قراءة في رواية اولاد حارتنا لنجيب محفوظ

ربما كانت رواية أولاد حارتنا للكاتب المصري نجيب محفوظ من أكثر الروايات العربية إثارة للجدل. فالرواية، التي مُنعت من النشر في العديد من البلدان العربية، نوّهت بها الأكاديميّة السويديّة عندما منحت نجيب محفوظ جائزة نوبل للأدب، كما هو مذكور على الغلاف الخلفي للطبعة التاسعة للرواية، والتي هي بحوزتي.

هذه الإشكاليّة شجّعتني على قراءة هذه الرواية، التي سمعت عنها كثيرا ولم يسبق لي أن قرأتها ولم أقرأ شيئا مما كتب عنها القرّاء والنقّاد على مدار سنين طويلة منذ نشرها. وأحببت أن يكون رأيي في الرواية نابعا من فهمي الخاص لها دون أن أتأثر بما كتبه غيري. لذلك إذا وافق رأيي تحليل أي كاتب آخر فهو محض صدفة وتوارد أفكار.

في رواية أولاد حارتنا، يرسم الكاتب صورة قاتمة للمجتمع المصريّ وربما العربيّ أو حتّى المجتمعات الإنسانيّة بشكل عام، فهو مجتمع قذر منحطّ، فيه مجموعة من السكارى والحشاشين والأغبياء الذين لا ينقادون إلا بالعصا، وتنعدم فيه الفضيلة والخلق الحسن، ويندر فيه الخير ويكاد يكون معدوما. صورة قاتمة جدا يندى لها جبين الإنسانيّة ويرفضها أي عاقل لشعبه أو لأمّته، فمهما بلغت الأمة من التخلّف والضعف والهوان والجهل لا تصل إلا الحدّ الذي صوّرة الكاتب، فهو امتهان لمعاني الإنسانيّة وكرامة الإنسان. وكلما ظهر مصلح في هذا المجتمع وحاول إحقاق العدل وفرض النظام والاحترام، لا يدوم عدله طويلا، بل ينتكس المجتمع ويعود عصر العبودية والإرهاب والظلم، وكأنّ هذا المجتمع يرفض أن ينقاد إلا لعصا الجبابرة وتسلّطهم، وكأن هذا المجتمع قد ألف العبودية واستعذب طعم السياط على ظهره ويرفض الحياة دونها.

هل هذا التوصيف لهذا المجتمع، المتمثّل في حارة الجبلاوي والظلم الطويل الذي حاق بهم، هو دعوة لتغيير هذا الوضع والنهوض من الأوضاع القاتمة التي كان وما زال يعيشها الشعب المصري والعربي؟ أم أنّه تبرير للدكتاتورية، ودعوة لمواصلة الخضوع والخنوع، لأنه لا سبيل إلى الإصلاح في مجتمع فسدت سريرته وخبث طبعه، واستطاب سياط الفتوّات والجلّادين؟ تساؤل يجول في نفس القارئ كلما قلب صفحة من صفحات الكتاب، وتطلّع ليرى الحق يسود أو يشع نور للعدل يضيء هذه الظلمة ولو لبرهة من الزمن، فلا يجده ولا يرى إلا الصورة نفسها تتكرر مرة بعد مرة لمجموعات السكارى المخمورين والحشاشين الأذلاء.

ويشدو الشعراء في كل مقهى تاريخ حارة الجبلاوي، ويسرد الرواة سيرة الماضين، ويعزف أرباب الربابة مرّة بعد مرّة، ثمّ لا نلحظ دورا لهذه الربابة وتلك الأشعار في إشعال روح المقاومة لدى هذا الشعب المقهور، بل يطرب لها الأذلاء ويرددونها، مكرّسة روح الخنوع والضعف لديهم. وما هذه الأشعار وتلك الحكايات إلا أداة مهمّة في أيدي الفتوّات ومن خلفهم ناظر الوقف لإخماد أي صوت يمكن أن ينهض لمعارضتهم، ويبقي الشعب، في حارة الجبلاوي، متلهيّا في هذه التراهات التي تتكرر على مسامعه مرّة بعد مرّة حتى يصدّقها ويظنها جزءا من ناموس هذا الكون، لا تتغير ولا تتبدّل.

أليس هذا هو دور وسائل الإعلام، ليس فقط في مصر أو في العالم العربيّ فحسب، بل حتّى في المجتمعات التي تتفاخر بالحريّة والعدالة؟ فوسائل الإعلام ما زالت تصنع أصناما من العجوة وتشكّلها كما تريد، وتسوق العبيد إلى عبادتها وتقديسها، ولا يفطنون لأكلها مهما بلغ منهم الجوع مداه. أعتقد أن الكاتب تنبه لهذا الأمر في وقت مبكّر وكان لهذا التكرار في الحكايات التي يكررها الحكواتي وصاحب الربابة في المقهى مغزى وهدف. فالكاتب نفسه عاصر حقبة الملكية في مصر وخضوع مصر للمستعمر، ثمّ توهم كما اعتقد كثيرون غيره أن الأمور ستتغير بعد "ثورة" عام 1952، لكنه اكتشف أن صنما هدم ليُبنى صنم آخر أكبر وأكثر شراسة منه، وأن وسائل الإعلام التي كانت تسبّح بحمد الصنم الهالك هي ذاتها من تبني الصنم الجديد وتبارك عبادته. وتوقع، ولم يخب ظنّه، أن الأمور ستؤول إلى أسوء مما كانت، وسيكون لوسائل الإعلام الدور الأكبر في ذلك.

وصف الكاتب المكان الذي تدور فيه أحداث روايته بدقة متناهية، لكنّه لم يحدد الزمان الذي تدور به الأحداث وجعله مبهما، ربما لأنه يريد أن يوحي أن هذا هو ديدن الشعوب الضعيفة الجاهلة في كل زمان. لكن عدم تحديد الزمان يخلق إرباكا شديدا لدى القارئ الذي يدعوه سياق الرواية لتخيّل أحداثا موغلة في القدم، ثم يرى نفسه أمام أحداث ربما تدور في الوقت الحاضر. أعتقد أنّ هذا إرباك مخلّ، وكان لا بد للكاتب من تحديد زمان الرواية كما حدّد مكانها. والرواية، في أجزائها الخمسة، أشبه بالحكايات الشعبية؛ فتسلسل الأحداث غير مقنع بتاتا في ظل تداخل الزمن الذي يقتل عنصر الخيال لدى القارئ الذي يرغب أن يعيش القصة ويتخيّل شخصياتها بزيهم وهيأتهم التي تتوافق مع المكان وتفاصيله.

إذن، فنجيب محفوظ أراد أن يقول لنا أنّ مجتمعاتنا متخلفة تهوى الذل والهوان والعبودية ولا تتوق للخلاص منها، وأن أي حالات تمرّد ومحاولات للانعتاق ما هي إلا حوادث نادرة، لا تلبث أن تذهب ويتلاشى أثرها ولا يبقى منها إلا الحديث في المقاهي والحارات. فكرة تستحق الكتابة، سواء اتفقنا معها أم خالفناها.

لكنّ الكاتب اختار أن يعبّر عن هذه الفكرة بطريقة غير مألوفة؛ فقد عمد إلى القصص الدينيّة، التي هي جزء من عقيدة الشعب العربيّ وغيره من الشعوب، واستعار أحداثا من تلك القصص وعكسها على شخصيّاته، واختار شخصيّات دينيّة تحظى بالتقديس في نفوس الناس، وأنطقها بعد أن أطلق عليها أسماء أخرى اختارها بعناية لا تدع مجالا للشك أو التمويه، فهي مشتقّة من الاسم الحقيقي في العقائد الدينية أو من صفة من صفات تلك الشخصيّة. فشخصية إدريس مثلا تمثّل شخصية إبليس، وأدهم هو آدم، أما جبل فهو موسى الذي كلم الله على طور أي جبل  سيناء، ورفاعة يمثل شخصية عيسى الذي رفعه الله إليه، وأما قاسم فقد انتحلت شخصيّته من سيرة أبي القاسم محمد عليه الصلاة والسلام. ومعظم الأحداث في الرواية مستقاة من قصص الكتب المقدّسة، بعد أن انتزع منها طابع القدسيّة والإعجاز وأُلبست لباسا واقعيا ساذجا أحيانا. فموسى الذي حباه الله بمعجزة تحويل العصا لأفعى، يصبح (جبل) الحاوي الذي يروّض الأفاعي، وعيسى الذي أكرمه الله بمعجزة شفاء المرضى، يصبح رفاعة الذي يطارد العفاريت!

لا أعتقد أن هذه التشبيهات السمجة، وهذا الاعتداء الصارخ على هذه الشخصيّات، التي يعتقد بقدسيّتها قطاع كبير جدا من البشر، خدم النص أو الفكرة التي أنشئ من أجلها هذا النصّ، إلا أن يكون للرواية أهدافا أخرى، ومآرب لا تدلّ عليها أحداثها. وكان بإمكان الكاتب أن يبتعد عن هذا الأسلوب الذي يمس عقيدة أمته، ويصيغ أفكاره عن طريق أحداث وشخصيّات أخرى، لا أظنّ أن خياله كان سيضنّ عليه بها. فليس من باب حريّة الرأي والفكر أن تقدح في المعتقدات وتتخذ الرموز الدينيّة شخصيّات تنطقها كما تريد وتسمها بالصفات التي تبغي. فإن كان الكاتب يريد من كتابه نقض تلك العقائد وإثبات بطلانها، فعليه أن يقارع الحجة بالحجة ويدفع الوهم بالبرهان لا أن يتخذ من عقيدة الأمة مجالا للاستهزاء والابتذال. أعتقد أن الكاتب وقع في خطأ كبير كان لا بد له أن يتجنّبه.

ربما أراد الكاتب أن يعرّض من خلال عمله هذا أن الفهم الخاطئ للدين قد يؤدي أحيانا إلى التراجع إلى العبودية والذل بعد أن يغيب صاحب الرسالة. لكن، هل هذا هو الأسلوب الصحيح في إيصال هذه الفكرة؟ هل مهاجمة الدين نفسه والانتقاص منه، والاستهزاء بمسلّماته، ستؤدي هذا الدور، أم ستدفع أصحاب هذا الدين لمزيد من التشدد انتصارا لدينهم وعقيدتهم؟ وهذا من طبيعة النفس البشرية. ثم إن المتتبّع لتاريخ العرب والمسلمين في العصر الحديث يجد أن جميع الحكومات العربية التي نشأت بعد مرحلة الاستعمار، تدور في فلكه، وهي حكومات علمانيّة لا دينيّة تحمل عصا الإرهاب في محاربة الدين وتقوم بدور الفتوّات التي ما فتئ الكاتب يذكرهم في روايته، وأن الإرهاب الذي يوصم به الإسلام مثلا ما هو إلا صنيعة وسائل الإعلام الكاذبة أو من دسائس المستعمر الذي يكيد ليل نهار، أو ردة فعل عنيفة على الاضطهاد والظلم والإرهاب الذي تمارسة الحكومات العلمانيّة التي حكمت وما تزال تحكم عالمنا العربيّ. كان الأجدر بالكاتب أن يشير إلى مكمن المشكلة في هذا الخضوع واستعذاب العبودية التي وصف، ألا وهو الجهل والأميّة، والتي لم يشر إليها الكاتب في روايته الطويلة!  

وهل أراد الكاتب من خلال شخصيّة الجبلاوي أن ينسف حقيقة الألوهية وأنّ يدعي أنّ الربّ غائب لا يُعنى بما يدور في هذه الدنيا من أحداث؟ وأن دور الدين قد انتهى من هذه الحياة، تماما كما مات الجبلاوي في نهاية الرواية؟ إن هذا ليس إبداعا، فلطالما وُجد على مدار تاريخ البشرية من يناهض الدين ويدعو إلى الإلحاد، منذ اليوم الذي طرد فيه إبليس إلى هذه الأرض، أو لنقل "إدريس" كما أراد لنا الكاتب. محاولة نقض الدين وزعزعة الإيمان في نفوس الناس هي محاولة تنمّ عن عدم فهم لطبيعة النفس البشريّة التي فُطرت على التعلّق بخالقها، وجُبلت على الإيمان بالغيب.

يُنهي الكاتب روايته بحكاية "عرفة" الساحر، والذي رمز به الكاتب للعلم الذي أتى ليحل محل الدين، وأصبحت قوة العلم هي الوسيلة الذي يُستذلّ بها الشعب بدل من نبّوت الفتوّة، وأصبحت قنابل عرفة هي وسيلة السيطرة. لا أعتقد أن الكاتب وفّق في هذا، فتشبيه العلم بالسحر بعيد عن الصواب. فالعلم، وإن استغل كثيرا لاستعباد البشريّة، فقد أسعد البشرية أيضا ووفر لها كل ما يلزمها.

يموت عرفة في نهاية الرواية، ولا يبقى من علمه إلى تلك الزجاجات التي يسيطر بها الناظر على الحارة البائسة. لماذا لم يُبقِ الكاتب أملا لهذه الحارة للاتعتاق والتحرر؟ لماذا لم يجعل العلم هو البلسم الشافي والطريق القويم التي على هذه الحارة أن تنتهجه لتنهض من كبوتها؟ إذا كان الدين، كما نستشفّ من الرواية، هو السبب الأزليّ في شقاء هذه الأمّة، وإذا كان العلم هو أيضا سببا لشقائها، فبماذا ستنهض؟ هل قدرها أن تسير في فلك الحكام الظلمة وتخضع لنبابيت الفتوّات أو زجاجات عرفة القاتلة؟ فالكاتب وصف الداء، وأخفق في معرفة سببه، وشخصّه بعيدا عن الواقع وعن أحداث التاريخ، وفشل في وصف الدواء، بل أوحى، من خلال روايته هذه، أن الشرّ متأصّل في هذه الأمّة وأن الذل والخنوع هو قدرها الأزليّ الذي لا تستطيع أن تخرج منه. فليمعن الحكام بغيّهم وتماديهم، وليُخرجوا نبابيتهم وأسلحتهم الفتّاكة، وليجلدوا بها ظهر هذا الشعب الذي لا أمل أن يستفيق من كبوته، وليمعنوا في هدم أركان دينه وحضارته وثقافته، فهو كالجسد الميّت، الذي لا يُرجى شفاؤه.

هذه هي الرسالة السلبيّة التي حملتها رواية أولاد حارتنا. أم آن الأوان لأولاد هذه الحارة أن يعرفوا سر ضعفهم وخنوعهم، وأن يثوروا لكرامتهم وكبريائهم، وأن يلقوا بالتخلف والجهل والانقياد والعبوديّة بعيدا. هذه الروح، التي لم تبثّها هذه الرواية بتاتا، يجب عليها أن تشتعل من جديد. فالعلم، الذي شبهه الكاتب بالسحر، هو البلسم الشافي الذي ينير العقول ويجعل العبد ينفض آثار العبوديّة عن كاهله. إنّه العلم الذي ينبع من عقيدة الأمّة وثقافتها وليس الذي ينهض على أنقاضها.

وأود أن أشير إلى أن الطبعة التاسعة من الرواية والصادرة عن دار الآداب في بيروت، تحتوي على كمّ هائل من الأخطاء المطبعيّة! وأتساءل إن كان هذا يليق برواية توصف بأنها عالميّة.

لن ينتهي الجدل حول رواية أولاد حارتنا قريبا، وستبقى الأفكار التي بثتها الرواية، والفلسفة التي تكمن خلفها مثارا للجدل بيّن قرائها، وسنبقى نتساءل هل فعلا استحق نجيب محفوظ جائزة نوبل للأدب؟ وما مدى مصداقيّة هذه الجائزة وحياديّتها؟ ونتذكّر حينها أن مجرمي الحرب مناحيم بيغن وإسحاق رابين وشمعون بيرس جميعا استحقّوا جائزة نوبل للسلام!

وسوم: 636