الإعجاز بالانسجام الصوتي في القرآن الكريم
أبدأ بقصة عالم إسباني معاصر أراد أن يعرف أصول اللغات من خلال الأصوات، فطبق الأصوات على اللغة العربية وغيرها، وخلال ذلك استمع إلى القرآن الكريم بقراءاته المتواترة، ورأى الانسياب الصوتي لحروف اللغة العربية خلافا للغات الأخرى، فثبت له إعجاز القرآن الكريم لأصواته المتناغمة المنسجمة، فأعلن إسلامه، وقال هذه أقدم أصوات اللغات كلها .
إن انسجام أصوات القرآن الكريم وعذوبة ألفاظه وتراكيبه فضلا عن معانيه السامية لهي نغم يهز القارئ ويجعله يسبح في عالم آخر، وتسبح روحه مع العناصر الفنية الأخرى من لغة وصورة فينفذ المعنى إلى شغاف القلب بيسر وسهولة، فيكون له بذلك فعل السحر، وبرد الماء الزلال على الفؤاد، فيهتدي الضال، ويُسْتَلّ الضغن والضيق، ويشجع الجبان، ويسخو الشحيح، ولهذا قال r «إن من البيان لسحراً»([2]) "
ولا يقتصر هذا التأثير على من عرف اللغة العربية فحسب بل يتعداه إلى من يجهلها حتى قال أحد الأجانب لمن أسمعه القرآن الكريم: " لقد عزلتَني بتلاوتك الجميلة عن هذا العالم الذي نعيشه، إن لهذه الكلمات تأثيرا غريبا على نفسي "، بل إن التوتر العصبي لبعض من كان يشعر بالضيق بدأ بالتناقص مع إسماعه القرآن الكريم وإن لم يكن عربيا يفهم معانيه، وشوهد لديه انتقال المؤشر على الشاشة الطبية من سرعة 25 موجة في الثانية إلى ما يقارب منطقة التأمل والتفكير العميق والراحة النفسية ( 8-12) موجة في الثانية([4])، ولكن الجمال الصوتي فيه لا يقتصر على تجويده، فهناك عناصر صوتية كثيرة فيه كنغمات الفاصلة القرآنية، وجمال الحذف والزيادة، وأثر الصوت في الميزان الصرفي فيه، إضافة إلى جمال التكرار ثم التنغيم فيه :
أولاً- الانسجام الصوتي في الفاصلة القرآنية :
التناسق الصوتي في القرآن الكريم ظاهرة بيِّنة فيه، ويشارك في هذا التناسق البديع الألفاظ ونِسَب ورودها وجرسها وحركاتها، ومكانها في الجمل، وخواتيم هذه الجمل وبُنى تراكيبها .
والسور القرآنية جاءت في نظام إيقاعي خاص، فلا هي بالشعر ولا كالنثر المعهود عند العرب، إنها نمط فريد يقوم على ترنيم خاص يعتمد على مؤلفات إيقاعية غير معهودة، وعلى وحدات متوازنة تطرب لها الآذان وترتاح لها النفوس، ولا سيما في السور المكية، والذي يسمع القرآن العظيم إنما يسمع ضربا من الانسجام اللغوي الفريد بتآلف مقاطعه أو فواصله .
والفاصلة القرآنية هي حروف متشاكلة في مقاطع نهايات الآيات في السور القصيرة والطويلة، وهي بمنزلة القوافي في الشعر وقرينة السجع في النثر([6]) ، وتكثر الفواصل المتماثلة في السور المكية خاصة مثل القدر والأعلى والشمس، والعصر والكوثر والإخلاص، والفلق والناس، أما الفواصل المتقاربة فتكثر في السور المدنية مثل ق~ .
وفواصل القرآن الكريم لاتلتزم حرفا واحدا كما هو في السجع، ولا تهمله كما في النثر المرسل.
ويجب الأخذ بعين الحسبان أن قواعد العروض أو ما يسمى بموسيقا الشعر العربي لا تفي بجمال أصوات القرآن الكريم، فهو لايميز بين حروف المد الألف والواو والياء، مع أن ذبذبات الألف الصوتية تساوي مايقارب ضعف الذبذبة الصوتية لكل من الواو والياء المتقاربتين في عدد ذبذباتهما، فذبذبات الألف 800 ذبذبة في الثانية، والواو 326، والياء 308([8]) .
وبملاحظة الوزن في السورة نرى أنه كان في الفواصل : ( فاعلاتن- فعلاتن ) ثم ( فاعلن - فاعلان )، وهذا التناوب أدى إلى جرس عذب منسجم يستمتع به القارئ حين يطرق سمعه في فترات زمنية منتظمة، وهذا من أهم عوامل الإيقاع، لأنه يعمل على ضبطه، ويساعد في إحداث الانسجام الصوتي، والتناسب النغمي([10]) .
ومن الفواصل المتماثلة أيضا قوله تعالى في سورة الغاشية، وقد برز الانسجام الصوتي في سحرها الحلال :
" هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2)
عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3)
تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4)
تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آَنِيَةٍ (5)
فواصل هذه الآيات الكريمات عِذاب، فقد جاءت خمسة الآيات الأولى بالوقف عليها على وزن ( فاعلن)، وانتهت بحرف روي واحد هو الهاء ( التاء المربوطة عند الوقف) مسبوقة بألف تشبه ألف التأسيس([12]) . وهذا الإيقاع المتوازن والمتساوي والمتكرر جعل العرب يقولون عن الرسول صلى الله عليه وسلم إنه شاعر، لأن الشعر في إحساس الإنسان هو المشاعر والإيقاع، ولكن إيقاع الشعر العربي رتيب منتظم في تفعيلات عروضية معروفة خلافا للقرآن الكريم .
وهذا الانسجام والتشابه الصوتي بين الآيات في مطالعها وخواتمها، وتغير الإيقاع في الوسط في التزام للنغمة قد علم الأمم أن الجمال ليس في الرتابة الشعرية العروضية فحسب، بل قد يكون بتغيير النغمة في انتظام، وهذا ماترك أثره في موسيقا الشعر العربي فظهر فيها المسمطات العربية كالرباعيات والمخمسات، وفي الموشحات إذ تقومان على نظام تغيير القوافي ولكن بانتظام معين([14])، وهذا مايحصل عند قراءة هذه الآيات الكريمات مما يؤدي إلى أن يدرك القارئ أثر الهاء في ذلك الوزن .
وفي الحديث عن موسى وفرعون وامتداد طغيانه (15-26) في قوله تعالى : " هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى(19) فَأَرَاهُ الْآَيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآَخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26) " نرى في " هل أتاك حديث موسى، طوى، طغى، تزكى، فتخشى، الكبرى، وعصى، يسعى، فنادى، الأعلى، والأولى، يخشى " . جاء الروي منتهيا بألف مقصورة مع حروف قوية تناسب الموقف العصيب .
وفي الحديث عن قدراته في خلقه ( 27-33) جاء الروي (ها ) بهذه المدة متحدثا عن السماء ورفعها، وتناوب ليلها ونهارها، وعن الأرض التي دحاها وأخرج مرعاها: " أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ(33) " . ففي السماء بناها ، فسواها، ضحاها، دحاها، ومرعاها، أرساها، تبيان لمد نِعَم الأرض، وهذه القدرات كانت مسخرة لنا على امتدادها وكثرتها .
وفي حديثه تعالى عن يوم القيامة والجنة والنار( 34-41) جاء الروي بالألف المقصورة: " فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى(36) فَأَمَّا مَنْ طَغَى(37) وَآَثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) ". ففي الطامة الكبرى ،سعى، يَرى، طغى، الدنيا، المأوى، الهوى، المأوى" بهذه الألفات إشارة إلى المد في معنى العذاب الأليم والنعيم المقيم .
ثم عادت النغمة إلى (ها) عند الحديث عن السؤال عن الساعة ونهاية العالم بمرساها، والخشية منها ومن ذكراها (42-46) : " يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا(42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا(43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا(44)إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا(45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا(46) " . " ففي مرساها، ذكراها، منتهاها، يخشاها، ضحاها " مد لأهوال هذا اليوم العصيب الذي لا يعرف أوانه إلا رب العالمين .
فهل هذه الفواصل والتزامها مع تغيرها بتغير الموضوع المتحدث عنه مع مناسبتها له جاءت إلا من العليم الخبير بلغة القرآن الكريم وجمالياتها فيه ؟
وهذه فواصل عذبة في سورة القارعة، وهي من السور المكية أيضا، وقد جاءت فواصلها متماثلة حينا، متوازنة تارة أخرى وذلك في قوله تعالى :
" الْقَارِعَةُ(1) مَا الْقَارِعَةُ(2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ(3)
يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ(4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ(5)
فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ(6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ(7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ(8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ(9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ(10) نَارٌ حَامِيَةٌ(11( " .
لقد كان للاستهلال بكلمة القارعة، وهي آية وفاصلة معاً، قوة كبيرة إذ زرع بها بذور أومأت إلى ما سيكون بعدُ من وقع قوي ومعان صعبة([16]) " . وجاء الاستفهام بعد ذلك ليزيد في هول الموقف فيتعاون بذلك صوت الحروف ولا سيما القاف والراء والهاء مع المعنى فيكون بذلك تضخيم أقوى للموقف .
وفي سورة التكوير نرى الفواصل تأتي متجانسة متماثلة في معظم السورة يقول تعالى: " إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ(1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ(2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11)وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ(12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13)عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ(14) .
فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ(15)الْجَوَارِ الْكُنَّسِ(16)وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ(17)وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ(18) .
إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآَهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25)
فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29( " .
أربع نغمات في هذه السورة الكريمة :
1-من الآية (1-14 ) نرى الفواصل على وزن فعِّلَت، أو فعَلت مع تاء التأنيث الهامسة، أو لنقل على وزن فعلن أو فاعلن عروضيا، وجاءت كل آية من ثلاث كلمات ليتحقق بها التوازن الصوتي، ولقد أكسب تكرار التاء في الآيات جرساً خافتاً عذباً، وأضفى عليها قيماً تعبيرية، ذلك لأن الإيقاع الموسيقي كما يقول د.ماهر مهدي هلال يتألف جانبه الظاهري من الوزن الخاص، وجانبه الباطني من جرس الألفاظ، وإن الانفعال بالتعبير الأدبي يتبلور في صورة لفظية وإيقاع موسيقي([18])،وما يقال عن الشعر ينطبق على القرآن الكريم إذ تتوافر فيه الصفة الموسيقية .
2-والآيات من ( 15-18) تنتهي فواصلها بحرف السين مع وزن( فعلن ) بالوقف عليها لتعطي جَرسا عذبا يناسب إيحاءات التسبيح الهامس للكون الذي تجري كواكبه كلها وهي تسبح مولاها( النصب كما في سورة العاديات: " والعادياتِ ضَبْحاً(1) فالموريات قَدْحاً(2) . فالمُغِيراتِ صُبْحاً(3)، أو الوقف على ها المؤنثة كما في سورة الشمس " والشمس وضحاها(1)، والقمر إذا تلاها(2)، والنهار إذا جلّاها(3) . وهذا ما كان يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم([21]) في وزن (فعْلان) الذي تنتهي به الفواصل كلها والمكونة من آخر لفظ مع جزء من الكلمة السابقة ليشير بمدته ثم سكونه إلى امتداد الوسوسة، وكان لتكرار لفظ الناس أربع مرات، وعدم استخدام الضمير بدلا من اللفظ، وتحقيق الجناس بين الناس والخناس أثره الموسيقي أيضا .
وجلُّ فواصل السور المكية تقصر حتى لتبلغ كلمة أو اثنتين أحيانا، ولكن بعضها يطول حتى يبلغ أسطرا عديدة كما في سورة هود ويوسف وإبراهيم والحجر، وقد تكرر فيها كلمات أو آيات، وللتكرار جماله وعذوبته، فسورة الشعراء وهي من السور المكية كررت فيها الآيتان " إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين . وإن ربك لهو على العزيز " في الفواصل بعد ذكر قصص الأنبياء مع أقوامهم، وفي سورة القمر وهي من السور المكية أيضا كرر فيها " فكيف كان عذابي ونذر. ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر"، وسورة النحل جاءت فواصل آياتها(10-21) من الأفعال الخمسة بالجمع بالواو على نحو:( تسيمون، يتفكرون، يعقلون، يذّكرون، تشكرون، تهتدون، تذكّرون)،وكثر فيها هذا وما شابهه من وزن اسم الفاعل في الجمع مثل"مستكبرون(22) المتكبرين(29) " .
وانتهت معظم فواصل سورة الإسراء بنغمة ( فعيلاً) أو (فعولاً ) مع الراء أو اللام المنونين المنصوبين على نحو قوله تعالى ( وكيلاً، شكوراً، كبيراً، مفعولاً، تتبيراً ،عجولاً ... ) ووجدت حروف أخرى منصوبة بتنوين النصب مثل( رحيماً جديداً )، أما سورة الكهف فانتهت بتنوين النصب بلا مدة قبلها مثل ( عوجاً، حسناً، أبداً، بدلاً) .
على حين انتهت سورة طه بالألف غالبا على نحو( لتشقى، يخشى، العُلى، استوى...)وقلما خالفت هذه الألف على الرغم من أن آياتها بلغت خمسا وعشرين ومئة آية، وكان لهذه الألف جرس ناغم وساحر، وقد جاءت بعض الآيات بتنوين النصب، ولا يخفى أنها عند القراءة تقرأ ألفا أيضا، نقرأ منها قوله تعالى شاهداً على ذلك :
" وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا(105)فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفاً (106)لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا(107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا(108)" .فهذه الألف أعطت معنى المد في النسف والاستواء وخفوت الصوت، ولو قرئت بالتنوين لكان لها أيضا جرس لطيف، ولما انتقلت الفاصلة إلى الألف ( غير المنونة) جاءت على نحو : " وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آَدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا آَدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) " كان للمد أثره في المعنى في نفي العزم وإباء إبليس وشقاء الإنسان، وهذا المد يناسب ذاك التنوين ويتواءم مع نغمات السورة كلها . ومدود الألف في السورة أحدثت جمالا معنويا إلى جانب الجمال الصوتي بنغماته الحلوة، ذلك لأن للمدود خصائص موسيقية تجعل تأثيرها النفسي أقوى لتنوع الموسيقا بين الارتفاع والهبوط .
وسورة مريم انتهت بألف تنوين النصب مسبوقة بشدة غالبا، أو بحرف قوي كالدال، على نحو قوله تعالى : " وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98) " . وهذه الفاصلة الملتزمة بالدال المنونة المنصوبة المسبوقة غالبا بشَدَّة تناسب المعنى وتوحي بالشِّدَّة المناسبة لتهديد المولى تعالى للكفرة المشركين، وإذا أضفنا الدال المشددة أدركنا قوة النغم للموقف العسير، حتى الألفاظ الداخلية شاركت في أداء المعنى، فالسموات يتفطّرن، والأرض تنشقّ، وتخرّ الجبال، والمفعول المطلق هدّا وعدّا ، والوصف لدّاً .. جاء التنوين فيها كنقرات إضافية أكسبت الآيات دندنة لفظية متناسقة وترنما جميلا، وصدى جمالياً يوحي بالقوة، والكلام إذا انسجم بعضه مع بعض جرى على اللسان كما يجري الدهان على حد قول الجاحظ، ولذَّ سمعه وقرب فهمه وعذب النطق به([23]) .
فالسورة في مجملها مبنية على حرف قبله ردف الياء أو الواو، وعلى وزن فعول وفعيل، ولذلك لما تحدث المولى تعالى عن الذين آمنوا قال " لهم مغفرة ورزق كريم " ولم يقل جنات تجري من تحتها الأنهار مثلا، وكذلك الحال عندما تحدث عن الذين سعَوْا في آيات الله معاجزين لم يقل (أولئك أصحاب النار) بل قال " أولئك أصحاب الجحيم " لأن الألف لاتتناسب مع الواو والياء، وبذلك حقق التناسب الصوتي فضلا عن التناسب المعنوي .
وكذلك الحال في سورة الطلاق فقد جاءت قوافيها كلها على شكل كلمة تامة مثل " أمْراً ، قَدْرا ، يُسْرا، أجْرا، أخرى، نُكْرا، خُسْرا، ذِكْرا، رِزْقا، عِلْما " إلا الآية الثانية فكانت (مخرجا)، وهذه القوافي بفواصلها المنونة بتنوين النصب جعل وصف الجنة في السورة في قوله تعالى " ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا قد أحسن الله له رزقا " - ينتهي بـ (رزقا)، واختصر بهذه الكلمة وصف الجنة ونعيمها، وكانت نغمتها مناسبة للسورة، فضلا عن معناها المناسب للطلاق وذكر نفقة الرجل على المطلقة وضرورة تقوى الله سبحانه في ذلك .
وانتهت سورة البينة بروي الهاء( التاء المربوطة) وقبله شدة أو قبل حرف منه ، وذلك على نحو : " البيِّـنة، مطهَّـرة، قيِّـمة، خشي ربَّـه " . وعند وصف النار جاء قوله " أولئك هم شر البريّة " وفي وصف الجنة جاء " أولئك هم خير البريّة " وذلك مراعاة للفاصلة والمعنى معا .
وبعض الجمال يتحقق بالمجاز الذي يأتي لمراعاة الفاصلة صوتياً كما في سورة الإسراء في : " تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44) وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) "، فالفاصلة ( مستورا ) بمعنى ساترا وجاء اسم المفعول بدلا من اسم الفاعل ليناسب الفاصلة السابقة ( حليما غفورا ) وبذلك يتحقق النغم العذب، بل إن فواصل سورة الإسراء جاءت على ردف الواو والياء كما في ( مشكورا ، محسورا، بصيرا، تبذيرا... ) ولو جاءت بالألف لكانت ناشزة لطول ذبذباتها الصوتية .
ومن هذا القبيل قوله تعالى في سورة الذاريات : " وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40( " . فالله سبحانه قال مجازا ( وهو مليم) بمبالغة اسم الفاعل ولم يقل (مُلام) باسم المفعول لأنه جاء بما يلام عليه، لأن الألف أطول نغمة من الواو والياء، وينكسر النغم بها، وهذا المجاز المرسل معروف في اللغة العربية .
ومن مراعاة الفاصلة أيضا ارتباط مابعدها بها، وكان التوقف عند الفاصلة للانسجام الصوتي والتفكر المعنوي معاً، ففي قوله تعالى في سورة البقرة : "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220) " ففاصلة الآية (119) :(يتفكرون) تدع القارئ يفكر ، وكذلك يتعلق بها الجار والمجرور( في الدنيا والآخرة) اللذين جاءا في مستهل الآية (220)، وذلك لأن فواصل السورة كانت تنتهي عادة بفعل مثل يعلمون، أو بوصف مثل غفور رحيم لانسجام النون مع الميم .
وكذلك الحال في سورة الصافات : " هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ(21)احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ(22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ(23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ(24) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) " . لقد انتهت الفواصل بكلمات تنتهي بالواو والنون،ولكن الآية(23) بدأت بجار ومجرور متعلقان بفعل الفاصلة(22)،وكأن إنهاء الآية السابقة بفعل ينتهي بالواو والنون لا بمتعلق الفعل كان لمراعاة الانسجام الصوتي([25]) على وزن ( فاعلن) في تسع وثلاثين آية، منها اثنتا عشرة متواليات في مطلع السورة، وست في أواخرها، وعلى وزن (فعلن) في ست عشرة آية، وأرى بعد النظر في سبب الخبن([27])، وبه فسر بعضهم
قوله تعالى في سورة هود " وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ
إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ(26)"، فقد جُرَّت( أليمٍ ) لمجاورتها ( يومٍ) مع أنها صفة لــ( عذابَ )،
وأرجح أنها من المجاز العقلي الذي علاقته زمانية، وصف به اليوم لا العذاب للمبالغة في التحذير من
يوم القيامة أو يوم الطوفان، وأسند فيه العمل إلى زمانه كما في ( نهاره صائم وليله قائم ) .
وقد لاحظت خلال محاولة حفظ القرآن الكريم _ وأرجو الله سبحانه وتعالى أن ييسره لي _ أن الفواصل القرآنية قد تحوي حرفاً كثر أمثاله ولا سيما بعدها، وقد يتشابه صوت أو رسم حرف الفاصلة مع ما قبلها أو ما بعدها مما يسهل عملية الحفظ كثيراً :
فمن تشابه حرفٍ في الفاصلة مع حرفٍ قبلها وبعدها قوله تعالى في سورة الحشر : " ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4) مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5) " . فقد وجد حرف القاف ثلاث مرات اثنين قبل الفاصلة ، وآخرها في الفاصلة، ثم جاء بعدها كلمة ما قطعتم وفيها القاف أيضا وبذلك الانسجام الصوتي يسهل الحفظ .
ومن ذكر الحرف بعد الفاصلة قوله تعالى وقد كرر حرف القاف أيضا في سورة المائدة : " إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37) وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) " . فقد سهل حرف القاف في فاصلة الآية (37) الانتقال من معنى يتحدث عن المفسدين والكفرة إلى معنى السرقة، كما حقق الانسجام الصوتي إذ لم يقل تعالى ولهم عذاب أليم بل قال مقيم .
وكذلك ورد حرف الشين في الفاصلة وما بعدها في قوله تعالى في سورة يونس : " وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60) وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآَنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61) " . فقد هون مجيء لايشكرون لمعرفة مابعدها في كلمة شأن .
وكذلك وجد حرف الصاد في فاصلة آل عمران فسهل معرفة مابعدها لوجود كلمة صدوركم التي
تحوي الصاد، قال تعالى : " لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ
مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ(28) قُـــــلْ إِنْ تُخْفـــُـــــــوا مَا
فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(29)"
كما لاحظت كثرة حرف الكاف بعد فاصلة ( الآية 65 ) في سورة الإسراء في قوله تعالى : " إِنَّ
عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65) رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ
فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66)" .
ويكثر هذا في فواصل آيات القرآن الكريم([29]) .
من ذلك أيضا حذف ياء العلة في الفعل وياء المنقوص في الاسم من فاصلتين في سورة الفجر في قوله تعالى: " والفجرِ(1) ولَيالٍ عشْرٍ(2) والشفعِ والوَتْرِ(3) والليلِ إذا يســـــرِ(4) هل في ذلك قسَمٌ لذي حِجْرٍ(5)أَلَمْ تَرَ كيف فعلَ ربُّكَ بعادٍ(6) إِرَمَ ذاتِ العِمادِ(7) التي لم يُخْلَقْ مثلُها في البلادِ(8) وثمودَ الذين جابوا الصخرَ بالــوادِ(9) ". فالوقف على الفواصل يجعل الدال ساكنة، ولذلك حذفت ياء الفعل المعتل (يسري)، وياء الاسم المنقوص (بالوادي) فحقق كل منهما نغمة عذبة لتلائم الفواصل أخواتها في ( الفجرِ، عشرٍ، الوترِ، يسرِ، حجرٍ) و( بعادٍ، العمادِ، البلادِ، بالواد)، ولو قال بالوادي لاختل الوزن. ويقول الزركشي: " إن مبنى الفواصل القرآنية على الوقف ولهذا جاز في سورة الرعد: "وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ(11)" مع"وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12)"([31]) "، وبهذا يكون المرفوع بعد الصفة المشبهة قد حذف مراعاة للفاصلة .
وقد تحذف حركة فيكون لتسكين الكلمة أثر نغمي كما في قوله تعالى في سورة النمل : " قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ(27) اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلـقِـــــهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) " .فالفعل (ألقه) حذفت الكسرة من ضمير الغائب المتصل به ليؤدي بنبرة السكون نغمة قوية تناسب نبرة الأمر وشدته من الملك القوي سليمان .
وقد يزاد حرف في الفاصلة كما في زيادة هاء السكت في سورة القارعة في قوله تعالى : " وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ(9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَــــــــهْ(10) نَارٌ حَامِيَةٌ(11( " . فقد زيدت الهاء في الضمير مراعاة للفاصلة ولتوحي بشدة الخوف واللهاث من أهوال يوم القيامة معا .
وفي سورة الحاقة نرى أيضا زيادة هاء السكت في قوله تعالى: " فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ(19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ(20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ(25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ(26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْۜ(28)هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29)" .فالسورة مبنية على الهاء ولذلك زيدت هاء السكت ست مرات في ( كتابيه مرتين، حسابيه مرتين، ماليه، سلطانيه) تحقيقا للانسجام الصوتي مع فواصل الآيات .
وكذلك زيدت الهاء في كلمة( اقتدِهْ ) في قوله تعالى في سورة الأنعام: " أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُۖ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْۗ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا ۖ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَىٰ لِلْعَالَمِينَ (90) " . فالوقف أولى بعد زيادة الهاء وذلك لتحقيق نغمة عذبة إضافة إلى التوقف عند الاقتداء بالأنبياء تنبيها لفضلهم .
وقد تزاد ألف على نحو زيادة ألف الإطلاق في الشعر، أو الإشباع في عروض البيت الشعري وضربه، من ذلك قوله تعالى في سورة الأحزاب : " فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُـــونَا (10) " . وقوله في السورة نفسها : " إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا(64)خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا(65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُــولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آَتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68)" .
فالوقف على السكون وحد النغمة وحقق الانسجام الصوتي بين( بصيرا، ظنونا) ثم بين(سعيرا، نصيرا، رسولا ، سبيلا، كبيرا) لأنها نغمة واحدة بينما لو حذفت الألف من (ظنونا) ومن ( رسولا، سبيلا) لاختل النغمة، ولحصل فيها نشوز وهذا ما لا يمكن أن يكون في كتاب سحر الناس بأصواته العِذاب .
ثالثا : جماليات الانسجام الصوتي بالميزان الصرفي :
للميزان الصرفي جماله ونغمته لأن النبرة التي تخلفها بعض الحروف أو المدود والشدات تكسب النص جرساً عذبا، لأن كل اهتزاز صوتي أو موجة موسيقية سواء أكان عن طريق الشدة أم غيرها يؤثر في زمن النص، إذ يحتاج إلى مدة زمنية تستغرقها الذبذبات الصوتية لتصل إلى طبلة الأذن عبر الأثير([33]) " .
وفي (سورة القمر/38) : " ولقدْ صبَّحَهمْ بُكْرةً عذابٌ مستقِرٌّ " فالفعل صبَّح يشير إلى تشديد ماجاءهم من عذاب في الصباح الباكر. وفي هذه الوقفة على الشدة نبرة لأن النغمة تحدث من الحركة كما تحدث من السكون، وقد أوحت هذه النبرة بصعوبة الموقف عند الصباح .
وفي كلمة سمّاعون جرس ونغم في قوله تعالى في سورة المائدة يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آَمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آَخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ ... (41) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ... (42) " . فالكلمات (سمّاعون المكررة وأكّالون) بهذه الشدات فيها نغم وجرس قوي يشير إلى المبالغة في سلوكيات اليهود.
وفي السورة نفسها: " إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ(33)". فالأفعال (يقتَّلوا، يصلَّبوا، وتقطَّع ) بشداتها أكسبت المعنى قوة من قوة جرسها الصوتي .
وفي قوله تعالى في سورة الأعراف:" والذين يُمَسِّكون بالكتابِ وأقامُوا الصلاةَ إنّا لانُضيعُ أجرَ المُصلِحيْنَ" نرى أن الفعل يمسّكون يشير بشدته التي أعطت نغما قويا إلى قوة التمسك بالكتاب.
وقد تجتمع شدتين أو أكثر في الميزان الصرفي وذلك بالتضعيف لزيادة الدلالة على القوة أو الشِّدَّةِ والخطر مع نون التوكيد الثقيلة ، فتزداد النغمة قوة إلى قوة كما في قوله تعالى في سورة طه : " إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَىٰ(15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَىٰ (16) " . فالنهي عن الاستجابة للكفرة الذين يدأبون على صدِّ الناس عن الدين كان شديدا للدلالة على خطر اتباعهم .
وفي قوله تعالى: " ومنهم مَنْ عاهدَ اللهَ لئنْ آتانا مِنْ فضلِهِ لنصّدّقنَّ ولنكونَنَّ من الصالحينَ " ففي( لنصّدّقنَّ ) تأكيد قوي كقوة الشدات في الفعل المؤكد بالنون الثقيلة والنبرة على الدال القوية.
وقد تكون الشدتان باستخدام الإبدال في وزن افتعل وتفعَّل كما في قوله تعالى في سورة الروم : " فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ ۖ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) " . فالفعل يصَّدَّعون على وزن يتفعَّلون مع إبدال التاء قبل الصاد صادا وإدغامها مع مثيلتها، وفي ذلك زيادة في إيحاء التصدع والتفرق يوم القيامة، يوم لاينفع نفسا إلا إيمانها وعملها .
وقد تكون قوة الدلالة في الميزان الصرفي ناجمة من اجتماع حرف مد ثم شدة مما يعرف في علم التجويد بالمثقل الكلمي كما في قوله تعالى في مستهل سورة الحاقَّة: " الحاقَّةُ(1) ما الحاقَّةُ(2) وما أدراك ما الحاقَّةُ(3)؟ " فتشديد القافات وتواليها بعد الألفات السواكن، أضفى على الكلمات جرسا قويا وجوا مهيباً يناسب ذكر الأهوال والعذاب في يوم القيامة .
ومن ذلك أيضا قوله تعالى في سورة الفجر: " كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ(17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) " ، فالفعل تحاضّون على وزن تَفَاعلون المضارع الذي خففت منه تاء المضارعة، وهذا الوزن يدل على المشاركة، وفيه تضعيف الضاد بعد الألف، والمعنى يدل على شدة البخل والامتناع عن إطعام المسكين .
ومثله قوله تعالى في وزن يحوي المثقل الكلمي في قوله تعالى في (سورة غافر /47) : " وإذ يتحاجُّون في النارِ فيقولُ الضعفاءُ ... " فهو على وزن يتفاعلون، وفيه إخبار بقوة المحاججة التي ستكون بين الضعفاء ومن اتبعوهم في نار جهنم .
وقد يكون توالي الشدات في الميزان الصرفي لكلمات متعددات في النص مما يضفي مظاهر القوة كما في سورة مريم في قوله تعالى مستنكرا قول الكفرة استنكارا شديدا : " وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَٰنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا(89) تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90)أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَٰنِ وَلَدًا(91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَٰنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَٰنِ عَبْدًا(93)لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا(95) . فتوالي ثماني شدات في الآيات أوحى بقوة الغضب من ادعاءات الكفرة ،وقوة الوعيد الذي توعده بهم .
ومن جماليات الميزان الصرفي اجتماع حرفين ثقيلين كما في الفعل يصطرخون في قوله تعالى في سورة فاطر: " وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَىٰ عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَاۚكَذَٰلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ(36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُۚأَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُۖفَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ(37) " فالفعل يصطرخون في الآية مع ثلاثة عشر حرفا من (ذ، ظ، ص) أضفى جوا من الإيقاع الصاخب والصوت القوي الذي يناسب أصوات المعذبين في جهنم .
وقد يكون جمال الميزان الصرفي بتكرار حرفين في وزن فعلل الرباعي مثل " صرصرٍ، فدمدم، زلزلة، فكبكبوا..." كما في قوله تعالى في سورة الحاقة/6 : " وأما عادٌ فأُهلكوا بريحٍ صَرْصَرٍ عاتيةٍ " فكلمة صرصر بجرس الصاد والراء وتبديل حرفيها تشير إلى تقلبات الريح وصوتها وخطرها .
وفي حديث المولى تعالى عن عذاب ثمود في (سورة الشمس/14) : " فدَمدَمَ عليهم ربهم بذنبهم فسواها " . فالدمدمة بتكرير حرفيها تشير إلى تكرار العذاب عليهم حتى الفناء .
ومن ذلك أيضا كلمة زلزلة في قوله تعالى في سورة الحج : " يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلــــزَلَــــــةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1( " . فالزلزلة اهتزاز ينذر بخطر قوي يدمر بسرعة كل مايهتز .
رابعاً : نغم التكرار الصوتي في القرآن الكريم :
ترديد الصوت يضفي إيقاعا موسيقيا تطرب له الأذن ويستمتع به السمع، وقد يوحي بتفريغ شحنة الطاقة الشعورية، وهذا التفريغ جزء من الدلالة التعبيرية([35])، وكأن اللازمة وقد أضيفت إلى نغمات الفواصل صارت ضربات إيقاعية كقرع طبل الحرب في آذان الظالمين .
وهناك تكرار للّازمة الصوتية أيضاً في سورة الرحمن، فقد كررت:" فبأي آلاء ربكما تكذبان" إحدى وثلاثين مرة كما في قوله تعالى :
" خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ(14)وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ(15) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(16)
رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ(17) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18)
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21)
يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ(22) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(23)
وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآَتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ(24) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25) .
فكأن هذه اللازمة محطة تستروح فيها النفس بترنيمات المدود وبنغمة النون ...
وقد كرر في سورة الشعراء: " إنَّ في ذلك لآيةً وما كان أكثرُهم مؤمنينَ وإنَّ ربَّك لهوَ العزيزُ الرحيمُ " بعد كل قصة وردت عن الأنبياء وأقوامهم([37])، ومن الجناس القرآني الذي يحقق عذوبة وترنما قوله تعالى في ( التوبة /109) : " أَفَمَن أَسّسَ بُنيانَه على تقوى من الله ورضوانٍ خيرٌ أم من أسس بنيانَه على شَفا جُرُفٍ هارٍ فانْهارَ به في نارِ جهنمَ والله لا يهدي القومَ الظالمين " .فبين (هار ) و(انهار ) جناس ناقص حقق جمالا صوتيا عذبا، ولا سيما أنه وجد في جو تسع هاءات لها وقعها النغمي أيضا .
وفي سورة يوسف: " فتولَّى عنهم وقال ياأسفا على يوسفَ " فالجناس بين (ياأسفا ويوسف ) حقق جرسا خفيفا يناسب الحزن والألم .
ومنه أيضا قوله تعالى في سورة القصص : " ومَنْ أضلُّ ممَّنِ اتَّبَعَ هواهُ بغيرِ هُدًى مِنَ اللهِ " فالجناس بين هوى وهدى أعطة نغما حلوا في الآية .
ومن الجناس اللطيف ما وقع بين إذا الشرطية وإذا الفجائية في قوله عز من قائل في سورة الأنعام / 44: " فلما نسُوا ما ذُكِّروا به فتحْنا عليهم أبوابَ كلِّ شيءٍ حتى إذا فَرحُوا بما أُوْتُوا أخذْناهُم بَغْتَةً فإذا همْ مُبْلِسُون " .
وفي السجع تكرار للحروف أيضا يعطي انسجاما وتواؤما بين العبارات، من ذلك قوله تعالى في سورة المعارج : " سأل سائل بعذاب واقع(1) للكافرين ليس له دافع(2) من الله ذي المعارج(3) فحرف الجيم مع ألف التأسيس المكررين في سجع الآيات أعطى قوة تقرع الفؤاد .
وشبيه ذلك السجع في سورة الزلزلة بـــ (ها المؤنثة) كقوله تعالى : "إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) " .فالسجعة بالهاء المؤسسة الموصولة أوحت بنغمة الألم الممتد كثيراً.
وفي سورة الأعلى سجع لطيف بالألف في قوله تعالى:" قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى(14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى(15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا(16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى(17)" . فنغمة الألف بمدها وقبلها فتحة فسكون جعل للآيات حلاوة.
حتى الفواصل الطويلة نرى السجع فيها يضفي على النص القرآني جمالا تفرَّد به ، كقوله تعالى في سورة الطلاق : " وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا(8)فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا(9)أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًاۖفَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُواۚقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا(10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِۚوَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًاۖقَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا(11) .
فالسجع في (نُكْراً، خُسْراً، ذكْراً، رزْقاً ) لم يكتف بالراء المنتهية بألف تنوين النصب ، بل حقق بالحركات نغمة ( فعْلنْ ) فزاد جمال السجع بهذه النغمة الجميلة .
ومن تكرار الحروف قوله تعالى وقد كرر في سورة ق~ التي تبلغ آياتها خمسة وأربعين هذا الحرف وهو من الحروف المجهورة([39])
ولنقرأ قوله تعالى وقد كرر السين سبع مرات هذه الآيات من سورة غافر : " أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّىٰ يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا ۖ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) " . وهذا التكرار ولد جرسا ناغما في الآيات كان له أثره في العاطفة،
بل إن حرف السين ورد في سورة الحجر أيضا إحدى وستين مرة ، وورد معه حروف مهموسة([41]) .
وهكذا نرى جمال الإبداع القرآني بحروفه الجهرية والهامسة والناغمة لما فيها من جرس عذب وإيقاع لطيف، ويقول د. إبراهيم أنيس " الإيقاع أبو الوزن وهو ينجم عن اختيار الحروف([43]) .
ولحروف المد في القرآن الكريم جمالها العذب، ففي سورة الإسراء نقرأ : " مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21) " .
وإذا وقفنا على ساكن يصير مجموع حروف المد التي وردت في هذه الآيات (ثلاثين ) ألــِـــفاً ممدودة لفظا وكتابة، مما أدى إلى انفساح في الصوت والمعنى، وانفساح الزمن يبدو واضحا في المدود لما فيها من طول وتتابع .
وتكرار أل التعريف يؤدي إلى نغم أيضاً إن تواصل كما في قوله تعالى في سورة التوبة : " التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ ۗ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) " . فقد كررت أل التعريف تسع مرات، وكان لتواليها على وتيرة واحدة إيقاع جميل وتناغم عذب .
وقد يعدل المولى تعالى عن كلمة إلى أخرى للمجانسة الصوتية، ففي قوله تعالى في سورة ص~ : " وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَىٰ دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ ۖ قَالُوا لَا تَخَفْ ۖ خَصْمَانِ بَغَىٰ بَعْضُنَا عَلَىٰ بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَىٰ سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) ". ففي ( ففزع) تصوير للحالة النفسية التي كان عليها حينما دخلوا عليه، ولكن الله سبحانه لم يقل قالوا فلا تفزع كما هو متوقع ، وإنما قال لاتخف لأنها أنسب صوتا، وفي لاتفزع نشوز في النغم .
خامساً :جمال التنغيم الصوتي في القرآن الكريم :
التنغيم هو إعطــــاء الكلام نـــغمات معينة تنتــــج من اختلاف درجة الصوت التي تتحدد وفق عدد الذبذبــات التي يولـــــدها الوتــَــران الصوتيان([45]) .
واللغة العربية لغة تنغيميــــة لأن التنغيــــــم فيها له دلالتـه ووظيفته النحوية والمعنوية، فهو ينبه الأذهان إلى المراد، ويشد القارئ والسامع إليه كما في الاستفهام والتعجب، إذ يقوم بدور علامات الترقيم فيهما .
ويكون التنغيم بالاستفهام بإظهار نغمة الاستفهام ولو حذفت أداته، والتنغيم بالتعجب يكون بتغيير ذبذبات الصوت ليشعر السامع بالتعجب من قضية ما، وكذلك الحال في نغمة النفي والتقرير والنداء والأمر .
وفي القرآن الكريم يطالب المرتل بمراعاة أغراض الكلام الذي في ضوئه تتفاوت نبرات الصوت ارتفاعا وانخفاضا وتغييرا في سياق الكلام، والطبيعة الإنسانية تألف الكلام الذي فيه تنوع وتغيير، والخروج بالجملة عن قالبها النغمي كالخروج بها عن قواعد النحو لأن تغير النبر أو التنغيم ليناسب أغراض الكلام هو الرسالة التي توصل المعنى إلى السامع .
ففي قوله تعالى في سورة الأعراف : " وجاءَ السَّحرةُ فرعونَ قالوا إنَّ لنا لَأَجْراً إنْ كنَّا نحنُ الغالِبينَ(113) قال نعمْ وإنكمْ لَمِنَ المُقَرَّبِيْنَ (114)" نرى في قولهم ( إن لنا لأجرا؟) فيه سؤال لفرعون حذفت أداته والتنغيم يظهره، وفي جوابه تقرير للأجر، ويجب على القارئ أن يظهر نغمته، ولما استنكر فرعون إيمان السحرة قال في الآية (123) " آمنتم به قبل أن آذن لكم " أي أآمنتم به قبل ... وعلى القارئ أن يظهر هذا التنغيم أيضا وإن حذفت أداة الاستفهام لأنه يؤثر على المعنى كما يؤثر على الصوت .
وفي قول المولى تعالى لإبراهيم عليه السلام الذي ورد في سورة البقرة : " قالَ إني جاعِلُكَ للناسِ إماماً، قال ومن ذرّيّتي ؟ قالَ لاينالُ عهديْ الظالمينَ(124) " نرى أن سيدنا إبراهيم عليه السلام سأل ربه:( ومن ذريتي؟ ) وعلى القارئ الفطن أن يظهر هذا التنغيم ليشير إلى المعنى فيظهر الحالة النفسية لهذا النبي الكريم .
وفي قوله عز وجل عن شعيب وقومه في سورة هود : " قالوا ياشعيبُ أصلاتُكَ تأْمُرُكَ أنْ نتركَ ما يعبُدُ آباؤنا أو أنْ نفعلَ في أموالِنا مانشاءُ إنك لأنتَ الحليمُ الرشيدُ (87) نرى القوم يسخرون عن طريق الاستفهام في " إنك لأَنْتَ الحليم الرشيد " وإن حذفت أداته، ولا يخفى ذلك على القارئ، وهذا التنغيم تمنح تموجاته النغمية دلالات نفسية لاتعبر عنها اللغة الهجائية .
وفي سورة غافر نقرأ قوله تعالى : " وياقومِ مالي أدعُوكمْ إلى النَّجاةِ وتَدْعُونَني إلى النارِ(41) تَدعونني لأكفرَ باللهِ وأُشركَ به ما ليس لي بهِ علمٌ وأنا أدعُوكمْ إلى العزيزِ الغفَّارِ(42)" أي (أتدعونني لأكفر بالله وأشرك به) على سبيل الاستفهام، والعطف دل عليه، وأما في ( وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار ) ففيه تعجب من دعوتهم، وعلى القارئ أن يتفهم هذين ويبدي نبرة كل منهما .
وفي سورة الكهف: " واصبِرْ نفسكَ مع الذين يدعونَ ربَّهم بالغَداةِ والعَشِيِّ يريدون وجهَه ولا تعْد عيناكَ عنهم تريدُ زينةَ الحياةِ الدنيا ولا تُطعْ من أغفلْنا قلبَه عن ذِكْرِنا واتَّبعَ هواه وكان أمرُه فُرُطا (28)" فقوله تعالى( تريد زينة الحياة الدنيا) تعني: أتريد زينة الحياة الدنيا؟ والكلام، وإن كان في ظاهره موجها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يراد به المؤمنون لئلا يتخلوا عن الدعوة إلى ربهم.
وبهذا تكون النغمة هي الحكم على المعنى إن كان استفهاما أو غيره .
ولننظر إلى جمال التنغيم في الاستفهامين في قوله تعالى في سورة الزمر/19 : " أفمن حق عليه كلمة العذاب؟ أفأنت تنقذ من في النار؟ لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف مبنية تجري من تحتها النهار وعد الله لايخلف الله الميعاد " .
وهذه استفهامات متواليات لها جمالها وجرسها العذب بتنغيمها حين نقرؤها في قوله تعالى في سورة الصافات :
" فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) ؟
أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثًا وَهُمْ شاهِدُونَ (150) ؟
أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (152)
أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) ؟
ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) ؟
أَفَلا تَذَكَّرُونَ (155) ؟
أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (156) ؟ فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (157) .
وهذا تنغيم التعجب في قوله تعالى في سورة آل عمران/99 : " قلْ يا أهلَ الكتابِ لمَ تصدّون عن سبيلِ اللهِ تبغونها عوجاً وأنتم شهداءُ وما اللهُ بغافلٍ عما تعملون " .
وهذه نغمة هادئة يطمئن بها المولى تعالى نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم في سورة الفرقان، حين كذبه قومه وقالوا : " إنْ هذا إلا إفْكٌ افْتراهُ وأعانَه عليه قومٌ آخرونَ وقالوا أساطيرُ الأوَّلينَ اكْتَتَبَها فهي تُمْلَى عليه بُكْرَةً وأصِيْلا" ( الآيتان4-5)، ثم طلبوا أن ينزل عليه ملَك، أو يلقى إليه كنز، أو تكون له جنة، فرد الله سبحانه وتعالى عليهم قائلا في ( الآية10) " تباركَ الذي إنْ شاءَ جَعلَ لك خيراً من ذلك جناتٍ تجري من تحتِها الأنهارُ ويجعلْ لكَ قصوراً " ثم بدأت النبرة تعلو شيئا فشيئاً حتى بلغت أقصاها مع اجتماع الكلمات القوية في الجملة، ومع التنوين المطلق بالألف المردوفة بالواو والياء وذلك في الآيات : " بلْ كذَّبُوا بالساعةِ وأَعْتَدْنا لمَنْ كذَّبَ بالساعةِ سعِيراً(11) إذا رأتْهُمْ من مكانٍ بعيدٍ سمعُوا لها تَغَيُّظاً وزفِيْراً(12) وإذا أُلْقُوا منها مكاناً ضيِّقاً مُقَرَّنيْنَ دعَوْا هنالك ثُبُوراً(13) لاتَدْعُوا اليومَ ثُبُوراً واحداً وادْعُوا ثُبُوراً كثيراً(14) قلْ أَذلكَ خيرٌ أم جنةُ الخُلدِ التي وُعِد المتقونَ كانتْ لهم جزاءً ومَصيراً(15) " فالنبرة علت مع التكذيب حتى بلغت مرتبة التغيظ والزفير مع الحسرات والضيق والثبور وكان التكرار يزيد في هول الموقف ليدل على شناعة الفعل
ونغمة النفي ثم التقرير تميز بين قولين قد يتوهم أنهما قول واحد، وذلك في قوله عز وجل في سورة يونس(64) : " ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا هو السميع العليم "فتغير النغمة من النفي إلى التقرير قبل ( إن العزة لله جميعا) تميز بين هذا القول وما سبقه من نفي .
وتغير النغمة من الاستفهام إلى النفي يحدث تنغيما لطيفا في قوله تعالى في السورة نفسها (78) : قالوا أجئتَنا لتلفِتَنا عما وجدنا عليه آباءَنا وتكون لكما الكبرياءُ في الأرض وما نحن لكما بمؤمنين " . فالاستفهام انتهى بكلمة الأرض، ثم بدأ النفي للدلالة على الإصرار على الكفر، وتغير الصوت هو الذي يفصل بين ماهو عطف وما هو استئناف بالنفي، ولا بد قبيل تغيير الصوت من وقفة زمنية تحدث نغما لطيفا .
وفي سورة يوسف : " فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89) قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آَثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ(91)قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92( . نرى أن نغمة الحزن بعد النداء تطغى على الآية(88) في مستهل قولهم (يا أيها العزيز مسَّنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدَّق علينا ... )وكيف لا نرى انكسار النفس ممن يطلب الصدقة بعدما مسَّه وأهله الضر ؟ ثم يأتي تنغيم الاستفهام ممزوجاً بالعتاب من شخص عزيز تُطلَب منه الصدقة، ثم تنغيم الاستفهام التقريري في( أإنك لأنت يوسف ؟) ثم عند التقرير مع القسم في قول الإخوة (تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين) ، ثم تنغيم التقرير وفيه مسحة من العزة والإيمان في (أنا يوسف وهذا أخي قد منَّ الله علينا..) (لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم) .
وفي السورة نفسها/29 نرى تنغيم النداء في قوله تعالى " يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين " والنداء الأول ليوسف عليه السلام والتقدير يا يوسف، والثاني لامرأة العزيز ، وفي الآية / 84 من هذه السورة نرى تنغيم التوجع والتحسر على يوسف يصدره والده الذي فجع به وذلك في قوله تعالى عنه : " يا أسفا على يوسف " .
وقد يكون انخفاض الصوت له دلالته المعنوية وذلك حينما يحكي القرآن الكريم عقيدة الكفرة إذ يجب أن نخفض الصوت تأدبا مع الله سبحانه، وإشعارا باستنكار هذه العقيدة، كما في قوله تعالى يحكي أقوال اليهود والنصارى: " وقالوا اتخذ اللهُ ولدا" ( البقرة / 116 ) و "وقالت اليهودُ يدُ الله مغلولةٌ " ( المائدة / 56 ) ثم يرفع الصوت في الآية نفسها مع ( غُلَّتْ أيديهم ولُعِنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفقُ كيف يشاء ) .
وقد تكون النغمة تهكمية ساخرة عالية كما في قوله تعالى يسخر من الكفرة الذين سخروا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن المؤمنين كما في قوله تعالى" ذُقْ إنكَ أنتَ العزيزُ الكريم.
هذا هو السحر الحلال،وكيف لاينحني المرء سجودا لمن أنزل هذا الكلام العظيم معنى ومبنى؟
([2] ) السيرة النبوية ج1 / 275 -276 .
[4] ) لن أتطرق لجمال الأصوات في تجويد القرآن الكريم، فهو بحث مستقل أشبع دراسة عند علماء التجويد ، وإن كان جماله يضاف إلى جمال الأصوات القرآنية التي أنا بصدد تبيانها ، وينظر لجمال تجويد القرآن الكريم في المدود والغنة وفي الترقيق والتفخيم والوقف والابتداء وفي صفات الحروف في كتاب التعبير القرآني ودلالته النفسية / 164-185 .
[6] ) الفواصل المتماثلة أو المتجانسة : هي التي تنتهي بحرف واحد يسمى الروي، وقد يكون قبل الروي حرف الألف ملتزما ، أو الواو والياء، ويسمى هذا الحرف الردف ، كما في " والطور ، وكتاب مسطور ، في رق منشور..." : الطور /1-4 .أما الفواصل المتقاربة فهي التي تنتهي بحروف متقاربة كالميم والنون ، كما في الفاتحة . والفواصل المتوازنة تراعي الوزن دون الحرف كما في قوله تعالى " كالفراش المبثوث.. كالعهن المنفوش " ( على وزن اسم المفعول) : الفاصلة القرآنية / 145-147 .
[8] ) موسيقا الشعر - عياد / 108
([10] ) ينظر لذلك في موسيقا الشعر- عياد / 94 ، والشافي في العروض والقوافي /255
[12] ) الفاصلة في القرآن / 195
[14] ) التحليل الألسني / 137
[16] ) الأسس الجمالية في النقد / 276
([18]) الأسس الجمالية للإيقاع /19 .
[20] ) الفاصلة في القرآن / 136
[22]) جرس الألفاظ /178 .
[23] ) ومثلها في ذلك الآيتان 9 و10 من سورة المائدة ، وفي المعنى نفسه " ... وأجر عظيم " ثم " ... أصحاب الجحيم "
[25] ) القافية هي الحرف الأخير في البيت الشعري إلى الساكن قبله مع المتحرك الذي قبله، وفي القرآن الكريم تطبق على نهايات الآيات أو فواصلها موسيقيا .
[27] ) ينظر للجر على الجوار في مغني اللبيب / 646: (القاعدة الثانية : أن الشيء يعطى حكم الشيء إذا جاوره )، ومنه قوله تعالى في بعض الآراء في تفسير آية التيمم في المائدة " فامسحوا برؤوسِكم وأرجلِكم إلى الكعبين " لمن قرأ ( أرجلِكم بالكسر ، وينظر لها في تفسير أبي السعود م2 /11 . وينظر لقوله تعالى " عذاب يوم عظيم " في المرجع نفسه م2/200 . وعلى أي حال فالجر على الجوار أسلوب من أساليب العرب التي لا تنكر .
[29] ) ما سيذكر من جماليات الزيادة والحذف في الفواصل يمكننا أن نضمه إلى جماليات الفاصلة أيضا، ولكني أفردته بالذكر تنبيها لأهميته، ولأن بعضه لم يكن في الفاصلة ، ولارتباطه بالزيادة والحذف عامة . وخلال حديثي عن الإيجاز بالحذف في هذا الكتاب ذكرت حذف ياء المتكلم، وحذف نون كان، وياء المنقوص والمعتل وتاء المضارعة .
[31]) تفسير أبي السعود م4 / 28
[33] ) في ظلال القرآن 3 / 1655 .
[35] ) الفاصلة القرآنية / 209
[37] ) جرس الألفاظ / 272
[39] ) الإيضاح في علوم البلاغة للقزويني /
[41] ) قواعد النقد الأدبي / 42
[43] ) فقه اللغة وخصائص العربية / 256-262 .
[45] )موسيقا الشعر - عياد /36 ومباحث في علم اللغة /136-138 .
وسوم: 635