علي الوردي : (40) النهضة الحديثة لا تقوم على العقلية الشعرية والرواية سوف تحل محل االشعر

# الأدباء بحاجة للعلم أكثر من علوم البيان :

وبمناسبة ذكر الوردي لانشغال الأدباء و " دكتورهم " بعلوم المعاني والبديع والبيان ، وعدم اهتمامهم بما يطرحه علم الاجتماع من نظريات وحقائق واكتشافات ، يثير الوردي معضلة جديدة . فقد يعتقد الكثيرون أن المطلوب من الأدباء – مثل الدكتور طه حسين والدكتور عبد الرزاق محي الدين مثلا – الانشغال بالبلاغة بحكم "اختصاصهم " لكي يطوّروا فعلهم الإبداعي ويجوّدوا في مضماره . لكن الوردي يريد من الأديب أن يسخّر وقته لقراءة العلم ومتابعة تغيّراته لما لها من تأثيرات في حقلهم اللغوي والشعري . فما هي هذه العلاقة الجديدة التي يقترحها الوردي ؟

أنا أراها في صلب مهاجمته للعقلية الشعرية ومرتبطة مركزيا بحملته لتقويض أسس العقلية الشعرية . إنه يرى تسلّح الأديب بذخيرة من أطروحات علم الاجتماع وعلم النفس ، أكثر ضرورة له من أسلحته التقليدية المعروفة عبر المراحل التاريخية والمتمثلة في فنون البلاغة !! يقول الوردي ردّا على الدكتور محيي الدين :

( يعتقد الدكتور محيي الدين أن علوم البيان والمعاني والبلاغة ضرورية لطلّاب الأدب . وأنا أعتقد بأن العلوم الإجتماعية والنفسية أجدى لهم من هاتيك العلوم العتيقة التي تقيّد العقول وتسدّ عليها منافذ الإبداع ) (293) .

ويقدم الوردي تفسيرا يسبق عصره حيث جاءت الاتجاهات النقدية الحديثة لتتحدث عن أن النص الواحد هو جامع للنصوص ، وعلى التناص ، وعلى المعرفية الثقافية الواسعة اللازمة للإبداع . يقول الوردي :

( إن الأديب يكتب للناس لا لنفسه ، ومن الضروري له أن يفهم طبيعة هؤلاء الناس الذين يكتب لهم . أما إذا بقى في برجه العاجي يدرس القواعد التي جاء بها الأسلاف قبل ألف سنة ، فلا يوجد له بين الناس سوقا ، وسيبقى يشتم الناس على نفورهم من " الأدب الرفيع " .. ) .       

لقد كان موقف الوردي صادما للعقلية السائدة التي تنظر إلى الشعر بنوع من القداسة ، ويتفاخر كبار مثقفيها – حتى من كان اختصاصه بعيدا عن الأدب والشعر - بأنه يحفظ الشعر ويحتفظ في بيته بمكتبة فيها دواوين فحول الشعراء . وحتى رؤساء الدول والوزراء والمسؤولين يعتبرون الشعر جزءا من مقومات ثقافتهم ، وكثيرا ما يدخلون أبيات شعر أو " هوسات " شعرية عامية لاستثارة الحماسة . لقد هزّ الوردي أركان " التابوات " الثقافية الشعرية القائمة حين راح يعدد ويحصي مساويء "البلاء الشعري" كما وصفه ويناقشها على صفحات الصحف :

( 1-كان الشعر في أيام الجاهلية حليفا للسيف في حروب القبائل الرعناء . وكانت القبيلة تحتفل بنبوغ الشاعر كما تحتفل بظهور الفارس صاحب الحسام البتّار .

2-وكان الشعر كذلك حليفا لعبادة الأوثان ... ولهذا كان النبي محمد في بدء دعوته يحارب الشعر كما يحارب الوثنية .

3-وفي العهد الأموي اتخذ السلاطين من الشعر وسيلة لتخدير عقول الناس وصرفهم عن فهم التعاليم الثورية الكبرى التي جاء بها الإسلام .

4-وفي العهد العباسي ساعد الشعر مساعدة كبيرة على إنشاء قواعد النحو هذه القواعد العويصة التي شلت العقول وجعلتها تدور في حلقة مفرغة.

5-وساعد الشعر فوق ذلك على تدعيم الحكومة السلطانية ، حيث كان السلطان ينهب أموال الأمة كما يشاء وينفقها على ما يشتهي ، ولكنه يأخذ قسطا مما نهب فيعطيه للشعراء . وهؤلاء لا يترددون عند ذاك عن جعل السلطان أمير المؤمنين وظلَّ الله في العالمين ) (294) .

# النهضة الحديثة لا تقوم على العقلية الشعرية :

_____________________________

والوردي يرى أن النهضة الحديثة لا يمكن أن تقوم على أساس الثقافة الشعرية ، وأننا لكي نلحق بركب هذا التطور المذهل الذي يتصاعد بوتائر عجيبة علينا أن نخفّف كثيرا من غلوائنا فيه – أي أنه لا يدعو إلى إلغائه لأن للشعر العربي جوانبه المضيئة ولا نستطيع إلغاءه بجرة قلم كما يقول هو نفسه - . إنه يرى أن مكانة الشعر في الدول المتقدمة قد تراجعت كثيرا ، وخير دليل على ذلك هو أن المجلات المشهورة والواسعة الانتشار مثل النيوزويك والتايم والإيكونومست والديرشبيغل وغيرها ، التي تبحث في مختلف شؤون الثقافة كالسياسة والعلوم والفنون لكنها لا تبحث في شؤون الشعر إلا نادرا . وهو يقر أن جانبا مهما من ذلك يعود إلى اختلاف الثقافتين : الغربية والشرقية ، لكن يبقى العامل الأساس هو أن المنطق العلمي هو غير المنطق الشعري :

( يمكن أن نعزو السبب في هبوط مكانة الشعر في الحضارة الحديثة إلى أن هذه الحضارة أقرب بطبيعتها إلى روح العلم منها إلى روح الشعر . فالشعر عاطفة وخيال وتحليق في عالم الذات . بينما الحضارة الحديثة تميل إلى التعمق في فهم الكون والإنسان ، وإلى التزام الموضوعية التي لا دخل للعواطف الذاتية فيها ) (295)  .   

# القصّة والرواية سوف تحل محل االشعر :

_________________________

وللوردي رأي مهم وسبّاق في الجنس الأدبي الذي سوف يحل محل الشعر مع تنامي سطوة العلم وحضوره في حياتنا . فهو يرى أن القصة هي التي سيكون لها القدح المعلى بين الأجناس الأدبية في ظل الحضارة الحديثة ، فهي من جانب تتغلغل في أعماق النفس البشرية وتدرس ، وفق طريقتها ، المجتمع البشري بعلاقاته الشائكة وصراعاته المتعددة ، كما أنها – وبخلاف الشعر الذي يعتمد على المجازات والاستعارات واللعب الرمزي بالصور والكلمات – يمكنها ، من جانب آخر ، أن تقدم صورا عن الحياة الاجتماعية بجوانبها السياسية والأخلاقية والتاريخية وحتى الاقتصادية ، ولذلك نجد دارسي الشخصية القومية لأي شعب يمكنهم أن يستخدموا القصة والرواية كوثيقة في أبحاثهم لأنها أكثر قدرة على تجسيد هذه الجوانب .  

# ولعنا المفرط بالشعر من اسباب نكسة حزيران :

_____________________________

والوردي لا يربط – ولا أعلم هل كان رياديا في ذلك أم أن هناك من سبقه في ذلك – بين هزيمة الخامس وبين النزعة الشعرية التي تسيطر على نظرتنا إلى الحياة خصوصا في السياسة حسب ، بل يعتبر الشعر سببا للنكسة . يقول الوردي :

( كان من نتائج النكسة التي حلت بنا في حزيران عام 1967 أن صار كل فريق منا يحاول أن يجد سببا للنكسة لكي يلقي اللوم عليه ويستريح ، وقد وصل الحال بالبعض منا إلى حد أنه اعتبر غناء أم كلثوم أحد أسباب تلك النكسة . ولكن أمرا واحدا غفلوا عنه في هذا الصدد هو ولعنا المفرط بالشعر ، ولست أدري لماذا غفلوا عنه مع العلم أنه أجدر بأن يكون سببا للنكسة من غناء أم كلثوم ) (296)  .

وقد يكون الوردي أول من استخدم مصطلح " التفكير الشعري " في تفسيره لنكسة الخامس من حزيران :

( إن هذا النمط من التفكير الحماسي – وهو الذي يصح أن نسميه بالتفكير الشعري – لم يقتصر أثره على الشعراء فقط بل شمل أيضا الكثير من المفكرين وحملة الأقلام والخطباء ، فهم جميعا يجرون على طريقة واحدة هي طريقة عمرو بن كلثوم : ( ماء البحر نملأه سفينا )  ) (297) .

# خطورة فهم الثورات العربية بعقلية شعرية :

___________________________

ويضرب الوردي مثلا على هذا النمط من التفكير في طريقة فهم أسباب الانتصار وأسباب الهزيمة للحدث الواحد . فهم غير قادرين على رؤية أسباب الهزيمة بنفس القدرة على تشخيص أسباب الهزيمة . إنهم مصابون بنوع من " العمى النفسي " الذي يجعلهم لا يرون جوانب من الحقائق دون غيرها رغم وضوح الجوانب الأخرى من ناحية ، ويؤولون الحقائق الأخرى بخلاف حقيقتها من ناحية أخرى . يضرب الوردي مثلا على ذلك بتجربة " حربية " كي تكون موازية للنكسة " الحربية " في حزيران ومن جنسها ، ألا وهي تجربة ثورة العشرين ، التي اعتبر أصحاب التفكير الشعري ، حسب الوردي ، أن النصر فيها قد تحقق بسبب وطنية العشائر واستماتتها في القتال ، ولكنهم اعتبروا الهزيمة ناجمة عن " مؤامرة " استهدفت الثورة . إن الوردي يعلن عن اعتزازه بالثورة لكنه يحذر من الاعتزاز بها على طريقة الشعراء . إنه يعتبر انتصار العشائر المسلحة بأسلحة بدائية على جيش معاد مسلح بالمدرعات والطائرات نوعا من الحدث الشاذ الذي حصل على طريقة الأهزوجة المعروفة " الطوب أحسن لو مقواري – كما يسمّيه الوردي " . ولكن لا يجوز جعل تفضيل المقوار – هذه الأداة البدائية – على المدفع المتطور قاعدة للعمل العسكري يعتمد عليها الثوار في كل ثورة يقومون بها أو حرب يخوضونها . وهذا ما يقوم به الشعراء الذين استمروا في كتابة القصائد التي يمجدون بها المقوار الذي يغلب المدفع دائما ، وأننا مادمنا قد انتصرنا " سابقا " فنحن سننتصر مستقبلا . والنتيجة المهمة التي يصل إليها الوردي هو أن انتصار مصر في صد العدوان الثلاثي عليها عام 1956 يشبه من بعض الوجوه انتصار العشائر العراقية في ثورة عام 1920 ، وأن السياسيين المعنيين لم يحاولوا دراسة الظروف التي اجتمعت وأدت إلى ذلك الانتصار ، ولم يدركوا أنها ليس من الممكن أن تجتمع مستقبلا :

( ولكننا اغتررنا بأنفسنا وتملكنا الحماس والفخار المغالي فيه ، وملأنا الجو بالأناشيد ) (298) .

وسوم: العدد 644