياقية ثانيا ؟
إذا أردنا أن ندخل في الاعتبار الأساس اللغوي فإننا سنقول مع ابن منظور إن الأمر يتعلق في مجال البحث بالغموض وليس الإبهام. لماذا؟
من منطلق التمفصلات التي تنبع من الإبداع الشعري، هذه التمفصلات التي تشكل القواعد التي ترتب بنيات النص الشعري وتحقق المعنى من خلاله نستطيع أن نرى جانبا من المعنى في الإبداع من القراءات الأولى ، لكن يبقى الجانب الغامض مستترا ينتظر القارئ اللبيب لفتح أبوابه المغلقة. ومن هنا يمكن أن نجيب عن التساؤلات التي طرحناها –انطلاقا من التجربة الشعرية- بقولنا: إن الشعر باعتباره خطابا ليس أحادي المعالم والمقصديات يحتاج إلى أن يجعل الشاعر منه خطابا يجمع القول المباشر إلى جانب القول المتعمق. لذلك " فالغموض أو الإبهام في شعر الحداثة العربية المعاصرة شيء قار."[8] وقد حن محمد بنيس إلى الأقوال السابقة ليعترف أن الشعر لا يمكنه أن يبني العالم كما هو بقدر ما أفضت الحرية عند الشاعر إلى الكتابة الفعلية بعيدا عن التقعيد والوعي:" إن الإبداع حين يخضع للوعي، للتقعيد، يعلن موته، فليس المعقولية وحدها هي التي تمنح الإبداع شرعية وجوده.. كل ما يبدأ لينتهي مناف للتحول، مناف للإبداع، إن المطمئن للأصل كل شيء واضح ومعلوم لديه، هذه نقطة النهاية، وبينهما شتيت كلام يرسخ الوهم ويستنسخ السابق. استمرار سلبي لصوت المرئي بدلا أن يكون استقداما لما لم يوجد بعد، للمبهم، المنسي، الممنوع الغريب."[9]
إن مثل هذه التنويعات في اللغة هي التي جعلت الشعر غامضا ولا نقول مبهما، لأن الغموض فقط يحتاج لشيء من التروي والبحث حتى نصل إلى أبعاده ومستوياته الدلالية، أما المبهم فيبقى مبعدا من التحليل إلى حين آخر. وإجابتنا عن التساؤلات جرتنا إلى فتح باب الشعر، لأنه هو مصدر الإشكالية، ولولا سوء فهمه ما استطاع النقاد أن يبحثوا في الإشكالية أساسا.
إذن ما هي أهم العوامل التي جعلت الناقد الأدبي يقف هذه الوجهة الجديدة؟ ماهي أهم مظاهر الغموض في الشعر؟ وما السبل التي يحتاجها القارئ للوصول إلى معاني النص؟
[1] - ابن منظور: لسان العرب، دار صادر، ط-1، 1990،ج-7، 200.
[2] - سيزا قاسم- دراز: توالد النصوص وإشباع الدلالة- تطبيقا على تفسير القرآن. مجلة ألف، الهرمينوطيقا والتأويل، ط-2، الدار البيضاء،1993 ، ص- 31.
[3] - نصر حامد أبو زيد: إشكالية القراءة وآليات التأويل،المركز الثقافي، ط- 2 ، شتنبر 1992،ص-92.
[4] - ابن منظور: لسان العرب، دار صادر،ط- 1، 19900 ص- 57-56.
[5] - نفسه: ص-59.
[6] - عبد الكريم امجاهد: شعرية الغموض- قراءة في شعر عبد الوهاب البياتي، منشورات الموجة، ط-1، 1998،ص- 47.
[7] - الإمام عبد القاهر الجرجاني: دلائل الإعجاز (في علم المعاني) ، دار المعرفة، بيروت،1978، ص- 22.