تَعْليقاتٌ عَلى مُتونِ الْكُتُبِ الْعَرَبيَّةِ 59

تَعْليقاتٌ عَلى مُتونِ الْكُتُبِ الْعَرَبيَّةِ 59

مَنْهَجٌ فِي التَّأْليفِ بَيْنَ كُتُبِ الْعِلْمِ وَبَيْنَ طُلّابِها ، بِوَصْلِ حَياتِهِمْ بِحَياتِها

[تَعْليقَةٌ عَلى مَتْنِ " دَلائِلُ الْإِعْجازِ " لِعَبْدِ الْقاهِرِ الْجُرْجانيِّ]

د. محمد جمال صقر

[email protected]

قالَ

قُلْتُ

إِنْ زَعَمَ أَنَّه إِنَّما كَرِهَ الْوَزْنَ لِأَنَّه سَبَبٌ لِأَنْ يُتَغَنّى فِي الشِّعْرِ وَيُتَلَهّى بِه ، فَإِنّا إِذا كُنّا لَمْ نَدْعُه إِلَى الشِّعْرِ مِنْ أَجْلِ ذلِكَ ، وَإِنَّما دَعَوْناهُ إِلَى اللَّفْظِ الْجَزْلِ وَالْقَوْلِ الْفَصْلِ وَالْمَنْطِقِ الْحَسَنِ وَالْكَلامِ الْبَيِّنِ ، وَإِلى حُسْنِ التَّمْثيلِ وَالِاسْتِعارَةِ ، وَإِلَى التَّلْويحِ وَالْإِشارَةِ ، وَإِلى صَنْعَةٍ تَعْمِدُ إِلَى الْمَعْنَى الْخَسيسِ فَتُشَرِّفَه ، وَإِلَى الضَّئيلِ فَتُفَخِّمَه ، وَإِلَى النّازِلِ فَتَرْفَعَه ، وَإِلَى الْخامِلِ فَتُنَوِّهَ بِه ، وَإِلَى الْعاطِلِ فَتُحَلِّيَه ، وَإِلَى الْمُشْكِلِ فَتُجَلِّيَه - فَلا مُتَعَلَّقَ لَه عَلَيْنا بِما ذَكَرَ ، وَلا ضَرَرَ عَلَيْنا فيما أَنْكَرَ ، فَلْيَقُلْ فِي الْوَزْنِ ما شاءَ ، وَلْيَضَعْهُ حَيْثُ أَرادَ ؛ فَلَيْسَ يَعْنينا أَمْرُه ، وَلا هُوَ مُرادُنا مِنْ هذَا الَّذي راجَعَنَا الْقَوْلَ فيهِ (...) لَوْ كانَ الْكَلامُ إِذا وُزِنَ حَطَّ ذلِكَ مِنْ قَدْرِه ، وَأَزْرى بِه ، وَجَلَبَ عَلَى الْمُفْرِغِ لَه في ذلِكَ الْقالَبِ إِثْمًا ، وَكَسَبَه ذَمًّا ، لَكانَ مِنْ حَقِّ الْعَيْبِ فيهِ أَنْ يَكونَ عَلى واضِعِ الشِّعْرِ ، أَوْ مَنْ يُريدُه لِمَكانِ الْوَزْنِ خُصوصًا ، دونَ مَنْ يُريدُه لِأَمْرٍ خارِجٍ مِنْهُ ، وَيَطْلُبُه لِشَيْءٍ سِواهُ !

بمثل هذا زعم الزاعمون - أو ظن المتعجلون - أن الجرجاني أهمل الوزن على أهميته في توجيه تركيب الكلام من الشعر . والظن بأبي بكر ألا يغفل عن قيمة الوزن في طبيعة الشعر ، ولا عن أثره في بنائه ، ولكن لكل مقام مقالا .

إِذا نَحْنُ رَجَعْنا إِلى ما قَدَّمْنا مِنَ الْأَخْبارِ ، وَما صَحَّ مِنَ الْآثارِ ، وَجَدْنَا الْأَمْرَ عَلى خِلافِ ما ظَنَّ هذَا السّائِلُ ، وَرَأَيْنَا السَّبيلَ في مَنْعِ النَّبيِّ - صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ ، وَسَلَّمَ ! - الْوَزْنَ ، وَأَنْ يَنْطَلِقَ لِسانُه بِالْكَلامِ الْمَوْزونِ ، غَيْرَ ما ذَهَبوا إِلَيْهِ ؛ وَذاكَ أَنَّه لَوْ كانَ مَنْعَ تَنْزيهٍ وَكَراهَةٍ لَكانَ يَنْبَغي أَنْ يُكْرَهَ لَه سَماعُ الْكَلامِ مَوْزونًا ، وَأَنْ يُنَزَّهَ سَمْعُه عَنْهُ كَمّا نُزِّهَ لِسانُه ، وَلَكانَ - صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ ، وَسَلَّمَ ! - لا يَأْمُرُ بِه ، وَلا يَحُثُّ عَلَيْهِ ، وَكانَ الشّاعِرُ لا يُعانُ عَلى وَزْنِ الْكَلامِ وَصِياغَتِه شِعْرًا ، وَلا يُؤَيَّدُ فيه بِروحِ الْقُدُسِ . وَإِذا كانَ هذا كَذلِكَ ، فَيَنْبَغي أَنْ يُعْلَمَ أَنْ لَيْسَ الْمَنْعُ في ذلِكَ مَنْعَ تَنْزيهٍ وَكَراهَةٍ ، بَلْ سَبيلُ الْوَزْنِ في مَنْعِه - عَلَيْهِ السَّلامُ ! - إِيّاهُ سَبيلُ الْخَطِّ ، حينَ جُعِلَ - عَلَيْهِ السَّلامُ ! - لا يَقْرَأُ وَلا يَكْتُبُ ، في أَنْ لَمْ يَكُنِ الْمَنْعُ مِنْ أَجْلِ كَراهَةٍ كانَتْ فِي الْخَطِّ ، بَلْ لِأَنْ تَكونَ الْحُجَّةُ أَبْهَرَ وَأَقْهَرَ ، وَالدَّلالَةُ أَقْوى وَأَظْهَرَ ، وَلِتكونَ أَكْعَمَ لِلْجاحِدِ ، وَأَقْمَعَ لِلْمُعانِدِ ، وَأَرَدَّ لِطالِبِ الشُّبْهَةِ ، وَأَمْنَعَ مِنِ ارْتِفاعِ الرّيبَةِ .

فمنعه - صلى الله عليه ، وسلم ! -  من الشعر قولا وإنشادا ، آيةٌ كمَنْع سيدنا زكريا - عليه السلام ! - الكلامَ إلا رَمْزًا ، فكان امتناع كل منهما مما مُنِع ، آيةً له هو عند نفسِه ، من قبل أن يكون آيةً له عند غيره !

لَوْ كانَ يَسوغُ ذَمُّ الْقَوْلِ مِنْ أَجْلِ قائِلِه ، وَأَنَّه يُحْمَلُ ذَنْبُ الشّاعِرِ عَلَى الشِّعْرِ - لَكانَ يَنْبَغي أَنْ يُخَصَّ وَلا يُعَمَّ ، وَأَنْ يُسْتَثْنى ؛ فَقَدْ قالَ اللّهُ - عَزَّ ، وَجَلَّ ! - : " إِلَّا الَّذينَ آمَنوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللّهَ كَثيرًا " . وَلَوْلا أَنَّ الْقَوْلَ يَجُرُّ بَعْضُه بَعْضًا ، وَأَنَّ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ يُذْكَرُ ، لِدُخولِه فِي الْقِسْمَةِ - لَكانَ حَقُّ هذا وَنَحْوِه أَلّا يُتَشاغَلَ بِه ، وَأَلّا يُعادَ وَيُبْدَأَ في ذِكْرِه !

أراد أنه ينبغي أن يؤخذ الشعر الحسن من كل أحد ؛ فـ" الْكَلِمَةُ الْحِكْمَةُ - كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - ضالَّةُ الْمُؤْمِنِ ، حَيْثُما وَجَدَها فَهُوَ أَحَقُّ بِها " . فإن أبى المتشدد ذلك لم يملك أن يُعْرِضَ عن ذوي السير الطيبة من الشعراء الذين استثناهم من الغَواية والإِغْواء ربُّهم الأعلم بهم !

ثم ما أطرف تعبيره " لِدُخولِه فِي الْقِسْمَةِ " ، الذي نبهنا به على بقية من المثل " الشَّيْءُ بِالشَّيْءِ يُذْكَرُ " ، ؛ أتى عليها الزمان ، بالبِلى أو النسيان !

قَدْ عُلِمَ أَنَّ الْأَلْفاظَ مُغْلَقَةٌ عَلى مَعانيها ، حَتّى يَكونَ الْإِعْرابُ هُوَ الَّذي يَفْتَحُها ، وَأَنَّ الْأَغْراضَ كامِنَةٌ فيها ، حَتّى يَكونَ هُوَ الْمُسْتَخْرِجَ لَها ، وَأَنَّهُ الْمِعْيارُ الَّذي لا يَتَبَيَّنُ نُقْصانُ كَلامٍ وَرُجْحانُه ، حَتّى يُعْرَضَ عَلَيْهِ ، وَالْمِقْياسُ الَّذي لا يُعْرَفُ صَحيحٌ مِنْ سَقيمٍ حَتّى يُرْجَعَ إِلَيْهِ . لا يُنْكِرُ ذلِكَ إِلّا مَنْ يُنْكِرُ حِسَّه ، وَإِلّا مَنْ غالَطَ فِي الْحَقائِقِ نَفْسَه !

قد تبين أن الإعراب ( إجراء علم النحو ) على هذا ، هو كشاف التأليف ، كما أدعي من قديم وأعلم تلامذتي ، وهو أمر جليل ، وعمل عظيم .

لا بُدَّ لِكُلِّ جُمْلَةٍ وَقَعَتْ خَبَرًا لِمُبْتَدَإٍ ، مِنْ أَنْ يَكونَ فيها ذِكْرٌ ( ضمير ) يَعودُ إِلَى الْمُبْتَدَأِ .

من قبل ما رُسِمَت همزة " خطأ " المكسورة المنونة ، فوق الألف لا تحتها ، وكذلك رسمت من بعد همزة " المبتدأ " ؛ فلا حاجة إلى هذا الرسم العارض ، وإن أعجب بعض الراسمين !

لَنْ تَعْلَمَ في شَيْءٍ مِنَ الصِّناعاتِ عِلْمًا تُمِرُّ فيه وَتُحْلي ( تقول فيه رأيا وتضيف جديدا ) ، حَتّى تَكونَ مِمَّنْ يَعْرِفُ الْخَطَأَ فيها مِنَ الصَّوابِ ، وَيَفْصِلُ بِيْنَ الْإِساءَةِ وَالْإِحْسانِ ، بَلْ حَتّى تُفاضِلَ بَيْنَ الْإِحْسانِ وَالْإِحْسانِ ، وَتَعْرِفَ طَبَقاتِ الْمُحْسِنينَ !

ما أَدَقَّه قانونًا للتوفيق في طلب العلم ! فمن لم يتحقق به فليراجع نفسه ، فإما أن يكمل نقصها فيه ، وإما أن يتركه إلى غيره :

" إِذا لَمْ تَسْتَطِعْ شَيْئًا فَدَعْه وَجاوِزْه إِلى ما تَسْتَطيع " !

يَقولونَ أَقْوالًا وَلا يَعْلَمونَها وَلَوْ قيلَ هاتوا حَقِّقوا لَمْ يُحَقِّقوا

من أروع ما دخل به إليَّ بعض تلامذتي ، في بعض أبحاثهم !

صَدًى جليل شامخ باذخ ، لا ينفك يزلزل أرجاء ذاكرتي !

لا بُدَّ لِكُلِّ كَلامٍ تَسْتَحْسِنُه وَلَفْظٍ تَسْتَجيدُه ، مِنْ أَنْ يَكونَ لِاسْتِحْسانِكَ ذلِكَ جِهَةٌ مَعْلومَةٌ وَعِلَّةٌ مَعْقولَةٌ ، وَأَنْ يَكونَ لَنا إِلَى الْعِبارَةِ عَنْ ذلِكَ سَبيلٌ ، وَعَلى صِحَّةِ مَا ادَّعَيْناهُ مِنْ ذلِكَ دَليلٌ . وَهُوَ بابٌ مِنَ الْعِلْمِ إِذا أَنْتَ فَتَحْتَهُ اطَّلَعْتَ مِنْهُ عَلى فَوائِدَ جَليلَةٍ (...) وَإِنَّه لَيُؤْمِنُكَ مِنْ أَنْ تُغالِطَ في دَعْواكَ (...) وَأَنْ يَسْأَلَكَ السّائِلُ عَنْ حُجَّةٍ (...) فَلا يَنْصَرِفُ - هكذا وأقوى منه النصب " فَلا يَنْصَرِفَ " - عَنْكَ بِمَقْنَعٍ ، وَأَنْ يَكونَ غايَةُ ما لِصاحِبِكَ مِنْكَ أَنْ تُحيلَه عَلى نَفْسِه ، وَتَقولَ : قَدْ نَظَرْتُ ، فَرَأَيْتُ فَضْلًا وَمَزيَّةً ، وَصادَفْتُ لِذلِكَ أَرْيَحيَّةً ، فَانْظُرْ لِتَعْرِفَ كَما عَرَفْتُ (...) ، فَإِنْ عَرَفَ فَذاكَ ، وَإِلّا فَبَيْنَكُمَا التَّناكُرُ ، تَنْسُِبُه إِلى سوءِ التَّأَمُّلِ ، وَيَنْسُِبُكَ إِلى فَسادٍ فِي التَّخَيُّلِ !

فتسقط بينكما مؤونة التعلم والتعليم أي تنقطع رحم العلم !

ثم يا وَيْلي ؛ ما أَكْثَرَ ما أَدَعُها تنقطع ، ولا خير في انقطاعها ! وماذا في أن أخسر تلميذا ربما لم ينفعني غيره !

ثم كأن الشيخ يُعَرِّضُ بالمرزوقي الذي ادعى في مقدمة شرحه للحماسة أنْ ربما لم يُعْرَفْ للاستجادة سببٌ !

إِنَّما تَصْعُبُ مُراعاةُ السَّجْعِ وَالْوَزْنِ ، وَيَصْعُبُ كَذلِكَ التَّجْنيسُ وَالتَّرْصيعُ - إذا روعِيَ مَعَهُ الْمَعْنى .

كأنْ قَدْ عَبَّرَ عن أثر الوزن في نظم الكلام !

مِمّا هُوَ أَصْلٌ في شَرَفِ الِاسْتِعارَةِ ، أَنْ تَرَى الشّاعِرَ قَدْ جَمَعَ بَيْنَ عِدَّةِ اسْتِعاراتٍ ، قَصْدًا إِلى أَنْ يُلْحِقَ الشَّكْلَ بِالشَّكْلِ ، وَأَنْ يُتِمَّ الْمَعْنى وَالشَّبَهَ فيما يُريدُ ، مِثالُه قَوْلُهُ امْرِيءِ الْقَيْسِ - هكذا والصواب " قَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ - :

فَقُلْتُ لَه لَمّا تَمَطّى بِصُلْبِه وَأَرْدَفَ أَعْجازًا وَناءَ بِكَلْكَل

لَمّا جَعَلَ لِلَّيْلِ صُلْبًا قَدْ تَمَطّى بِه ، ثَنّى ذلِكَ فَجَعَلَ لَه أَعْجازًا قَدْ أَرْدَفَ بِهَا الصُّلْبَ ، وَثَلَّثَ فَجَعَلَ لَه كَلْكَلًا قَدْ ناءَ بِه ؛ فَاسْتَوْفى لَه جُمْلَةَ أَرْكانِ الشَّخْصِ ، وَراعى ما يَراهُ مِنْ سَوادِه إِذا نَظَرَ قُدّامَه ، وَإِذا نَظَرَ إِلى خَلْفِه ، وَإِذا رَفَعَ بَصَرَه وَمَدَّه في عُرْضِ الْجَوِّ !

كبيرنا الذي علمنا السحر !

كأنما اشتملت على قوله حين قلت من " مقام الفناء " :

" (...) وَخَيْلُ خَيالِها مِعْراجُ أَحْلامي إِلى حَيْثُ الْمُحالُ يَمُدُّ رِجْلَيْه (...) " !

ثم قد خَيَّل بالكلكل القدام ، وبالأعجاز الخلف ، وبالصلب العرض ، فقاتله الله ، أي شاعر مفلق !

جَلّى لَكَ عَنْ شَأْوٍ قَدْ تَحْسَرُ دونَهُ الْعِتاقُ ، وَغايَةٍ يَعْيى مِنْ قِبَلِهَا الْمَذاكِي الْقُرَّحُ !

نكتبها " يَعْيا " كما نكتب الفعل " يَحْيا " تمييزا من الاسم " يحيى " ، ولكن ما هنا متجه قويم !

مِمّا أَتى في هذَا الْبابِ ( النظم يتحد في الوضع ويدق فيه الصنع ) مَأْتًى أَعْجَبَ مِمّا مَضى كُلِّه ، قَوْلُ زِيادٍ الْأَعْجَمِ :

وَإِنّا وَما تُلْقي لَنا إِنْ هَجَوْتَنا لَكَالْبَحْرِ مَهْما يُلْقَ فِي الْبَحْرِ يَغْرَق

وَإِنَّما كانَ أَعْجَبَ لِأَنَّ عَمَلَه أَدَقُّ ، وَطَريقَه أَغْمَضُ ، وَوَجْهَ الْمُشابَكَةَ فيهِ أَغْرَبُ !

سبحان الله !

كأنما اشتملت عليه في قولي من " هكذا ينبغي أن نكون " :

" (...) يَبْني لَه بِالرِّمالِ قُصورَ الْغَرامِ الشَّهيَّةَ ثُمَّ يَسُنُّ الزِّيارَةَ حَتّى إِذا ما أَتاها مَحاها وَأَلْقَمَ بانِيَها وَحْشَه (...) " !