عرفانية الرمز في النص الصوفي

زرارقة بولفعة

ماجستير في النقد المعاصر –جامعة الجزائر-

عندما تصير اللغة مفتتح الوعي، و نشاطا رمزيا لإدراك الوجود و أشيائه, يصير الصوفي/ الشاعر في مواجهة اللغة يصارعها عندما يتعسر عليه إيجاد المعنى في ظل الخفاء الذي تمارسه.. عندها يتوسع و يبالغ و يفرط و يدقق و يلمح, حتى إذا قصرت العبارة على الإيفاء بالدلالة, و تعسرت الإحاطة بها,توهج النص في خضم ما أباحته اللغة من أسرار و خفايا, لاسيما في أتون تعقيد الرؤية الصوفية ليبلغ في محطات أخرى استحالة الإمساك به « لأنّ المتصوف يعلن للمتلقي أنّ معارفه لا تحصل بالعقل والبرهان، بل تصدر عن ذوق ووحي وجهاد » ([1]).

عندها تغدو الكتابة الصوفية لونا خاصا تحترف الممانعة و التفلت، لترسوا في الأخير على هيمنة التأويل، لأنّها تنشد آفاق المعارف الكونية الكبرى بظاهر الوجود وباطنه، و أنى للغة عادية هذا, بل أنى لمتلق عادي مفاتيح الفتح في حصونها, إن لم يعرف مكونات الفعل اللغوي و أدواته الإجرائية التي مسحت النص الصوفي.

و لئن أمكن مبدئيا فهم بعض تركيباتها في مستواها الدلالي الظاهر، فإنّها في مستواها الباطني أشد حاجة إلى معرفة الكيفيات التي جعلت النص يستجيب إلى هذه الآليات أو تلك.

ستكون في منحنيات تشكيل النص الصوفي عدة انعطافات, قوامها رؤية صوفية بكل تداعياتها. يتحتم على العنصر اللغوي حل بعض اشكالياتها مسايرة لخصوصية النص الصوفي شكلا و معنى.

أما على مستوى الأسلوب فذاك بعد آخر, فقد ورد الأسلوب عند صاحب اللسان تعريفه بقوله: « هو الفن، يقال أخذ فلان في أساليب من القول، أي أفانين منه » ([2]).

و لعل التعريف الشائع الذي قدمه" بوفون" من أنّ « الأسلوب هو الرجل » مثل الصيغة التعميمية, غير أنّه في مستويات أخرى أكثر تحديدا كما في تعريف " بيير جيرو" « إنّ كلمة أسلوب إذا ردت إلى تعريفها الأصلي، فإنّها طريق للتعبير على الفكر بواسطة اللغة » ([3]).

و أمام التعددية التي يمارسها الملفوظ اللغوي, سواء في حالة التعبيرية العفوية الموسومة بقصدية انطباعية, أو حتى في اعتيادية الملفوظ اللغوي – أي دون حمله قيما تعبيرية أو انطباعية- فإن التحليل الأسلوبي يرى أنّها ذات قيمة أسلوبية.

إنّ الفهم العميق لهذه التعددية يدعونا إلى فهم أكبر للمتغيرات الأسلوبية في كل تأدية لغوية, و الإحاطة بالسمات التي غلبها الاستعمال من جهة, و لأنّنا في جهة أخرى ودائما بوعي « نستعمل عمدا بعض السمات النوعية و الكمية القائمة في الألفاظ و الجمل أي ننهل من النظام اللغوي ما يتلاءم والقصد الذي نرومه » ([4]).

فأمام هذا التنوع ثمة اعتبارات أخرى – إضافة إلى اللسانية منها- تسهم في تشكيل الظواهر الأسلوبية كالاجتماعية و الثقافية و النفسية. تتآلف في إحداث التغير الأسلوبي الذي يرتقي إلى مستوى الحدث في نظام اللغة التي يحمل مدلولاتها.

حينها يصير علامة فارقة بين عدة أشكال تعبيرية كما هو الشعر الصوفي, فهو ذو طابع خاص, و وفق نظام من الألفاظ الخاصة، لأنّ الركون إلى التواصل باللغة العادية المألوفة ما عاد ممكنا في هذا المستوى « لأنّ اللغة عند الصوفي تكتسي أبعادا انطولوجية وجودية و هي ليست مجرد وسيلة للتعبير عن فكر أو شعور و إنّما هو موقف في حد ذاته، لأنّها تعبر عن نوع معين من المعرفة » ([5]).

أمام هذه النظرة الخاصة جنح المتصوفة إلى استخدام الرمز,لاستحالة الانفصال بين الإشارة والعبارة,لأن «  العلاقة بين العبارة والإشارة هي العلاقة بين الظاهر والباطن, فظاهر العبارة هو ماتدل عليه من حيث وضعية اللغة, والإشارة من حيث هي لغة إلهية. وإذا كان أهل الظاهر يتوقفون عند العبارات ومعانيها التي تعطيها قوة اللغة الوضعية, فإن العارفين ينفذون إلى ماتشير إليه العبارة من معان وجودية وإلهية  » ([6]).

و في ظل انحسار اللغة الصوفية في دائرة الرمز – الذي بدوره يتعدد داخل الدائرة الواحدة - الذي وضعه, أمكن العبور عبر منافذ قليلة إلى بعض الومضات من تلك اللغة.

فإذا سلمنا أنّ استعمال الأسلوب الرمزي كان عمدا لأهل الطريق لتقريب المعنى وإخفاء أسرارهم عمن ليسوا بأهلها. أمكننا وضع جانب كبير من الإشكالات المعيقة لفهم الظاهرة,أو على الأقل التماس المبررات التي دعت لذلك.

إنّ النزوع إلى الرمز لدى المتصوفة مثل علامة فارقة في شعرهم, وغلب عليه, لأنّ إزاحة مألوف اللغة عن واقع تعبيرهم, و إيجاد لغة جديدة من أحد مقوماتها الرمز الذي يستطيع بها المتصوف أن يتعامل بها مع غيره- ولو بالحد الأدنى- لأنّ « التعبير بالرمز هو وحده الذي يمكن أن يقابل الحالة الصوفية التي لا تحدها الكلمة، و الذي يمكن بالتالي أن يخلق المعادل التخيلي لهذه الحالة، إنّه تعبير لا يخاطب العقل بل القلب... فكما أنّ الحالة الصوفية لا يحكمها مقياس الحس و العقل، ليس في مقدور لغة الاصطلاح والوضع أن تعبر عما يتناقض مع الإصلاح و الوضع » ([7]).

غداة صار الرمز في منظور المتصوفة بعدا جديدا, أفضى إلى خلق متعه جمالية في النص الصوفي خاصة لدى امتزاجه بالغزل « لأنّ حالة العشق أو المتعة التي يفترض النص الأدبي إمكانيتها ويثيرها، هي أساس التجربة الجمالية و خاصة تحريرية للمتعة الجمالية حتى و هي تمارس في أعقد خطابات المعرفة » ([8]).

              

[1] )- أمينة غصن ، قراءات غير بريئة في التأويل والتلقي ، مصدر سابق , ص54 .

[2] )- ابن منظور، لسان العرب ، مادة سلب ، ص315.

[3])-)- منذر العياشي ، الأسلوبية و تحليل الخطاب ، مركز الإنماء الحضاري (د.ط.دت) سورية span> ، ص35.

[4] )- الأسلوبية و تحليل الخطاب ، مصدر سابق ، ص 37.

[5] )- حميدي خميسي ،  اللغة الصوفية , مجلة اللغة و الأدب العدد: 10، ديسمبر 1996م ، ص33.

[6] )- نصر حامد أبو زيد, فلسفة التأويل- دراسة في تأويل القرآن عند محي الدين بن عربي, الطبعة الخامسة, المركز الثقافي العربي- الدار البيضاء- المغرب 2003, ص 268

[7])-  أدو نيس، الثابت و المتحول ، دار العودة، بيروت 1977م، الجزء الثاني ، ، ص95.

[8] )- آمنة بلعلى، تحليل الخطاب الصوفي ، مصدر سابق ، ص117.