العابثون بالتاريخ

د. عبدالله بن أحمد الفَيْفي

(14- هوس التأويل)

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيْفي

[email protected]

تُرى ماذا لو قلتُ- على غرار صنيع (د. كمال الصليبي)- إنِّي، «وإنْ كنتُ الأخير زمانه»، قد أقمت الدليل القاطع على أن (بئر سبع)، أو (شبعة التوراتيَّة)، لم تكن ببلدة بئر سبع المعروفة جنوب (فِلسطين)، بصحراء (النَّقَب)- ولا في (خميس اِمْشيط)، حسب زعم (الصليبي)- بل هي ما يسمى اليوم في جبال (فَيْفاء) محلَّة تُنسب إلى (آل شباحة)؟  ولا ملام علينا من الصليبي؛ فهو لا يرى فرقًا- على كلّ حال- بين أسماء العشائر والأماكن.  بل إنه ليجد في كلّ تكنية بـ(آل) معنى: (الإلٰه).  فإذن (شبعة التوراتيَّة) هي: ناحية آل شباحة.  والدليل «القاطع» على ذلك، وجود أماكن أخرى توراتيَّة ما زالت بأسمائها هناك في أجزاء قريبة، من جبال فَيْفاء نفسها.  من تلك الأسماء: (جرار) التوراتيَّة، وهي اليوم مكان يسمى (القرار) في فَيْفاء، و(مصرايم)، وهي اليوم مكان يسمى (مصر)، وكلاهما في الجوار العامّ في جبال فَيْفاء. وكذلك فإن (بئر لَحَي رُئي) هو إمَّا مكان اسمه اليوم: (اللاوية) أو آخَر اسمه: (رقية)، أو رابع اسمه: (الرعثة)، أو حتى مكان اسمه: (ذراع بير معوان) أو آخَر اسمه: (وادي اِمْبير).  وعلى هذا النهج نمضي في المقارنات والربط بين الأسماء؛ لننشئ تاريخًا ما سبقنا به من أحدٍ من العالَمين. 

ولقد يبدو قول الصليبي(1) عن (بئر لَحَيْ رَئي): إنها واحة (الرُّوية) الحاليَّة بمنطقة (بيشة)، مستشهِدًا بما ورد في (سِفر التكوين، الإصحاح 16: 14) من أن بئر لَحَيْ رَئي تقع بين (قادش) و(بارد)، وأن الرُّوية تقع بالفعل بين واحتين أُخرَيين، هما (الجداس) و(البارد)؛ لقد يبدو أمرًا مثيرًا للدهشة، موحيًا بإقناعيَّة مثل هذا الاستدلال.  لكن على رِسلك!.. اختبر هذا الاستدلال، وتلك القرائن التي استند إليها الرجل، وستجد أنه ممكن العثور على أضرابها في غير منطقة بيشة.  وهو ما يُسقِط التعلّق بها في بيشة وحدها دون سواها. وسأمثِّل على ذلك، كما أسلفت، من أماكن أعرفها في فَيْفاء، لن أتعدّاها.  أسوقها نماذجَ، لمعرفة أن ما عوَّل الصليبي عليه لا يعدو تصاقبًا في الأسماء، وليس بالضرورة دالًّا دلالة عِلميَّة، أو شِبه عِلميَّة، ودع عنك قوله: «لاشكّ فيها» الذي يكرِّره علينا بين فقرة وأخرى. 

لقد رأينا من قبل وجود: (القرار، ومصر، وما يشبه أن يكون (بئر لَحَيْ رَئي)) في جبال فَيْفاء، فماذا عن قادش وبارد؟

إن قادش في الأصل اسم معبودة كنعانيَّة، يعني اسمها «القدِّيسة»، وتُصوَّر عاريةً، واقفةً على أسد، ممسكةً باقة زهور باليُمنى وأفعوانًا باليُسرى.  وانتقلت عبادتها إلى مِصْر.(2)  أمّا وقد أنكر الصليبي ذلك، وذهب يلتمس المواضع في (عسير)، فبوسعنا أن نجد له كذلك أسماء في مناطق أخرى.  فهناك مثلًا مكان اسمه (القاد) في فَيْفاء، في جبل (آل المَشْنِيَة)، ومكان آخر اسمه: (بَرَدَة) في جبل (آل ظُلْمَة). وبينهما من الآبار والمناهل ما يعرفه العارفون.  ذاك فضلًا عن ثلاثة أمكنة في فَيْفاء باسم: (بردان).  فلقائلٍ أنْ يقول إذن، على طريقة الصليبي: لِمَ لا تكون (قادش) هي: (القاد)، و(بارد): (بَرَدَة)؟  وهناك بدائل أخرى، لكننا سنكتفي بهذه.  وفي (الجزيرة العربيَّة) أماكن أخرى كثيرة شبيهة.  منها، مثلًا، (جداس) في جهة (يافع) (باليَمَن).  ما يعني أن معجم الأسماء بحر لا ساحل له من التشابه، ولا يقوم على مثل ذلك استدلال ذو معنى.

ولقد عبَّر المؤلِّف بنفسه عن هذا الرصيد الهائل من الأسماء الذي بنى عليه ادّعاءاته، قائلًا: «خريطة الجزيرة لا تبخل علينا بالمعلومات اللازمة للوقوف على حقيقة الأسرار الكامنة في نصوص (التوراة) عن طريق أسماء الأماكن والقبائل.»(3)  وهي مادَّة يمكن أن يجد فيها، لو شاء، تأويلًا شبيهًا لتاريخ (الولايات المتحدة الأميركيَّة)، أو لأيّ تاريخ آخَر، ما دام سيقوم منهاجه على مقارنة الأسماء المكانيَّة بملامح حروفيَّة هنا وهناك، فإذا أعياه ذلك استنجد بأسماء القبائل أيضًا، أو العشائر، أو الأُسَر.

    وبذا فما وجده الصليبي في عسير يوجد مثله في غير عسير.  وهو في كثير من الأحيان يبدو بصُوَر أوضح شبهًا بأسماء التوراة.  فأيّ دليل قاطع تختصّ به بُقعة جغرافيَّة دون سواها؟!  ويتبيَّن أن ما عدَّه الرجل دليلًا قاطعًا لا أساس له، وإنما هي أوهامه المستمرَّة بأن تلك الأسماء أسماء تاريخيَّة موغلة في القِدم، لم تتبدّل عبر الأزمان، وأنه لا نظير لها في أيّ مكان آخر من العالم، وعليه فقد وجدها أخيرًا، وفكَّ «خفايا التوراة وأسرار شعب إسرائيل»!

قال: فقبض إخوة (يوسف) على أخيهم في (الدَّثْنة) في جبال (فَيْفاء) وباعوه لقافلة تجار متجهة إلى (مصر/ مصرايم) بين (أبها والخميس)!(4) 

فانظر، أيّها القارئ، حاضر الذِّهن، إلى هذا المرعَى الواسع الشاسع الذي يشمل ما يُسمَّى اليوم منطقتَي (عسير) و(جازان) معًا!  لقد كان هؤلاء العَراجِل من إخوة يوسف يسرحون غنمهم صباحًا من (القنفذة) فيَصِلون بمرعاهم إلى (رجال ألمع)، ثمَّ إلى (الدَّثْنة) في فَيْفاء!  أ كأنهم كانوا يرعون قطعانهم عبر الأقمار الاصطناعيَّة؛ فيطوفون من (القنفذة)، فـ(المجاردة)، إلى جبال فَيْفاء، مرورًا بـ(الكشمة) في رجال ألمع؛ كلّ ذلك في يومٍ أو بعض يوم!  ثمّ انظر إلى (يوسف)، ذلك الغلام الصغير المسكين، كيف «شَقَلَ شَقْلةً» خرافيَّة من القنفذة، أو المجاردة، إلى الدَّثْنَة في جبال فَيْفاء للبحث عن إخوته؟  ويا لها من خطوة مباركة قريبة!  لا بُدَّ أنه كان يحوم بطائرته (المروحيَّة) ليبحث عن إخوته في تلك المَواطن المتنائية جدًّا، الوعرة المتشعِّبة، أشدّ الوعورة والتشعُّب، يفتِّش فيها الجبال والوهاد والسهول والتهائم، لا يلوي على شيء، حتى عثر على إخوته أخيرًا في دَثْنَةٍ ما، هنالك في شِعاف فَيْفاء!

أ رأيت إلى أين يمكن أن يودي هوس التأويل بأهله؟!

وإلى هذا الادّعاء والتخليط، كثيرًا ما أصَّل المؤلِّف لطبخته النظرية ببعض أسماء حادثة من أسماء الأماكن، ليست بالقديمة، فإذا هو يعزوها إلى آلاف السنين.  وبعضها ما زال أهله يعرفون من سمَّاه، ولماذا.  ولو أنهم علموا عن افتراضاته، لضحكوا منه ومنها، وأنبؤوه أنهم هم من سمّى تلك الأماكن، أو آباؤهم، ولا حاجة به إلى أن يكلِّف نفسه البحث وراء تلك الأسماء ويتمحّل تاريخها.  بل لو أنه فتح معجمات البلدان القديمة، لما وجد لمعظم ما حمَّله ما لا يحتمل من التأويل والتاريخ ذِكرًا البتَّة، ولربما وجد الإشارة إلى أسماء أخرى في المَواطن نفسها، ما يشير إلى أن الأسماء التي استند إليها في التأويل هي أسماء حادثة.  غير أن مَن يقرأ الكتاب، وهو لا يعرف المواضع وأصول تسمياتها وتواريخ نشوئها، قد يُخيَّل إليه، أمام شطرنج الصليبي الحروفيّ، أنه بإزاء اكتشافات مذهلة حقًّا.  وعندئذٍ سيُلفي القُرى المغمورة قد أصبحت ممالك عتيقة، وإنْ بحجم مِصْر، والبيت العائليّ الواحد قد غدا قرية كاملة، وأسماء الناس من رجال ونساء قد تحوّلت إلى أسماء مدن وعواصم قديمة قِدَم التاريخ.  مثال ذلك قرية (قماشة) المجهولة في (الطائف) التي صارت لديه: (كمس)، الوارد في أراضي (موآب)، بوصفها اسم إلٰه أو قرية.  أو قرية (أُمّ مناحي)، التي ذكرَ أنها في منطقة (القنفذة)، وزعم أنها (محنيم) التوراتيَّة.(5)  وفصَّل في كتابه «حروب داود»(6)، ذاهبًا إلى أن «أُمّ مناحي»، تعني: «المَناحي»؛ لأن «أُم»- كما قال- أداة التعريف (الـ).  وهنا مزيج من التخليطات؛ أولاها أن أداة التعريف اللهجيَّة (اِم)، لا (أُم).  وثانيتها أن التعريف بـ(اِم) لهجة عربيَّة يمانيَّة، لا علاقة لها بالعبريَّة ولا بأسماء التوراة.  وثالثة الأثافي أن اسم القرية (أُمّ مُناحي)، أي أُمّ شخص اسمه (مُناحي).(7)  وكذا ذهب إلى إن (قرية عُمَر مقبول)، في ناحية (المَضايا) في منطقة جازان، هي المكان التوراتي: (بت عرم).(8)  مع أن الاسم، لو كان يتأمّل ما يقول، هو لقرية تُنسَب إلى رجلٍ اسمه (عُمَر بن مقبول)، واضح أنه متأخِّر جدًّا، كأسماء البدويَّتين السابقتين: قماشة، وأُمّ مُناحي.  ومثل ذلك زعمه أن قرية (آل هاشم)- وهي من قُرَى (المكارمة) في جازان- قد تكون المقصودة بأهالي (هشم)، من الجبابرة، سلالة الآلهة الواردة في (التوراة)!(9)  والمرء يعجب كيف استقام في عقل عاقل، فضلًا عن باحث، أن (آل هاشم)، الذين نُسبت إليهم القرية، كانوا هناك، وباسمهم العربي الصميم، منذ عهد ما قبل (التوراة)؟!  ولعلّه لم يكن لتلك القرية وجود، ولا لأهلها تاريخ، قبل قرنٍ من تأليف كتب الصليبي. 

ما كلّ ذاك الاستخفاف و«الاستعباط»؟!(10)  إنها لعبة حروفٍ وأسماء، لا أكثر، استحالت إلى لعبةٍ هزليَّة جدًّا، باسم التاريخ وإعادة استكشافه وتدوينه.

               

(1) انظر: (2006)، خفايا التوراة وأسرار شعب إسرائيل، (بيروت: دار الساقي)، 147.

(2) انظر: نعمة، حسن، (1994)، موسوعة ميثولوجيا وأساطير الشعوب القديمة، ومعجم أهم المعبودات القديمة، (بيروت: دار الفكر اللبناني)، 255.

(3) الصليبي، خفايا التوراة، 149.

(4) انظر: الصليبي، (1997)، التوراة جاءت من جزيرة العرب، ترجمة: عفيف الرزّاز (بيروت: مؤسّسة الأبحاث العربيّة)، 242- 243.  وكرّر الحكاية هذه، بمزاعمها الجغرافيَّة، في كتابه (خفايا التوراة، 159- 000).

(5) هنا يزعم أنها: «مَناحي»، جمع مَنْحَى، التي تعني مخيَّم! (انظر: التوراة جاءت من جزيرة العرب، 211).  ولا ندري أيّ لغة عربيَّة تلك التي تعني فيها كلمة مَنْحَى: مخيَّم.

(6) انظر: (1991)، (عمّان: دار الشروق)، 155.

(7) جاء تحديدها في «المعجم الجغرافي للبلاد السعوديَّة» على أنها من قُرَى (العرضيَّة الشمالية) في إمارة منطقة (مكَّة). (انظر: الجاسر، حمد، (د.ت)، المعجم الجغرافي للبلاد السعوديَّة (معجم مختصر)، (الرياض: دار اليمامة)، 237 (أُمّ مناحي)).

(8) انظر: الصليبي، التوراة جاءت من جزيرة العرب، 213- 214.

(9) انظر: م.ن، 234.

(10) الاستعباط تعبير عربي فصيح. يقال: عَبَطَ عليّ فلان الكَذِب، يَعْبِطُه عَبْطًا واعْتَبَطَه: افْتَعلَه.  واعْتَبَطَ عِرْضَه: شتَمَه وتَنَقَّصَه.  والعابِطُ: الكذّابُ. والعَبْطُ: الكَذِبُ الصُّراح من غير عُذر.  والعَبيط: المشقوق.  (انظر: الجوهري، صحاح اللغة؛ ابن منظور، لسان العرب، (عبط)).