جماليات مكاشفة النفس في "الكتاب الأسود" لنرمين نعمان (02)
الجزء الثاني
إن محتوى "الكتاب الأسود" للمبدعة المصرية نرمين نعمان في مجمله أعادنا إلى مقولة للداعية الدكتور والروائي عمرو خالد: "الألم والمعاناة تحيط بالجميع.. وصلنا إلى حيرة الحليم.. وتيه صاحب العقل.. فماذا نقول للأمة في هذه المحنة، ووجدنا أحسن شعار وعنوان للحديث هو: حتى يغيروا ما بأنفسهم، هو شعار حديثنا اليوم.. لماذا؟ لأنه الطريق لتنفيذ قانون الله هذا هو أملنا الوحيد..". ومنه نتأسف على وضع الكثير من الناس في زماننا هذا لأنهم لا يزالون في طريق الاعوجاج، وكما تقول المؤلفة عنهم في مقدمتها: "مئات من أعشاش الدبابير أتحاشاها خوفا من لدغاتها المؤلمة غير المميتة مما يجعلها أكثر ألما وأطول معاناة." (ص 7).
كل هذا يجعلنا نعيد التفكير في حياتنا اليومية والأشخاص الذين نعيش أو نتعايش معهم ولكن بأي نية قصدية يا ترى؟، هو ما سنجد له إجابة كافية شافية من خلال مثال في الباب السابع تحت عنوان"الآخر" حيث نقرأ ما يلي: "الست على طول بتسأل روحها قصرت في إيه لو حست بخيانة حتى طفيفة.. دايما في حالة منافسة ما بينها وبين الإناث الأخريات، وكتير بتلاقي التقصير منها وتحله، ده في حالة رغبتها في نجاح علاقتها وحبها للطرف الآخر، لكن كتير برضه بتهمل الموضوع كله ولا تبالي وما بتعملش أي حاجة، ده لو العلاقة نفسها بايظة وهي مضطرة تكمل فيها بس عشان العيشة تمشي." (ص 90). كل هذا يدفعنا بأن نقول أن التفاعل في حياتنا مع الآخر يتم بين صورة له في أذهاننا وبين نية لنا قد تصدر عن عقولنا قبل قلوبنا ستكون حتما نتيجة قراراتنا الداخلية في نهاية المطاف وهو ما عبرت عنه نعمان في كلامها عن الرجل قائلة: "عنده مبدأ أساسي: أن الفريسة متعتها في صيدها وليس في أكلها! ذلك الأخذ والجذب كي ينال فريسته دون أن تهرب وعن كامل إرادتها، كما تهوى الفراشة النار." (ص 93).
الباب الموالي يحمل عنوانا يصدم القارئ العربي بالضرورة ألا وهو "الجنس" على خلاف القارئ الغربي الذي يراه قمة التأمل والذكاء لأي كاتب أو كاتبة تتحدث عنه لأن "التابو" غير محظور في مجتمع متفتح، و المسكوت عنه بالضرورة يجلب الكوارث والأمراض النفسية الخطيرة، وبما أننا عرب ومسلمون نرفض الحديث عن كل ما هو غير مرغوب فيه من منطلق "الدين"، وهذا هو قمة التخلف من وجهة نظر العقل الذي ميزنا به الخالق عز وجل دون سائر مخلوقاته، وهذا ما عبرت عنه نعمان بقولها: "جزء فعلا يرجع للثقافة والتربية والتقاليد لكن الجزء الأكبر يرجع لعقلك أنت وكيف ترى فكرة وتركيبة الجنس.. من أي منطلق ومنطق تأتيك؟" (ص 109).
معنى فكرة الجنس حاليا في مجتمعنا العربي عموما بغض النظر عن ديانة كل واحد فينا عبارة عن صورة ذهنية ملتقطة من محيطنا الخارجي، وهي دلالة عن اختلال في فهم المصطلح مما أدى إلى نقص ذو علامة واضحة للعالم الغربي الذي يعرف نضجا ملحوظا في مفاهيمه الذاتية، وهذا ما أوضحته نعمان كما يلي: ".. فالعقول بمرور الوقت تختلف بالنضج، والأحوال والأزمنة تشكل حسب الأحداث والظروف، فتتوالد مشاعر ورغبات وتدفن أخرى، تماما كانقراض حيوانات بعينها على مر العصور وظهور كائنات أخرى بها عوامل البقاء." (ص 113).
جاء الباب التاسع ليتناول قضية "الطلاق" التي يقول في شأنها القادر عز وجل في كتابه العظيم: "الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان" (سورة البقرة: الآية 229)، أما المبدعة نعمان فتقول عن أبغض الحلال إلى الله مايلي: "الطلاق مؤلم في حد ذاته، فهو مصطلح مصحوب دوما بمشاعر الألم والفراق والمعاناة لكافة أطرافه مهما بلغت مراحل السوء والتدهور بينهما وألحت حتميته، لكن حينما تحين اللحظة ذاتها تصير في منتهى الصعوبة على كل من فيها." (ص 132). وكأن المؤلفة تقول لكل من تراوده فكرة الطلاق أن يراجع نفسه خصوصا لو كان هناك أطفال لأن هذه الفئة هي الضحية الأولى في نهاية المطاف.
ترى المبدعة نرمين نعمان أن يلجأ الإنسان إلى تحكيم عقله قبل القيام بأي خطوة في زواجه أو طلاقه قد يندم على نتائجها مستقبلا حيث نقرأ الآتي:"إن لم يعط الإنسان نفسه فترة كافية يكون صادقا فيها مع ذاته أنه على نقطة حياد واستعداد لمجهود الفكر والعقل كي يرتقي فعلا هذه المرة، ويجد ما يريده حقا في حياته، فلتأخده مرات التكرار والزيجات المتشابهة كلها واحدة تلو الأخرى، لأنها كلها تبدأ بمنطق واحد، وهو البحث عن النواقص لسدها، وتنتهي دوما بالإخفاق المحبط..." (ص 150).
تتحدث الكاتبة في بابها العاشر عن مشكلة بات يعيشها الكثيرون والكثيرات في وطننا العربي ألا وهي "الاكتئاب" حيث تقول عنها ما يلي: "حالة تغلف الإنسان وتكممه وتكبل يديه وقدميه وقد تغشى أيضا عينيه حتى يصير كالعبد السجين المكبل بالأغلال، منقاد دوما إلى ما لا يرجوه، منساق دون أدنى تحكم لمصير مجهول لا يعلمه حتى يعرف طبيعته!" (ص 155).
وصفت نعمان كل من يعيش هذه الحالة بالشاذ، وهي هنا لا تقصد الشواذ جنسيا في معنى الكلمة، بل هم تلك الفئة التي تعاني من ظاهرة الاكتئاب وترى أنهم على الدوام ناقمون على أنفسهم دون حتى السماح بأدنى فكرة لتبرير ما يحدث لهم، وكل ما يسيطر على عقولهم سوى تساءل مستهلك: "أنا ليه بقيت كده! ليه فقدت كل شيء من لا شيء؟!". هنا يستبعد المكتئب أي حل لحالته العويصة لأنه بشكل طبيعي غارق في مأساته التي تجهد تفكيره، ومنه تتبخر طاقته الإيجابية بسرعة فائقة. ومن يتصفح هذا الباب من "الكتاب الأسود" ستقع عيناه حتما على جملة الأسباب التي تصاحب حالات من الاكتئاب الشاذ ونذكر هنا مثالا واقعيا للكثير من الحالات المكتئبة: "تواكل المشاعر: جملة غريبة قد لا يفهم معناها، ولكننا نقترفها فعلا وشعوريا غير مدركين إلى أين قد تأخذنا.. ساعات بنسميها عشم، وساعات تسرع، لكنها في الآخر احتياج أعوج، وسوء إدراك في التعامل معه، ألا وهي أن تتواكل على ري مشاعرك واحتياجاتك كاملة من منفذ أو مصدر أو شخص واحد! كأنه المنقذ أو البطل الأسطوري الذي أتى من أساطير وحكايات الخيال كي يسحر واقعك فجأة، محولا الجوع لشبع والعطش لارتواء!" (ص 171).
في الباب الموالي تتابع المبدعة نعمان خطواتها الثابتة في متاهة خبايا النفس البشرية لتنقلنا إلى عالم "العشق" الذي قال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه ما يلي: "قيل: العشق هو فساد الإدراك والتخيل، والمعرفة، فإن العاشق يخيل له المعشوق على خلاف ما هو به حتى يصيبه ما يصيبه من داء العشق."، أما المؤلفة فتراه مرضا لا شفاء منه، ولا دية لمن يقع ضحية له، وقد اختارت لنا مثال عنترة وعبلة فقالت: "فأصاب عنترة الوله والعشق لعبلة، وما أتاه إلا المعاناة إلى حد الجنون، وترجح مصادر التاريخ العربي أنه بعد عذاب طال بعدد سنين عمره لم ينل عبلة وعاش لآخر وقته يتبتل بحبها وعشقها الذي لم يشف منه أبدا حتى توفي ولم يرتو عشقه أبدا." (ص 179)، ومنه نستنتج أن العشق مسلك خطر وغوائله لا تؤمن، وهنا نستشهد بما قاله منصور النمري:
وإن امرءا أودى الغرام بلبه لعريان من ثوب الفلاح سليب.
كما أنجى الله نبيه يوسف الصديق عليه السلام من شباك العشق التي نصبتها له امرأة العزيز حيث يقول القادر عز وجل في قرآنه العظيم: "كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين" (سورة يوسف: الآية 24)، وفي نفس السياق تقول الكاتبة: "تكاثرت الأقاويل عن نهاية امرأة العزيز (زليخا) بعضها أفاد بإشهار إسلامها وانتظارها ليوسف عليه السلام عمرها كله في عشق ومناجاة طيفه حتى لاقته في آخر عمرها، والآخر بولعها به لآخر العمر دون أن تقربه بعد أن حماه الله من كيد النساء وإغوائهن أجمعين فلم تره أبدا." (ص 180).
أما الباب الأخير في "الكتاب الأسود" جاء تحت عنوان "المرايا" ومفردها مرآة تلك التي يقف أمامها الجميع إناثا وذكورا لرؤية ذلك الآخر الذي يسكنهم كما تقول نعمان وهي تحدق في المرآة مرة أخرى كما فعلت في مقدمة كتابها: "...لم يعد الشحوب والهزال كما كان، بل علامات الدهشة من اندفاع الدماء في العروق، واندفاع حقائق كاسحة لأول مرة لم أكن أراها، أو لم أرغب في رؤيتها أبدا." (ص 198). وخير ما نستنتجه من خلاصة تجربة المبدعة نرمين نعمان الأولى نذكره في آية قرآنية كريمة لقوله عز وجل: "قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها" (سورة الشمس: الآية 9-10)، بمعنى آخر سيفلح حتما من يزكي نفسه ليرتفع بها عن المهابط والمآخذ على خلاف من يدنسها بمفاهيمه الخاطئة في الحياة وسلوكياته الغير السوية لأنه في نهاية المطاف سيكون خاسرا لا محالة وسيترتب عن ذلك شقاءه الدنيوي والأخروي، ولن يجديه نفعا هروبه من أخطاءه الكبيرة لأنه سيحاسب يوم الدين، ومنه "فلنحاسب أنفسنا قبل أن نحاسب" فمن يدري.
المصدر
(1) نرمين نعمان: الكتاب الأسود، الرواق للنشر والتوزيع، ط1، مايو 2015.
*كاتب صحفي جزائري
وسوم: العدد 643