تَعْليقاتٌ عَلى مُتونِ الْكُتُبِ الْعَرَبيَّةِ 65
تَعْليقاتٌ عَلى مُتونِ الْكُتُبِ الْعَرَبيَّةِ = 65
مَنْهَجٌ فِي التَّأْليفِ بَيْنَ كُتُبِ الْعِلْمِ وَبَيْنَ طُلّابِها ، بِوَصْلِ حَياتِهِمْ بِحَياتِها
[تَعْليقَةٌ عَلى مَتْنِ " دَلائِلُ الْإِعْجازِ " لِعَبْدِ الْقاهِرِ الْجُرْجانيِّ]
د. محمد جمال صقر
قالَ |
قُلْتُ |
مِنْ عادَةِ قَوْمٍ مِمَّنْ يَتعاطَى التَّفْسيرَ بِغَيْرِ عِلْمٍ ، أَنْ يوهِموا أَبَدًا فِي الْأَلْفاظِ الْمَوْضوعَةِ عَلَى الْمَجازِ وَالتَّمْثيلِ ، أَنَّها عَلى ظَواهِرِها ، فَيُفْسِدُوا الْمَعْنى بِذلِكَ ، وَيُبْطِلُوا الْغَرَضَ ، وَيَمْنَعوا أَنْفُسَهُمْ وَالسّامِعَ مِنْهُمُ الْعِلْمَ بِمَوْضِعِ الْبَلاغَةِ ، وَبِمَكانِ الشَّرَفِ . وَناهيكَ بِهِمْ إِذا هُمْ أَخَذوا في ذِكْرِ الْوُجوهِ ، وَجَعَلوا يُكْثِرونَ في غَيْرِ طائِلٍ ؛ هُناكَ تَرى ما شِئْتَ مِنْ بابِ جَهْلٍ قَدْ فَتَحوهُ ، وَزَنْدِ ضَلالَةٍ قَدْ قَدَحوا بِه ، وَنَسْأَلُ اللّهَ - تَعالَى ! - الْعِصْمَةَ وَالتَّوْفيقَ ! |
سيظل الفريقان في المُتَأَمِّلين ، كما كانوا ؛ فريق يتمسك بالظاهر - وإن استصعب عليه أحيانا تحريره - وفريق يتمسك بالباطن ، وإن استقلَّ هو بالقول فيه ! |
مِثالُه ( مسلك طريق الكناية ) قَوْلُ زِيادٍ الْأَعْجَمِ : إِنَّ السَّماحَةَ وَالْمُروءَةَ وَالنَّدى في قُبَّةٍ ضُرِبَتْ عَلَى ابْنِ الْحَشْرَج أَرادَ كَما لا يَخْفى أَنْ يُثْبِتَ هذِهِ الْمَعانيَ وَالْأَوْصافَ خِلالًا لِلْمَمْدوحِ وَضَرائِبَ فيهِ ، فَتَرَكَ أَنْ يُصَرِّحَ فَيَقولَ : إِنَّ السَّماحَةَ وَالْمُروءَةَ وَالنَّدى لَمَجْموعَةٌ فِي ابْنِ الْحَشْرَجِ ، أَوْ مَقْصورَةٌ عَلَيْهِ ، أَوْ مُخْتَصَّةٌ بِه ، وَما شاكَلَ ذلِكَ مِمّا هُوَ صَريحٌ في إِثْباتِ الْأَوْصافِ لِلْمَذْكورينَ بِها ، وَعَدَلَ إِلى ما تَرى مِنَ الْكِنايَةِ وَالتَّلْويحِ ، فَجَعَلَ كَوْنَها بِذلِكَ إِلى ما خَرَجَ إِلَيْهِ مِنَ الْجَزالَةِ ، وَظَهَرَ فيهِ ما أَنْتَ تَرى مِنَ الْفَخامَةِ ، وَلَوْ أَنَّه أَسْقَطَ هذِهِ الْواسِطَةَ مِنَ الْبَيْنِ ، لَما كانَ إِلّا كَلامًا غُفْلًا ، وحَديثًا ساذَجًا . |
أَوَّلَ مِنْ أَمْسِ سألني أخي الحبيب الدكتور هشام عبد العزيز ؛ كيف تفهم مصطلح " الْبَيْنِ " في كلام الجرجاني ؟ قلت : لا أراه مصطلحا ! قال : رَأْيَكَ رَأَى الدكتور محمد أبو موسى ، وأنا أخالفكما ، ولا أجد كافيا معنى درج الكلام الذي ذكره أستاذنا محمود محمد شاكر ، رحمه الله ! قلت : ربما استطعتَ إذا تأملت سياقاتها ، ومزجتها بنفسك - أن تضبط لها دلالة على مفاصل بعض العلاقات النحوية . |
مَتى تَخْلو تَميمٌ مِنْ كَريمٍ وَمَسْلَمَةُ بْنُ عَمْرٍو مِنْ تَميم |
ما أكثر ما عثرت في البيت مثل هذا ، على تنوين كلمة العروض ( مثل كريم ) على رغم ما يشملها هي وكلمة القافية ( مثل تميم ) من تقفية ؛ فكنت أحذف إحدى العلامتين ، وأترك الأخرى لتُشْبَع ، فيخرج آخر الصدر مثل آخر العجز . ثم خطر لي ألا يكون كل ما اتفق من ذلك مُرادًا ؛ فربما استُثْقِلَ بَعْضٌ كما استُخِفَّ بَعْضٌ ، وتلك مسألة دقيقة جدا . |
فَنٌّ مِنْه ( من مسلك طريق الكناية ) غَريبٌ ، قَوْلُ بَعْضِهِمْ فِي الْبَرامِكَةِ : سَأَلْتُ النَّدى وَالْجودَ ما لي أَراكُما تَبَدَّلْتُما ذُلًّا بِعِزٍّ مُؤَبَّد وَما بالُ رُكْنِ الْمَجْدِ أَمْسى مُهَدَّمًا فَقالا أُصِبْنا بِابْنِ يَحْيى مُحَمَّد فَقُلْتُ فَهَلّا مِتُّما عِنْدَ مَوْتِه فَقَدْ كُنْتُما عَبْدَيْهِ في كُلِّ مَشْهَد فَقالا أَقَمْنا كَيْ نُعَزّى بِفَقْدِه مَسافَةَ يَوْمٍ ثُمَّ نَتْلوهُ في غَد |
كفاه عندئذ غرابة أن تكتمل به قصيدة قصيرة ، فيها طبيعة التَّأَزُّمِ والانْفِراجِ ، التي وجدها الدكتور علي الشرع في القصيدة القصيرة ، فظننته أبا عذرها ، حتى ردها حاتم الصكر إلى بعض العجم ! ثم قد هاجت علي هذه الأربعة الأبيات ، ذكرى أربعة أبيات فيها مثل طبيعة التَّأَزُّمِ والانْفِراجِ التي فيها - وإن لم تسلك مسك طريق الكناية - انتزعت بروايتها قديما ضحكة أستاذنا الدكتور محمد فتوح أحمد ، التي تكون بعد طول عبوسه ، مثل طلعة بدر التِّمِّ - : وَنائِمَةٍ قَبَّلْتُها فَتَنَبَّهَتْ وَقالَتْ تَعالَوْا فَاطْلُبُوا اللِّصَّ بِالْحَدّ فَقُلْتُ مَعاذَ اللّهِ إِنِّيَ غاصِبٌ وَما حَكَموا في غاصِبٍ بِسِوَى الرَّدّ خُذيها وَكُفّي عَنْ أَثيمِ ظُلامَةٍ وَإِنْ أَنْتِ لَمْ تَرْضَيْ فَأَلْفًا عَلَى الْعَدّ فَقالَتْ قِصاصٌ يَعْلَمُ اللّهُ أَنَّه عَلى كَبِدِ الْجاني أَلَذُّ مِنَ الشَّهْد |
اعْلَمْ أَنَّ ها هُنا دَقائِقَ لَوْ أَنَّ الْكِنْديَّ ( الفيلسوف الملتبسة عليه بعض التراكيب المختلفة ) اسْتَقْرى ، وَتَصَفَّحَ ، وَتَتَبَّعَ مَواقِعَ " إِنَّ " ، ثُمَّ أَلْطَفَ النَّظَرَ ، وَأَكْثَرَ التَّدَبُّرَ - لَعَلِمَ عِلْمَ ضَرورَةٍ أَنْ لَيْسَ سَواءً دُخولُها وَأَلّا تَدْخُلَ ؛ فَأَوَّلُ ذلِكَ وَأَعْجَبُه ما قَدَّمْتُ لَكَ ذِكْرَه في بَيْتِ بَشّارٍ : بَكِّرا صاحَبَيَّ قَبْلَ الْهَجير إِنَّ ذاكَ النَّجاحَ فِي التَّبْكير وَما أَنْشَدْتُه مَعَه مِنْ قَوْلِ بَعْضِ الْعَرَبِ : فَغَنِّها وَهْيَ لَكَ الْفِداء إِنَّ غِناءَ الْإِبِلِ الْحُداء وَذلِكَ أَنَّه هَلْ شَيْءٌ أَبْيَنُ فِي الْفائِدَةِ وَأَدَلُّ عَلى أَنْ لَيْسَ سَواءً دُخولُها وَأَلّا تَدْخُلَ ، أَنَّك - هكذا والصواب " من أنك " - تَرَى الْجُمْلَةَ إِذا هِيَ دَخَلَتْ تَرْتَبِطُ بِما قَبْلَها ، وَتَأْتَلِفُ مَعَه ، وَتَتَّحِدُ بِه ، حَتّى كَأَنَّ الْكَلامَيْنِ قَدْ أُفْرِغا إِفْراغًا واحِدًا ، وَكَأَنَّ أَحَدَهُما قَدْ سُبِكَ فِي الْآخَرِ ؟ هذِه هِيَ الصّورَةُ ، حَتّى إِذا جِئْتَ إِلى " إِنَّ " ، فَأَسْقَطْتَها ، رَأَيْتَ الثّانِيَ مِنْهُما قَدْ نَبا عَنِ الْأَوَّلِ ، وَتَجافى مَعْناهُ عَنْ مَعْناهُ ، وَرَأَيْتَه لا يَتَّصِلُ بِه ، وَلا يَكونُ مِنْهُ بِسَبيلٍ ، حَتّى تَجيءَ بِالْفاءِ ، فَتَقولَ : بَكِّرا صاحِبَيَّ قَبْلَ الْهَجيرِ ؛ فَذلِكَ النَّجاحُ فِي التَّبْكيرِ ، وَغَنِّها وَهِيَ لَكَ الْفِداءُ ؛ فِغِناءُ الْإِبِلِ الْحُداءُ - ثُمَّ لا تَرَى الْفاءَ تُعيدُ الْجُمْلَتَيْنِ إِلى ما كانَتا عَلَيْهِ مِنَ الْأُلْفَةِ ، وَلا تَرُدُّ عَلَيْكَ الَّذي كُنْتَ تَجِدُ بِـ" إِنَّ " مِنَ الْمَعْنى . |
يوشك انسباك هذه الجمل فيما قبلها ، أن يكون على شيء من معنى الحالية ، ولا سيما أن الفاء التي أوحى سيدنا بأن " إن " قامت مقامها ، تجوز معها هكذا : فإن ذاك النجاح في التبكير . |
إِذا كانَ خَلَفٌ الْأَحْمَرُ وَهُوَ الْقُدْوَةُ ، وَمَنْ يُؤْخَذُ عَنْهُ ، وَمَنْ هُوَ بِحَيْثُ يَقولُ الشِّعْرَ ، فَيَنْحَلُهُ الْفُحولَ الْجاهِليّينَ ، فَيَخْفى ذلِكَ له ، وَيجوزُ أَنْ يَشْتَبِهَ ما نَحْنُ فيهِ عَلَيْهِ ، حَتّى يَقَعَ لَه أَنْ يَنْتَقِدَ عَلى بَشّارٍ - فَلا غَرْوَ أَنْ تَدْخُلَ الشُّبْهَةُ في ذلِكَ عَلَى الْكِنْديِّ ! |
كدت أخطئ الواو في " وَيَجوزُ " ، ثم رأيت ما بعدها ينسبك فيما قبلها على نحو ما . ثم أين جهل الكندي وجفاؤه اللغوي ، من علم خلف ورقته اللغوية ! |
إِذَنْ إِنَّما يَكونُ الَّذي ذَكَرْنا فِي الْجُمْلَةِ مِنْ حَديثِ اقْتِضاءِ الْفاءِ ، إِذا كانَ مَصْدَرُها مَصْدَرَ الْكَلامِ يُصَحَّحُ بِه ما قَبْلَه ، وَيَحْتَجُّ لَه ، وَيُبَيِّنُ وَجْهَ الْفائِدَةِ فيهِ . |
ها سيدنا ذا قد كتب آخر " إذن " ، نونا صريحة ! |