محبرة الخليقة (45)

تحليل ديوان "المحبرة" للمبدع الكبير "جوزف حرب"

ملاحظة : حلقات من كتاب للكاتب سوف يصدر عن دار ضفاف (الشارقة/بغداد) قريباً . 

# نهد المرأة هو الطريقُ المستقيم إلى الله :

"حاولتُ منذ سنوات طويلة ، يا بني ، أن أرى الله ، ولكنني لم أنجح . سنوات طويلة وأنا أسجد .. كنت أصرخ : طيّب .. دعني لا أرى الله طالما أنني لا أستحق ذلك . ولكن دعني أقوى على الإحساس بحضوره اللامرئي لكي أحس أنا أيضا بالغبطة ولو لطرفة عين . ولكي أعرف أنني مسيحي وأن سنوات تنسّكي لم تذهب عبثا . كنت أصرخ وأصوم وأبكي – دون جدوى . كان قلبي عاجزا عن أن ينفتح ويسمح لله بالدخول فيه . لقد أقفله الشيطان وخبّأ مفاتيحه .

لقد عذّبتُ نفسي سنوات وسنوات . وأحسستُ أن حياتي تضيع هباء . لا الصلاة ولا الصوم ولا العزلة كانت قادرة على مساعدتي في أي شيء . ثم هيمن علي شك رهيب في أنه قد لا يكون هذا هو الطريق الذي سيقودني إلى الله  .

وذات يوم أمرني رئيس الدير أن أذهب للعمل كمشرف على ملحق كان يملكه الدير .. لم أكن قد رأيت الناس مع أطفالهم ، أو سمعت ضحكة ، أو وقعت عيني على امرأة . كان عمري قرابة الأربعين عاما . إحدى وعشرون سنة منها في السجن .

على باب الملحق رأيت امرأة تحمل طفلا بين ذراعيها وترضعه . لوهلة – سامحني يا ربّ – ظننتُ أنها مريم العذراء . وكنتُ على وشك الإنحناء والصلاة لها . لم أكن قد رأيت امرأة منذ عشرين عاما . أما هي فزررت قميصها وأخفت ثديها حالما رأتني .

من هنا بدأ الصعود . منذ اللحظة التي رأيت فيها ثديها لم أعد أعرف الهدوء . هناك ناسك عظيم اسمه القديس ( انطونيوس ) يقول :                                                                             ( إن كنت في راحة ، وسمعت زقزقة السنونو ، فإن قلبك لا يظل محتفظا بهدوئه السابق ) .                

حسنٌ إذن ، إن كانت زقزقة السنونو تستطيع أن تلقي في قلوبنا القلق ، فما الذي يستطيع أن يفعله ثديٌ عارٍ لامرأة ؟ لم أكن قد لمست امرأة من قبل . رحت أسوط نفسي بسرعة إلى أن يتحول جسدي كله إلى جرح كبير . لكن لا جدوى . ما أن ينخفض ضوء المصباح قليلا حتى أرى ثديا أبيض يلمع في الظلام . وذات ليلة حلمت حلما رهيبا ما أزال أرتعش حين أفكر فيه . حلمت بظلام حالك ووسطه ثدي أبيض . وأنا بردائي وقبعتي ولحيتي مضغوط عليه . أرضع ! .

اندفعتُ إليها وأمسكتُ بها من شعرها . وبحركة واحدة فتحت أزرار قميصها كلها . كم من السنوات مرت منذ ذلك الحادث ؟ ثلاثون ؟ أربعون ؟ ولا سنة . لقد توقف الزمن . ثلاثين عاما ، وأنا أفكك أزرار قميصها ولا نهاية لذلك . هناك دائما زر آخر .

للمرة الأولى أحسستُ بالله يقترب مني . يقترب بذراعين مفتوحتين . أية صلوات أدّيتُها طوال ذلك الليل حتى طلوع الفجر ! وبأي كمال انفتح قلبي وسمح لله بالدخول ! للمرة الأولى في حياتي . للمرة الأولى في حياتي اللاإنسانية الجافة . إلى أية درجة هو الله طيب ، وإلى أية درجة يحبُّ الإنسان ، وكم أنه أشفق عليه لكي يخلق له المرأة ، ويخصّها بفضلِ أن تقودنا إلى الجنة عبر أقصر الطرق وأكثرها ضمانا . المرأة أقوى من الصلاة ومن الصوم وأقوى من الفضيلة .

عند الفجر نهضتْ المرأةُ وخرجتْ .. وبدأت أبكي . أحسستُ بأن الله في حجرتي منحنيا على مخدتي ، وكنت واثقا من أنني لو مددت يدي للمسته . امرأة هي التي منحتني هذا اليقين – أكرر : امرأة وليست صلاة أو صياما ؛ امرأة ، ليباركها الله ، هي التي أدخلت الله إلى غرفتي .

منذ تلك الليلة وطوال ثلاثين أو أربعين سنة أجلس وأفكر لنفسي : أيمكن أن تكون الخطيئة أيضا في خدمة الله ؟

لم أندم . ولن أندم . ولو أتيحت لي الفرصة لفعل ذلك مرة أخرى فسأفعل " (82).

عودة :

لكن جسد الشاعر المؤثِّم والمخطّأ والمنبوذ بقسوة ؛ قسوة أجّجت فيه نار صراعات لا ترحم ولا تهدأ ، لم تنشب جروحه الداخلية من التقاليد الدينية والاجتماعية العاملة على تجريمه حسب ، بل من القهر والعدوان الذي ملأ جسمه جراحاً لا تبرأ . ها هو ينظر إلى جسده في المرآة .. وإلى واقع حياته في مرآة جراحه ، فيراهما متكاملتين لا تعرضان سوى صور الموت والخراب .. مجاعات وقتلى وقبور .. قُطعَ رأس البياض وقُدّم للسواد على طبق من لهيب ، السواد الذي سوف يغمر ما قد تبقى من الشمس في أرواحنا ليعم ظلام الأبدية الخانق :

(             تأملتُنيْ . لستُ إلّا جراحاً . وليستْ

     طريقيَ

              إلّا صليبيْ .

              ولستُ بماضٍ

              لغيرِ غروبيْ . (...)

              بكاءٌ على الريحِ . سودُ المناديلِ

 راياتُ هذا الزمانِ ،

              وللآنَ ،

              لا شيءَ في الأرضِ

                      إلّا حروبي . – ص 1150 – 1153) (نصّ"المرآة") .

وفي كلّ الأقسام السابقة تتكرّر ثيمة محدّدة بصورة ضاغطة وملحّة لا يمكن أن يطالع الناقد أو القاريء نصّاً من نصوص الشاعر إلا ولمحها ؛ سافرة مسيطرة على مجمل شكل ومضمون النصّ ، أو بارزة بين ثيمات أخرى مساوية لها في الأهمية ، أو مستترة تتحرك من وراء ستار المعاني التي تغلفها وترتبط بها . هذه الثيمة هي الرغبة في "الرحيل" أولاً ، وما يرتبط بها من رغبة مكمّلة ممهّدة هي الرغبة في عدم المجيء أصلاً إلى هذه الحياة ، والندم على المجيء حين حصل ، والنظر إليه على أنه مجيء مفروض وقسري وقع برغم إرادة الشاعر . وفي الكثير من النصوص يأخذ إعلان الشاعر عن رغبته في الرحيل وتطليق هذه الدنيا ، وكأنه "تهديد" يوجّهه إلى من يسمعه . ومن عادة الناقد المحلِّل أن ينظر بعين الريبة والتفحّص إلى كلّ سلوك شعري يتسم بـ "الإفراط" ، إفراط في الكمّ ، وإفراط في النوع ، وفق قاعدة كلّ شيء فاق حدّه ، تضمن ما هو ضدّه حسب أوالية "التكوين العكسي" أو "التشكيل الضدّي" التي أشرت إليها سابقاً . هنا يشكّل الشاعر المباني للتعبير عن معنى الرحيل وعدم الرغبة في البقاء أو في المجيء أصلاً ، بمفردات مترادفة كثيرة ، وبصور غنيّة ثرّة لا تكرّر نفسها شكلاً ، وإن حافظت على وحدة مضمونها وثباته . ويأتي التكرار في النصوص أمّا في استيلاء هذه الموضوعة على نصٍّ طويل بكامله ، أو في نصوص قصيرة تبزغ بين نصٍّ وآخر ، حتى ليمكننا القول بطرافة أننا نواجه بين كل نصٍّ ونصٍّ عن الرحيل ، نصّاً آخر عن الرحيل أيضاً . وفي هذه اللحظة ، وبعد أن تأملتُ نصّ "المرآة" السابق ، يأتي نصّ "العبور" الذي يعبّر عنوانه عند النظرة الأولى عن "رحيل" بشكل آخر ، ويؤكّد ذلك المتن الذي يخاطب فيه الشاعر مجموعة من الأشخاص / الأشباح مكلّلين بالسواد ، وأيديهم متدلّية كأيدي المعدومين شنقاً ، تبدّدت أرواحهم البيض ، فصارت رماداً قديماً وأسود (ص 1154 – 1156) .

ثم يأتي فوراً نصٌّ قصير عنوانه "خيار" :

(                   إذا خيّرونيَ حذفَ الذي لستُ

    في حاجةٍ كيْ أعيشَ إليهِ

                    لكنتُ اكتفيتْ

                    بأنّيَ يا ليتني

                    ما أتيتْ . – ص 1157) .   

ثم نطالع نصّاً طويلاً عنوانه "هو الحلم" ، يتبعه مباشرة نصٌّ قصيرٌ آخر عن الرحيل عنوانه "نداء" :

(                 إذا ما وجدتُ قميصيْ ، وبحريْ ،

      وأغنيتيْ ، والمدى ،

                  والشراعا ,

                  فأجملُ ما ساقولُ :

                              وداعا . – ص 1162) .

فما الذي يوحي به هذا "الإفراط" في نصوص الرحيل ويكشفه من رغبات وصراعات الشاعر التي تجيش في أعماقه ؟

إنها تعبّر – وبلا تردّد – عن عدم مصداقيته في الرحيل . هناك قرائن السمات المركزيّة للنصوص نفسها التي حلّلناها ، وفي مقدّمتها سمة التضاد الوجداني التي تتصارع فيها رغبة الرحيل ضد رغبة البقاء وتمتزج بها وتلتحم . وهناك "منهج" الشاعر في حياته الشعرية ؛ المنهج الذي يقوم على أساس إيمان الشاعر الراسخ بأن "أجمل ما في الأرض أن يكون عليها" . ثمّ هناك – وهذا هو الشاهدُ الأكبر – هذا التعلّق الفائر "النصوصي" بالحياة برغم آلامها ورغم كونه يُصلب على صليب معاناتها ، وانهمامه التفصيلي الحارق بما يحدث لها من واقع مأساوي ، وبما ينتظرها من مستقبل أسود ، والدور الذي ينتظره في درء ذلك حتى لو كان بالنصوص الساخطة والتصوير الشرس الناقم .

لكن ما هو أكثر دلالة هو النصّ المحصور بين نصّي الرحيل القصيرين اللذين ذكرتهما قبل قليل ، وهو قصيدة "هو الحلم" الذي يكشف ببلاغة نفسية وتصويرية عالية المسكوت عنه اللائب في أعماق الشاعر :

(                   هوَ الحُلْمُ

                    في أنني لا أموتُ ،

                    وألّا يظلَّ على الأرضِ

                    حربٌ ،

                    وجوعُ ،

                    وأنّ الذي هو بيني وبينكَ

     أسلاكَ شوكٍ على وطنينِ يصيرُ حدائقَ تغرقُ

                    فيها البيوتُ ،

                    وأنّ الذي كان فينا رماحاً

     يصيرُ كزينةِ عيدٍ تُضوّاُ فيها

                             الشموعُ . – ص 1158 و1159) .

إنّ من يكون همّه الأوحد هو الرغبة المستميتة في الرحيل ، ومغادرتها بلا رجعة ، عليه أن ينفض يديه من كلّ متعلقاته بالأرض ، وأن ينظر قدماً نحو عالم اللاعودة ، ولا يلتفت إلى الوراء . وإذا أعدتَ قراءة هذي القصيدة فستلاحظ أن البيت الأول الذي يستهل به الشاعر قصيدته هو بيت "ذاتي" صرف ، أمنية تراوده في كل نصوصه ، وطوال حياته الشعريّة ، ويجوز أنها تقف وراء كل انشغاله بالإبداع الشعري ، وهي "أن لا يموت" . ثم تنشغل القصيدة كاملة بالشأن العام المتعلق بحال الأرض البائس الممتليء ضيماً وهمّاً ، وحلمه الطويل / أو وهمه لا فرق ، في أن يشيع الجمال والشعر والرقص والعشق في أرجائها . ولكنه سرعان ما يستيقظ فزعاً على صوت قريةٍ أبيدت ، وطفل حُرم من حضن أمّه التي عّتق نهدها لاحتفال اللصوص . وهو يتحوّل تدريجياً من الشأن العام "الرومانسي" الشفيف المحلّق وسط زقزقات العصافير ، ورفرفة المياه ، وروائح الخزامى ، إلى الشأن العام الواقعي والسياسي العملي ذي المسحة الثورية حيث التقتيل والتجويع الذي يكشف موت ضمير العالم :

(                      هو الحلمُ ،

                          والحلمُ ،

                         والحلمُ ،

                       لكنني الآنَ ألمحُ مجموعةً من

     جياعٍ تُزيّنُ اعينها المطفآتِ

                         الدموعُ ،

                       قد انتشرت بينها بعثةٌ منْ

     وكالةِ غوثٍ تُعَدُّ بأيديَها الفارغاتِ

                               الضلوعُ . – ص 1161) . 

ثم يأتي الدليل الذي يزيد من مصداقية استنتاجنا . فبعد هذا النص "هو الحلم" يأتي – كما قلت – نص رحيل صارخ هو "نداء" ، الذي يكشف رغبة لاواعية في تعطيل الرحيل رغم إعلانه من خلال ربطه بمستلزمات تاثيث مركب الرحلة الذي تميّع جاهزيّته "إذا" المستقبلية المتضمنة معنى الشرط ، وبعده نقرأ نصّاً عن "الرحيل" من مقترب آخر هو "خانني الكلُّ" (ص 1163 و1164) حيث يرى أن لا شيء يجعل هذي الحياةَ مناسبة للتفتّح في الشمس كالياسمين .. فقد خانه الكلّ (ص 1164) ، لياتي نصّ طويل هو "سكّراتي الصغيرة" (ص 1166 – 1172) يجهض كل مزاعم الرحيل السابقة ، ويؤكّد أنها لا تتعدى دائرة الفعل الدفاعي النفسي حيث يعلن في مفتتحها رفضه انتظار "الفرج" لما بعد موته ليتخلّص من  الدمع والفقر والألم الحجري الذي يطحن روحه . إنّه يريد تثبيت راية انتصاره هنا ، على هذه الأرض ، والآن ، في زمنه الشخصي ، خلال سنوات عمره القصير ، وليس في حياة أبدية يوعد بها ولم يرها أحد ، ولم يعد منها أحد بالبشرى . ثمّ ما هو انتصاره الذي يطالب به بكل هذا التحمّس ، ويريد انتزاعه بكل هذا العناد . إنه انتصاره في معركة حياةٍ طاحنة من أجل "سكّراته الصغيرة" ، فسكرّاته هي مسراته الصغيرة والبسيطة التي يريد التشبّع بها هنا والآن ، على هذه الأرض . وأيّ مسرّة مهما كانت عظيمة يوعدُ فيها "هناك" .. أو في حياة أخرى بعد الرحيل لا قيمة لها ابداً :

(                       أريدُ انتصاريْ ،

                                     هنا ،

                        زمني السوسنيَّ ،

                                     هنا ،

                        وهنا بيتُ وجهي المطلُّ على

     غابةِ الكونِ كي أتنزّهَ فيها .

                        هنا ،

                        كلُّ شيءٍ .

                                          هناكَ

                                          سُدى

                                          كلُّ شيءٍ . – ص 1166 و1167) .

ثم يطرح أمامنا بكل بساطة وتلقائية المعادلة التي تهير ادعاءات الرغبة في الرحيل من أساسها وبصورة كاملة :

(                      ولستُ هنا

                       بانتظارِ الرحيلِ .

                       إذا العمرُ محضُ انتظارٍ ، لماذا

      أقاومُ منْ أجلِ هذا البياضِ ؟ وحريّتيْ ، كيفَ

      أعطي دمائي لها ؟

                        هنا

                        كلُّ شيءٍ .

                        ولا شيء بعدُ يبدّلُ أنّ هنا

      كلُّ شيءٍ .

                        وما الشيءُ ؟

                        أشياءَ

                        تبدو صغيرهْ :

                        جناحيْ ،

                        خُزامى سريريْ ،

                        وسنبلتيْ .

          كلّها

                        سكّراتٌ صغيرهْ . – ص 1167 و1168) .

ومع كل صورةٍ وبيتٍ في القصيدة ، يتصاعد إصرار الشاعر العزوم على أنه لن "يرحل" ، ولن يغادر هذه الأرض أبداً ، وسيمضي يقاتل من أجل انتزاع أشياءه الصغيرة حتى لو مرّت عليه عصور طويلة كثيرة .

وسوم: 635