وظائف الرمز وخصائصه في قصيدة الشاعر هادي الربيعي

وظائف الرمز وخصائصه

في قصيدة الشاعر هادي الربيعي

جاسم عاصي

حين أطلق - ماثيو أرنولد - عبارته الاثيرة، كون الفكرة هي كل شيء بالنسبة للشعر، والباقي هو عالم الوهم، الوهم الرفيع، انما اراد من خلالها ان يضع المعاني في باب الصدارة، او انه اهتم بالاسس التي تشيد عليها القصيدة معانيها. فالمعاني تتباين وتتداخل، وتتشظى، لكن وسائل تحققها تتكيف على وفق بينتها الداخلية. فهو يعني أيضا، انعكاس لحالة التفاعل والانفعال والاتصال، وحالة التجاوب ازاء مجموعة العلاقات والمنظومات الداخلية والخارجية للنص. لذا نرى ان نص - هادي الربيعي - الشعري، يتوافق مع هذا القول او الرؤيا لانه في الاساس ينطلق من مثابة المعنى باتجاهات مختلفة، موجها الظواهر والرؤى بحساسية خاصة، يتجسد من خلالها المشهد الحياتي عبر مشهد شعري مكثف. فالعقلي والمنطقي يتحول الى روحي بفعل تدرج وانفتاح الافق الشعري. ومن خصائص شعر الربيعي كما نراها هي: 

أولا - خاصية المكان:

اذ يلعب دورا اساسيا في تشكل النص من خلال بنيته المشهدية واللغوية، والارتقاء به باعتباره دالا على بعد روحي خالص. وان التعامل معه يجري بحساسية واضحة، وعبره يستنهض الشاعر حسه الشعري. فهو ليس ديكورا بل محفزا، يقود الى تاريخية معينة، وقد تجسد بالعليات. بمعنى الارتباط بالمطلق، كالزقورات والمآذن والجبال، وهي مراكز اتصال العابد بالمعبود، ثم اهتمامه بالبحر كمطلق بسبب انفتاحه على المطلق من الرؤى. فالماء مقدس، وعبره تتشكل قدسية الاشياء. من هذه الرموز المكانية تنعكس الطقوس والرؤى، فهي - أي الاماكن - ذات القدسية - انما تمنح الشعرية قدرة التعويض عن فراغ الحياة، بما يشيعانه من تشبع روحي وصوفي خالصين.

ثانيا - خاصية الزمان:

وفيه يتحقق مستوى المكان ايضا من حيث علاقتهما السببية، فازمته تراوح بين الحاضر والماضي، وهو انما يحيل القصيدة الى نمط السرد، باستخدام افعال دالة على ذلك. فالمداخلة بين الازمنة فيما يأتي لتحقق نوعا من المكاشفة وعقد الموازنة المفقودة مع العالم كذلك المقارنة الخفية، وهي ترتبط بعلاقة مع رمز - فورندا..

ثالثا - خاصية الاسطرة:

الشاعر لم يستند على اسطورة معينة وانما اعتمد مجموعة عناصر تشكل اسطورة الكون والعالم والمفاهيم، فرمز - نورندا - هو الاكثر هيمنة على فعل اسطرة الموجودات، وبفتحها المفاهيم والرؤى، وهذا قد تمثل عنده منذ ديوانه - ارتحالات.

والاسطورة عنده تنطلق وتتجاوب مع الموروث، كأن يكون من جملة خصائص الالهة، او النماذج الانثوية في الاسطورة من خلال اقتفاء اثرها، وطغيان خلالها على الاشياء. ولا يعني هذا استشراف الصراع الثنائي بين سلطة الذكورة والانوثة، بقدر ما يقتصي ويتسقط الحس الصوفي الذي يركز على مدى امكانية الانثى على تخصيب الحياة، فنورندا على سبيل المثال رمز - مؤسطر - والذي يتمثل حالي الموقظ والمطهر، وهو الفضاء الذي يهتدي اليه التائه والضائع في زحمة الوجود. او هو يعز يؤكد - على حد قول باشلار - على طبيعة الخيال في النص، كونه متصلا بمرموزات ذات اصل قديم، بمعنى ان رمز - نورندا - على الرغم من اكتفائه بذاته في تأسيس مدلولاته وبثها الا انه يرتبط بشكل او بآخر بما هو مضمر في لا وعي الشاعر. فالاسطورة هنا حاجة لا تخفيها المعرفة، وما يؤكد على حركة هذا الرمز وتطوره وتأثيره على النص الشعري، ما نرى فيه من حركة وتحفيز على الكشف. اذ ينبغي ان يكون للاسطورة الشخصية قيمة كشفية. وهو نوع من المزج بين ما هو اسطوري، وبين ما هو واقعي - مؤسطر - ضمن سيرة المنتج.

لذا ارى ان اسطورة - نورندا - مؤسسة على قاعدة خلق المعاني الجديدة داخل القصيدة، واثراء هذه المعاني، وانعتاقها على ما هو غير ظاهر او على حد قول - آيزر - في ما يخص الاثر الذي يتركه الرمز في النص، في كونه يحيل الى الدلالات بما يمتلكه من خاصيات ويوفره من معان جديدة. أي ان (النص + القارئ = الاثر الجمالي للنص). اذا اسطورة - الربيعي - هي نحت في مفردة باتجاه عالم اكثر سعة وجمالا وتوليدا. فهو رمز واسطورة متغيرة تبث ولا تتوقف بمعنى تتكون طالما تكون الرؤيا للشاعر. رمز يتحكم في الرؤيا اساسا، لانه رمز مفرد يتكون من (نور + ندا - مجتزأ نداء = نداء النور) وهذا يتعلق بالروح قبل العقل. واعتقد ايضا ان هذا التوظيف لمثل هذا الرمز - الدالة - و - المخلّق..، استطاع من خلاله الشاعر ان يؤسس منحى تجريبيا للمرموز، الذي استقر بفعل التراكم الكمي الى تراكم نوعي، بتأثير - الاسطرة، ونشاط الدلالة والمعاني، الى ثابت متحرك، أي انه استطاع ان يمرر ويوظف مفردات الموروث ومتعلقاته عبر ذاكرة تؤسس ولا تنفصل.

رابعا - خاصية السرد والوصف:

اذ تلاحظ ثمة اشارات واضحة في نص الشاعر تهدي الى حالة استخدام قبل هذا المنحى، عبر استثمار طاقة الفعل لتحويل المشهد الشعري الى حاضنة سردية - وصفية شعرية. ووصفه يمتاز بالدقة في اختيار موصوف له علاقة بالمشهد وبدقة تجسيده. ولا يحقق داخل النص ترهلا شعريا. بل ان مجموع المسرودات والموصوفات تتداخل شعريا من اجل تحقيق الرمز، الامتداد في المشهد الذي يتميز كثيرا بالاختزال.

خامسا - خاصية التكثيف:

ان التكثيف هنا لم يكن ليؤدي الى حالة من الغموض بل هو ظاهرة تكثيف الجملة الشعرية لتحقيق المعاني ثم انه يحول الجملة الشعرية الاشادية الى الانفتاح على مشهد أوسع، من خلال المفردات التي تشير الى الاشياء ولا تسميها، فجملته تمتلك طاقة من الايحاء، بما تحتويه من طاقة توليد للمعاني لذا فهو تكثيف يشير ال تخصيب المعاني وتولدها من رحم القصيدة.

سادسا - خاصية الروحي والميتافيزيقيا:

اذ تبدو القصائد على جانب كبير من اتخاذ ناصية الروحانيات ليس من خلال المفردات والفضاءات، وانما ايضا من التشكل العام للقصيدة ومسارها الرؤيوي، وذلك باشاعة ما هو خارج المادي. فالشعر اساسا - كما ذكر باشلار - هو ظاهراتي روحي اكثر من كونه ظاهراتي عقلي وبهذا تكون امام كشوفات تتخلها طقوس ودعاءات وتهدجات صوفية خالصة، يحاول الشاعر ان يرتقي باشارات المكان نحو اشارات الذات وصفاتها. بمعنى ينقي المكان وخصائصه، بما يضفي عليه من سحر روحي، كالجبل والبحر.. والحيوات الاخرى. حيث نجد انها تتخذ لها رفعة وسموا خاما يوليها الشاعر اهتماما في التجسيد فهو معني بترشيح ما يمكن ترشيحه من حاضنة الشعر، وذلك لتعامله الخاص بالمفردة التي توحي بالنهم لاشباع فراغ داخلي ايماني - روحي.

سابعا - ايقاع المفردة:

على الرغم من اعتماد الشاعر بحور الفراهيدي، الا انه اعطى للمفردة ايقاعا خاصا يضاف الى الوزن بل يحرك مفاصله التي قد تنطوي على حالة النظم. لكن ما يقدمه عبارة عما تمتلكه المفردة من ايقاع داخلي وخارجي. أي رنينها الحروفي الذي يرقب نسقا لسانيا مضافا. فالشعر هنا ينطوي على حرية داخلية، بمعنى تلقائية تهبه نكهة خاصة. والشاعر يتماهى عنده بسبب ذلك النثري والشعري لصالح الشعري فقط، أي يحول - السهل الممتنع الى اتساع فضاء الشعر، دونما قيد للقافية، بل ثمة تقنية داخلية ينظمها الايقاع، لكي يبرر العلائق غير الظاهرة في جسد القصيدة من خلال الاثر. اذ يتحكم فيها ايقاع المفردة وجرسها المؤثر. فيتيه الشعري في علاقته بما هو سابق ولا حق ينتظم فق منظومة علائق. لعل ايقاع المفردة وانسيابيتها يلعب دورا اساسيا حيث يجمع الاصول التي تنظم منها المفردة نثرا او شعرا بما تمتلكه من طاقة باتجاه توفير المعاني الكثيرة المرتبطة بمجموعة ايقاعات.

هذه الخاصيات اجدها من ابرز سمات قصيدة الشاعر هادي الربيعي التي تتبنى مستويات عديدة ترتقي بالشعر والشعرية.

              

الهوامش:

1- ماثيو ارنولد - مقالات في النقد - الدار المصرية للتأليف - ت - على جمال الدين عزت.

2- ارتحالات - ديوان هادي الربيعي - دار الشؤون الثقافية 1981

3- جماليات المكان - جاستوف باشلار - ت - غالب هلسا - ملحق مجلد الاقلام 1980

4- مجلة نوافذ/ العدد 607/1998

5- جماليات المكان - مصدر سابق.

6- عالم الملائكة - هادي الربيعي - دار الشؤون الثقافية 2000