كلمة في استعمال لفظ المجون
وَرَدَ وصفُ بعض العلماء بالمُجون في بعض المصادر التاريخية، وقد أثار ذلك تساؤلًا كيف يكون العالم ماجنًا؟ والسببُ في هذا التساؤل غياب معنى المجون المقصود، وإذا عُرِفَ المعنى قُبِلَ المبنى.
أقول: إن مَجَنَ -كما في "القاموس المحيط"-: "صلب وغلظ، ومنه الماجن لمن لا يبالي قولاً وفعلاً كأنه صلب الوجه".
وليس في هذا التعريف -كما يبدو- فعلُ المنكرات والمحرّمات، ومِنْ خلال تتبُّع استعمال العلماء لهذه اللفظة نجدُ أنهم أرادوا بها المبالغة في التنكيت والتبكيت[1].
أمّا أهل بغداد فمعنى المجون عندهم: "صرف اللفظ عن حقيقته إلى معنى آخر. وذلك يدل على قوة الفطنة" كما قال ابنُ الجوزي في كتابه "أخبار الظراف والمُتماجنين" ص8.
وممّن وُصِفَ بالمجون العالمُ الجليل عبد الوهاب ابن العالم العارف الشيخ عبد القادر الجيلي البغدادي الأَزَجي (522-593هـ):
قال العلامة ابنُ رجب الحنبلي في ترجمته في كتابه "الذيل على طبقات الحنابلة" (1 /389): "قال ابنُ القادسي: كان فقيهًا مجوِّدًا، زاهدًا واعظًا، وله قبول حسن...
وكان كيّسًا ظريفًا من ظرفاء أهل بغداد متماجنًا، ولم يكن في أولاد أبيه أفقه منه، كان فقيهًا فاضلًا حسن الكلام في مسائل الخلاف، له لسانٌ فصيح في الوعظ وإيرادٌ مليح مع عذوبة ألفاظ، وحدّة خاطر، وكان ظريفًا لطيفًا، مليحَ النادرة، ذا مزاحٍ ودُعابة وكياسة، وكانت له مرؤة وسخاوة، وجعله الخليفةُ الناصرُ على المظالم، وكان يوصل إليه حوائجَ الناس، ذكر ذلك ابنُ النجّار...
قال أبو شامة: قيل له يومًا في مجلس وعظه: ما تقولُ في أهل البيت؟
قال: قد أعموني - وكان أعمش -. أجاب عن بيت نفسه.
وقيل له يومًا: بأي شيء تعرِفُ المحقَّ من المبطل؟
قال: بليمونة - أراد مَنْ يخضبُ يزولُ خضابُهُ بليمونة -.
وقال ابنُ البزوري: وعظ يومًا فقال له شخصٌ: ما سمعنا بمثل هذا!
فقال: لا شك يكون هذيان.
وكان له نوادر كثيرة".
وقال ابنُ رجب أيضًا في ترجمة ابنه الركن عبد السلام (548-611هـ) في (1/71) من كتابه المذكور:
"كان أديبًا، كيّسًا، مطبوعًا، عارفًا بالمنطق والفلسفة والتنجيم وغير ذلك من العلوم الرديئة، وبسبب ذلك نُسِبَ إلى عقيدة الأوائل حتى قيل: إنَّ والدَه رأى عليه يومًا ثوبًا (بُخاريًا) فقال: واللهِ هذا عجيب! ما زلنا نسمعُ البُخاري ومسلم فأما البخاري وكافر فما سمعناه.
وكان أبوه كثيرَ المُجون والمُداعبة كما تقدّمَ عنه".
وجاء في ترجمة الإمام الحافظ أبي الفرج ابن الجوزي (510 - 597هـ) في "الذيل" أيضًا (1 /412):
"قال الموفَّقُ عبد اللطيف:... كان ابنُ الجوزي لطيف الصورة، حلو الشمائل، رخيم النغمة، موزون الحركات والنغمات، لذيذ المُفاكهة.... نشأ يتيمًا على العفاف والصلاح، وله ذهنٌ وقّاد، وجوابٌ حاضر، ومجونٌ لطيفة، ومداعباتٌ حلوة، ولا ينفكُّ من جارية حسناء...".
ومن هذه النصوص - وهناك غيرُها - نعلم أنَّ وصفَ العالم بالمجون لا يعني ارتكابَ المحرَّمات، وإتيان المنهيات.
ونعلم أيضًا أن محاولة النيل من ابن الجوزي بأنه كان ماجنًا محاولةٌ قائمة على فهم خاطئ، وأعني بذلك ما جاء في كتاب "كفاح الأشرار ونصرة الأخيار" لحسين رئيس رمضان الخالدي[2]، فقد جاء فيه قوله ص3: "...وتستند هذه البحوث المجرمة إلى بعض هذيانات ابن الجوزي الماجن...".
وقوله ص7: "ومَنْ كان نزيه الفطرة نبيه الفطنة ودرَس حياة ابن الجوزي المأثور تاريخها عن الثقاة لم يتأخر لحظة أن يحكم بسفاهته ومجونه..."!
مع أن الوصف بالمجون عند ابن الجوزي يُعَدُّ مدحًا كما تقدّم.
إذن لا ينقص الوصفُ بالمجون من الموصوف به شيئًا، وقد رأينا أنَّ الموصوفين بالمجون من كبار أهل الورع والتقوى والتمسُّك بأهداب الدين، إلا إذا قُرِنَ به وصفٌ آخر كأنْ يُقال: كان ماجنًا فاسقًا.
وللموضوع صلة[3].
[1] في "هدى الساري" خبرٌ فيه استعمال لفظ المجون بمعنى المزاح، انظر التفصيل في ص 384.
[2] طبع سنة 1354هـ.
[3]جمعتُ مواضع كثيرة ورد فيها لفظُ المجون لدراسته وبيان المقصد منه، وتطور دلالته، وعسى أن يكون هذا في فرصة قادمة إن شاء الله تعالى.
وسوم: العدد 646