قراءة فى شعر محمد أبو عصفور، "قطرة من فيض" نموذجاً
تراتيل الإيمان
تطالعك من أول لحظة فى ديوان "قطرة من فيض" للشاعر محمد إبراهيم أبو عصفور تسابيح المؤمن المبدع.. وحبه الصادق العميق لله تعالى ولرسوله الأمين (صلى الله عليه وسلم) .. يقول فى الإهداء: "أهدى ديواني هذا المتواضع إلا من حب الله ورسوله..
أهديه إلى رسولي وحبيبي وسيد الخلق أجمعين سيدي محمد (صلى الله عليه وسلم)".
ويبدو انتماء الشاعر وولاؤه لدينه واضحاً جداً بالإهداء كذلك ، وفيه:
" ولا أهديه لكل من تطاول على ديني بالتحريض والتدليس والتطاول (ولينصرنَّ اللهُ من ينصرُه)".
(1)
إن تراتيل الإيمان ، وتسابيح المؤمن ، وأمارات الولاء للإسلام ولمصر وللأمة ، كلَّها واضحاتٌ ماثلات بديوان عصفور.. "قطرة من فيض" فالإيمان ، هو قضية الديوان المركزية ، التي يحوم حولها ويطوف برحابها ، ويغوص بجنباتها ، مستوفياً أركانه ؛ إيماناً بالله ، ورسوله ورسالته (صلى الله عليه وسلم) ففي نص "تكبير الموجة" يتكئ عصفور ومن عتبة النص الرئيسة : (العنوان) على لغة إسلامية ناصعة صرفة ، ومضمون إيماني صافٍ ، يكشف عن نفسٍ مؤمنة شاعرة ، وشاعرية مؤمنة .. يقول (96):
إلـهي لكَ الكونُ صلَّى صلاةً بها تســتحمُّ جميعُ البحارْ بها البحر أذَّنَ والمـوجُ كبَّرَ والمــاء هَلَّلَ حتى القرار وسـبح بالحوت يونسُ حتى تردد تســـبيحُهُ بالمحار وشـقَّ بضربة موسى إلى ما بنور النُّـــبوة فيه استنار فكانت عصاة بها البحر ناجى وللقوم حاجى وخاض الغمار ليصبح للبحر باسم النبوة ليل عليه تجلَّى النهار
والنص من أجمل قصائد الديوان ، ويكاد يكشف عن أهم ما يميز أسلوب عصفور ، فاللغة سلسة طبيعة ، لا تكلف فيها ولا تزيُّدَ ، يبدو الصدق فيها ملمحاً قارًّا وسمة أصلية .. والاعتماد على روافد الإسلام اللغوية لحمةٌ رئيسة بإبداع عصفور ، أما رؤيته الشعرية فإسلاميةٌ صرفة ، وإيمانيةٌ خالصة ، فالكون سائره يصلى ، يؤذن فيه البحر ، ويكبر الموج ، ويهلل الماء ، ويسبح الحوت ، ويستنير البحر بنور النبوة ، ويحاجج عن أنبياء الله .. لِمَ لا وقد صار له من ليله المعتم نهار تجلَّى عليه؟!
إن تناغم عصفور مع الكون إيمانيّاً .. يسمه بملمح سوىٍّ يقرر اكتمال رؤيته لحقيقة الوجود من ناحية ، ويكشف عن منحى رومانسيٍّ حالم يتصل بالطبيعة لا بما هى مهرب من شقاء الحياة والأحياء ، بل ما هى مكونٌ من مكونات الوجود الإلهي المتجاوب مع المؤمن ، غير المتخالف معها. فكلا المبدع والطبيعة من خلق الله وموحديه.
فى "قطرة من فيض" يبدو وعىُ عصفور بحقيقة الدين والإيمان ، وما يتصل بهما من قيم حضارية وسلوكية حاضراً ومنصفاً ووسطياً وراقياً ، فالدين ليس تهويماتٍ كلاميةً خطابية ، وإنما هو أفعال يحصيها الملكان على العبد ، يحفظانها له ليومِ معادٍ ، وهو بهذا التصور يكشف عن وعى بمأساة الأمة المنشغلة دوماً بالكلام دون العمل.. يقول (33) :
فدين الله أفعال تــراها بعينك يوم يؤخذ بالنواصي وليس الدين أشباحاً نراها وكلٌّ عن مراد الله قاصي
والسبيل إلى الإيمان يكون بالعقل والقلب معاً.. يقول (75) :
فبالعقل نطرق باب الجليل وبالقلب ندخله مؤمنينا
وهو يحتاط لإعمال العقل فى كل شيءٍ لم يتهيأ له ، ولا يمكنه الاهتداء به إلى سبيل ، إذ للعقل البشرى قدراتُه المحدودة .. فيقول كاشفاً عن نفس وجدانية للمشاعر والروح أكبرُ حظٍّ ونصيبٍ لديها (80) :
العقل يمضى أينما لا يستحلُّ به الدخول والقلب يدخلنا على من فى معيته القبول
ومع ما يبدو لأول وهلة أن الديوان خالص للمديح النبوي ، فإن تسابيح المبدع محمد أبو عصفور لله تعالى ، وتفضيله لقيم إسلامية بعينها حاضران بارزان جداً بالديوان إلى جانب المديح النبوي ، بحيث عنى عصفور فى ديوانه من مكونات الإيمان وأركانه ، إيماناً بالله ، وهُياماً برسوله ، وقناعةً بقيم إسلامية بعينها.
أما الإيمان بالله فيتجلى فى ديوان عصفور فى تغنيه وتشرُّفه كونه مخلوقاً للخالق سبحانه ، إذ يقول (47) : مناجياً الله تعالى :
أنت الذي من نُطفة أنــشأتني ما أروع الإنـشاء بالإبداع ونفخت فيَّ الروحَ صلصالاً سَمَا بالروح قلباً رائع الإيـقاع سيظلُّ يهتف باسمك اللهمَّ مِنْ ميعاد تكويني لحينِ وداعي
إن شكر عصفور على نعمة الخلق موفور بإبداعه ، آلَى على نفسه أن يظل ذاكراً شاكراً لله تعالى حتى الموت. وتسابيح عصفور أشبه بانشغال الصوفية الحقة بالله عن خلقه ، تتردد فى أرجاء الديوان هذه التسابيح ، ومنها قوله (107) :
قلبي المتيَّمُ عامراً بهواك وهو الذي بالذكر لا ينساك سبحانك اللهمَّ فى خلجاته إذ ليس يُذكر فى سواكَ سواكَ
ومنها قوله (91):
أيا مَنْ اسمُهُ فرجٌ لهمِّي وريح المسك أدركه بشمِّي
ويدرك عصفور أن المعرفة الحقة بالله تعالى تُورث المهابة والعزة.. لا المهانة والذلة .. من ثم يتحرر الإنسان من تأليه الخلق.. الأمر الذي يتجلى فى عطاء المؤمن وأريحته .. يقول عصفور (40):
والعارف لله سـيأبى أن يصبحَ عبدَ السلطانِ فالله تعــالى حلَّاه بالتـقوى بين الخِلان فتراه بشوشاً معطاءً يعرفه القاصي والداني
إن الإيمان بالله يحرر الإنسان من كل قيد يمنعه عن العطاء ، فالإيمان أحد أهم مثيرات الإيجابية والسعادة فى الحياة ، الأمر الذي يدفع إلى العودة .. أو الارتقاء إلى حكم الله والاستجابة لمنهجه فى الحياة ، معتبراً ذلك من تمام حقوق الإنسان.. يقول (39) :
ما دام العـالمُ قد ثارَ لإعــادة حقِّ الإنسانِ فلماذا العالم لم يعبأ بإعــادة حق الديَّان؟ من حقِّ الله على النَّا سِ القصدُ إليه بإذعان والعــودة لله بحكمٍ هو أفـقهُ من أيِّ بيان
إن الطريق إلى محبة الرسول تمر عبر محبة الله والإيمان الحق به ، وهو تعالى الموجود يحوطنا بعلمه وتقديره ورعايته .. وليس لغيره علينا فضل .. يقول عصفور كاشفاً عن عاطفة إيمانية صادقة (76):
هو الله فى كل شيءٍ نـراه ومما لا نراه من العارفينا .. فَزِدْنا بوصلِ رسولك حبّاً وزدنا بحب رسولك دِينا فليس لغــيرك فضلٌ علينا فـخذنا إليك من الآمنينا
وحب عصفور للنبي فى ديوانه صادق .. عميق .. يقول (57):
يا مَنْ لبُعْدِكَ لا أُطيق ويغار من خطوي الطريق ومن الظلام يشدُّنِي لـــهواكَ زيَّاك البريق أدنو فيغمرني الضِّيَا ءُ ، فلا أحـسُّ ولا أفيق
وبمحبة النبي يحيا عصفور ، وهو يطلب إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) أن يشفع له ، ويعتبر الصلاة عليه وسيلة قربى إليه يتبعها محبته (صلى الله عليه وسلم) له .. يقول (51):
فيا مَنْ بالمــحبة فيك نحيا لأرباب المحـبة فيك خاوي كما خاويت فى مـاضٍ قريب دعاةَ النور صحبَكَ بالتساوي فما بالمال والجـــاه التقينا ولـكن بالتُّقَى فى الله داوي وخُذْ من نور وجهك يا حبيبي لتـملأ كلَّ قلبٍ منه خاوي ومن فيض الصلاة عليك زدني فإني للمــحبة فيك غاوي.
والصلاة على النبي (صلى الله عليه وسلم) تفتح الأبواب المغلقة ، وهى سبيل الشفاعة .. يختم نصه (يا سيد الخلق 90) مناجياً الله تعالى ، فيقول:
والله يعطى عـــــطاءً لا حدودَ له إذ ليس للخلق فى الجنات أنصابُ .. فاجعل صلاتي على المحبوب تشفع لي فــــبالصلاة عليه يُفتح الباب
وفى (قطرة من فيض) لعصفور ، ونتاج لطابع الديوان الإيماني ، وغلبة المديح النبوي عليه ، نجد فيضاً من حديث صادق مُنتمٍ عن القيم الإسلامية .. الحضارية .. الأصلية التي تكشف عن رؤية إسلامية متوازنة صافية للكون والحياة يتمتع بها عصفور فى إبداعه .. وحياته .. على سواء "وأنا أعلم الرجل وأعامله" فمنحاه الحياتي سامٍ ، يترفع عن الدنيا وزخارفِها ، يأخذ حظَّه منها .. دون أن تتملكه ، أو تطغى على إيمانه .. يقول (59) :
كُنْ من الدنـيا سماها أينما تمـضى نراها لا تكن أرضاً فأرضى لم تَعُدْ تـهوى فتاها إنها نفــسي سيبقى نورُها ، يبقى سناها
وعصفور يعتبر الترفع عن الدنيا ، والحذر من الوقوع فى حبائلها منهج نبوي ، وملمح إيماني وسبيل تعقل ، وذلك فى قوله (62) :
أيـــها الباكي عليها لا تكن مِنْ مُدْمنـيها لستَ تدرى كيف باعت بالهوى مَنْ يشـتريها كـــلما تعلو ستَلقى واحداً من تــابعيها إنـها الشمطاءُ أغرت ليلة الإســرا نبيها أعرض المعصومُ عنها فانزوتْ فى عابديها
ومن قيمة الإيمانية ، اعتبار الجوهر لا المظهر .. يضرب لصواب هذه القيمة وضرورتها الأمثلة يدفع بها رأى من يعتدُّ بالمظاهر وحدها.. يقول (48):
لا يشغلَنَّكَ يا صديقي مخبري عن جـوهري فالله ينـــظر للبيو ت ، وللــقلوب العُمَّر والله يفــعل ما يشا ءُ ، بخــــلقه فتدبَّرِ .. فلَرُبَّما كان الفقيـ ـر ، بفقره نِعْمَ الثرِى ولَرُبَّ أشـعثَ أعْبَرٍ من ريــحه فتعطري ولربَّ مَـغسولٍ بما ء الورد دون تـطهري فالناسُ هلكى بالمظا هر ، والعقول الخُمَّرِ
فحينما يغيب العقل ، وتتحكم المظاهر .. يهلك الناس!
ويدعو عصفور فى "قطرة من فيض" إلى الاعتبار والتأسي .. والتدبر فيما حول الإنسان من دلائل وحدانية الله وقدرته .. فبالاعتبار يهتدي ذوو الفطر السليمة ، ويُصَدُّ عن الإيمان أصحابُ القلوب المظلمة .. العنيدة أو الغافلة الكليلة .. يقول فى (يا رب 70) :
فيا صاحبَ القلب إن لم تحسّ بما فى الحياة بها من دررْ وإن كنت تبصر قلبك أعمى وإن كنت أعمى فما للبصر فقــلبٌ لما قد بدا لا يلينُ عديمُ البصيرة أو قُلْ حجر وأنَّى لقــلبٍ يحب الظلامَ بأن يدرك الحقَّ أو يزدجرْ
والحب فى الله عند عصفور قيمةٌ ، تعلو على التغير والتبَدُّل ، والناعمون بها محبتهم دائمة ، وودادهم موصول ، لا تنال منه عوادي الزمن ، وتصاريفُ الحياة .. أما الحبُّ .. إن كان حبّاً .. لأجل مصلحة أو دنيا فزائلٌ بزوال المصلحة أو حتى تحقُّقِها .. والمعنى دقيقٌ صحيح ، يكشف عن شاعر يحيا القيمة ، فيكتبه الشعر .. قبل أن يكتب هو الشعرَ .. يقول فى (قلوب العاشقين 82) :
قلوبُ العاشقين لها وجيبُ وصفوٌ لا تعَكِّـره اللغوب .. فـكل أحبة الدنيا تجنَّوا فلِمْ للمــشوق لها نصيب وكل أحِـبة فى الله دامت محبتُهم ومـوعدهم قريب إذا بالروح فى الدنيا تلاقوا فلــقياهم لها نورٌ وطِيب فكن بمـحبة الباري تعالى تكن بالدين ، والدنيا تطيب
والقرآن وحى الله على محمد (صلى الله عليه وسلم) مصدر سعادة المسلمين (74) :
فالله أكرمنا بكوْنِ محمدٍ منا بوحي الله جاء فأسعدا
أما مفهوم الأمة ، متلبساً بوعيٍ إيمانيٍ مُستكِنٍّ ، فيتجلى واضحاً كاملاً فى (بريق الأنبياء 83) وفيها يرى عصفور أمة الإسلام واحدة ، يستوي فيها مكة والمدينة وسيناء والقدس .. فى رمزية واعية ، تكشف عن ولاء الشاعر لوطنه وأمته الإسلامية ووعيه بقضية الأمة الرئيسة ؛ فلسطين ، التي بدا قولُهُ الجامع لهذه الرمزية ما قصد إلا التنويه بتفكك الأمة وضياع قضيتها لذلك .. يقول:
كلُّ العوالم تخـتفي إلا بــــريقُ الأنبياءْ وبريقُ مكةَ والمديـ ـنة ، طور سيناء النداء والقـدسُ تدعو ربَّها عفواً وينــهمر الدعاء والـكلُّ فى أنوارها كَمْ يســألون لها البقاء ياربُّ وعْدَكَ إنـنا ندعـو ويحدونا الرجاء والمسـلمون تفرَّقوا فى الأرض واشتد البلاء
وفى ملمح إنساني نبيل ، يدعو عصفور إلى قيمة أصيلة ، هى الانحياز للحق ضد الباطل والولاء لله تعالى فى مجابهة الظالمين دون وجل ، ففي طاعته تعالى تمام العز ، وما الهوان إلا أثراً من آثار التنصُّلِ من تعاليم الدين .. يقول فى (نعصى 6 105) :
نعصى الإلهَ وندَّعِى الإيمانا ونطيع فيما لا نراه هوانا لنضيع العز الذي فى ديننا ويزيدنا ربُّ العباد هوانا
ثم ينحى باللائمة والعتاب على أهل العقد .. الخانعين .. الخائنين .. الخائفين ، فيقول:
ولو نَّ أهل العقد راعوا ربَّهم لاستنصروه وأنقذوا الأوطانا لكنهم دأبوا على إدبــارهم واستقبلوا فى أرضنا الشيطانا ليدير مـعركة بها بجحودنا سالت أمام العالمين دِمــانا
(2)
ولأن قضية (قطرة من فيض) الرئيسة هى الإيمان .. فقد بدا دالُّ النور ساطعاً .. جداً بجنبات الديوان من مفتتحه وحتى منتهاه .. مروراً بسائر قصائده .. بحيث لا تكاد تخلو واحدةٌ منه ، وربما تتابعت صفحات الديوان .. بله أبيات بعض قصائده عامرة بالدال مفرداً فى أكثر الأحيان ، وفى صيغتي الجمع والفعل فى بعضها ، ونادراً ما صاحبه مرادفاته ودال النور" يقودنا إلى دلالات مفتوحة ، ترسم فضاءات الأمل والتجدد والصفاء والرغبة فى الحياة ومظاهر الأمان والشعور بالثقة والاطمئنان وهكذا يصبح فعل الأعماق ، وزاد القلب ويملأ دروب الحياة وهجاً" (ثنائية النور والنار فى شعر سعدي يوسف :، سعيد مولوي ، موقع وزارة الثقافة المغربية فى 11 نوفمبر 2015).
وابتداءً من نص (العقل يمضى 80) وحتى نص (منك الحروف 100) فإنه لا تخلو من الدال (النور) سوى الصفحات (81 ، 84 ، 86 ، 91 ، 93) ويطلَّ الدال من عتبات القصائد الرئيسة ، من عنواناتها أحياناً كما فى (يا أيها النور النبي ، المدينة المنورة ، الشمس تغار ، أنت نور ، الشمس تضحك ، النور ، بريق الأنبياء ، تشرق فينا)
ويصدر عصفور فى تصوره واستثماره للدال (النور) عن تصور إسلامي أصيل ، وعنده فالله نور ، والنبي نور ، والقرآن نور ، وقد صاحب الدالُ النبيَّ (صلى الله عليه وسلم) أكثر ، لطبيعة الديوان ومقصده المادح للنبي .. ولثلاثية الدلالة هذه لدال النور ، فإن دلالة أحياناً ما تتلبَّس على المبلغ أيها يقصد الشاعر فى بعض المواضع ، خاصة مع تكرره الكثيف فى سياق تجريدي إلى حدٍّ ما كما فى (الشمس تغار 19) وفيه :
لماذا الشمس من قمري تنير ومن نظري إليها تستجيرُ ترى قمري يفوق الشمس نوراً فيملؤها من الخوف الكثير أم انَّ النور من قَــمري إليها فمـنه الشمسُ للدنيا تشير أنا قـمري سراج من سراج من المـلكوت يأتينا مُنير
وبالنص المقتطف لا يخلو بيتٌ من النور ومرادفاته ومفردات حقله الدلالي (تنير ، الشمس ، قمري ، نوراً ، سراج ، منير) لكن دلالته غائمة إلى حدٍّ ما ، فهل يقصد بالنور هنا ، هالات الإيمان والتوحيد التي تشعُّ من نفوس المؤمنين؟ أم المقصود هو نور النبوة ، بما يدعمه مقطع النص ، وفيه:
هو النور الذي فينا تَلَالاً سراجُ الحقِّ والقمر المنير؟
كلاهما وارد .. وفى أكثر استخدامات الدال تجئ الدلالة واضحة .. واحدة من ثلاث لا تلبس معها ، فالله نور فى قوله (92) :
فما لفظ الجلالة غيرُ نور إذا ما قلته يجرى بدمِّي
والنور هو وحى الله ومنهاجه .. وهو الله تعالى .. والنور هو الجانب الإلهي المضيء فى ذات الإنسان .. ذلك على الترتيب فى قوله (99) :
فبالنور يـسعى إلى ما لديك وتسعى إلى من يتوقُ القطوفُ فبالشمس نـورٌ ونارٌ وليست لشــمسك نارٌ وأنت اللطيف وبالنور فى الطين يسعى إليك بما قد دعانا النــبيُّ الشريف
والنور هو القرآن .. يقول عصفور (66):
ويبقى النورُ فى الدنيا إلى ما شاء مولانا .. فــنورُ الله نقرؤه كــلامُ الله قرآنا رســـولُ الله طبَّقَهُ وبالقـرآن أحياناً
إن لدال النور هنا فاعليةَ تطهيرٍ ملموسةً ، تتأسس على جذر الدال فى الثقافة الجمعية بما هو رمز أصيل للطهارة والنقاء..
ويشير دال النور فى أكثر نماذجه بديوان (قطرة من فيض) لمحمد أبو عصفور إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) وهى دلالة أصيلة قال بها المفسرون أمثال الطبري ، ففي تفسيره لسورة المائدة من قوله تعالى: (قد جاءكم من الله نورٌ وكتابٌ مبينٌ)
ورد: "قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه للذين خاطبهم من أهل الكتاب: "قد جاءكم" يا أهل التوراة والإنجيل "من الله نور" يعنى بالنور (محمداً) (صلى الله عليه وسلم) الذي أنار به الحق ، وأظهر به الإسلام ، ومحق به الشرك ، فهو نور لمن استنار به يبين الحق ، ومن إنارته الحق تبيينه لليهود كثيراً مما كانوا يخفون من الكتاب".
ومن مفتتح قصائد الديوان (يا أيها النور النبي) يتأكد مصاحبة دال النور للنبي ، إذ يقول عصفور بالمطلع:
يا أيها الــنور النبي ذو الروح والعرف الذكيّْ .. إنِّي بذكْرِى لاسمِكُمْ يبدو لي النورُ الوضِيّْ
ثم يكرر نداءه "يا أيها النور.." فى مفتتحي نصيه التاليين بالنص فيقول فيهما:
يا أيها الــنور الذي صلَّتْ عليه وسلَّمَتْ كلُّ الـــملائكة التي لما رأته تــبسَّمت .. يا أيها الـنور الذي أنى تـكون محمداً سماك أحمد فى السماء وكنت فيـها الأحمدا
وفي مطلع (المدينة المنورة 15) يقول عن النبي النور ، وعن نوره (صلى الله عليه وسلم) بما هو مبعوث السماء لتنقشع ظلمات الجهالة والكفر إلى نور اليقين والعلم فى قالب تصريعيٍّ مستمر ، يتناغم فيه شطرا كل بيت .. ومن ثم سائرُ الأشطر :
النور أشــرق بالمدينة بينما بالمسك خضَّبَ جوَّها وثراها والنور نورُ محمدٍ أنَّى مضى بالوحي طاول أرضَها بسماها
وفى ختام النص يقول:
ومحمد بالنور نور وجهها لما أتى وبــنوره وضَّاها وبأحمدٍ صلوا عليه وسلَّموا النور ردَّدَ فى القلوب صداها
إنها هالة النور النبوي تملأ جنبات النص ، فلا يخلو شطرٌ من إشعاعها إلا مستبدلاً بها الوحي أو الصلاة عليه والسلام ، أو المسك. وهى إما من فيوضات أنواره أو مبعث آخر للنور.
إن (نور) النبي "سيد الخلق" (صلى الله عليه وسلم) مطهر ، منير ، منقذ ، رفيق .. هكذا يريد عصفور أن يكشف لنا عن حب صادق للنبي ، يسمو عن الوصفية المدَّعاة إلى الصوفية الراقية الحقة صوفية الغزالي وابن عطاء السكندري ، فيقول فى (سيد الخلق 32) :
ومن أدرانـها نــفسي بنورك أنـت تسترقي دُعيــت بليلة المعراج من طــبقٍ إلى طبق إذا ما شــمسنا انطفأت فأنت لنـورها تسقى ولولا نـــورك الأخَّا ذ ، لاستأنست بالغسق شموسُ الأرض ما بقيت لها الأنــوار بالأفق
ويقول فى مطلع (لطلعته 75) :
أضاء بنور النبوة فينا رسولٌ لطلعته قد دُعينا
ثم يقرر عصفور فى (يا سيد الخلق 89) أن النور هو النبي ، وأن النبي هو النور تأكيداً على حميمة نورانية محمد (صلى الله عليه وسلم) فيقول :
فالنور أنت وأنت النور يغمرنا والنور منك لمن يهواك ذوَّابُ
(3)
ومن أبرز خصائص الأسلوب فى "قطرة من فيض" لمحمد أبو عصفور: التكرار والتناص والمقابلة ، وجميعها تقنيات استخدمها الشاعر المبدع لتحقيق مقاصده الإبداعية .. أما التكرار فيتكئ عليه عصفور لإبلاغ رسالة .. وأكثر ما كان التكرار للتركيب لا للدال المفرد ، وربما تلبس النمطان على نحو ما نجد فى قوله (76)
فزدنا بوصل رسولك حبّاً وزدنا بحب رسولك دنيا
فتركيب الصدر والعجز متماثلٌ ، يعتمد فيهما معاً على دوال بعينها هى (زدنا ، حب ، رسولك)
ومن خلال تقنية التقديم والتأخير تتباين الدلالات الناتجة ، نحو استكمال المعنى المراد.
أما تكرير التركيب ، فنماذجه تتكاثر بالديوان ، وفيه يكرر الشاعر تركيباً هو من الوجهة النحوية واحد ، ينطلق منه فى كل مرة إلى استكمال معنى جزئي يسهم إلى جوار أمثاله فى تشكيل اللوحة الكبرى التي يرمى إليها المبدع فى السياق ، ففي سياق حديثه عن (جلال الله 30) يكرر التركيب (سبحانه) خمس مرات كاملة فى مفاتح أربع من أبيات نصه الخمس ، والأخيرة بمفتتح عجز المطلع ..
يقول عن جلال الله فنرها إياه تعالى :
سبحانه بجماله جلاكا سبحانه بجلاله أبكاكا سبحانه برسوله ناداكا من طينة أرضية أنشاكا لتكون باسم الله فيك ملاكا سبحانه بجلاله المعبودُ وله الملائكة الكرام شهود سبحانه بجماله وجلاله فيما تجلى الشاهد المشهود
والتكرار بالنص بارز أشبه بتكريرات الصوفية فى دعواتهم ومجالس ذكرهم الراقية .. ويبدو تكرير التركيب عند عصفور أثراً فى بعض الأحيان من آثار هندسية عقلِهِ ، وأثر من آثار مهنته المتفقة مع النظام والتأسيس والعقل ، ويتلبس التكرار كتقنية بالإيمان بما هو قيمة الديوان الرئيسة ، فى نص (زاد الجمال 28) وفيه يكرر الشاعر تركيبيْ (الله أكبر حيث .. محمد "مرتين") ، (صلى عليه..) ثلاثاً .. يقول عن الحبيب محمد :
فالله أكبــر حيث كان محمدٌ يحنو على القَصْوَاء منه ترفـقا والله أكبر حيث سـار محمدٌ والعذب من قلب الصخور ترقرقا .. صلى عليه اللهُ فى عليائه صلت ملائكةُ السـماء تـشوُّقا صلى عليه من السماء نجومها أهل المحبة والمحامد والتــقى صلى عليه الكونُ فى أفلاكه وازداد بالنور الجـــلىِّ تألُّقا
وتمركز تكرار التركيب هنا – كما بغالب نماذجه بالديوان – بالصدر ، يقرر دوره التأسيس للدلالة فمنه وعنه وبه ينطلق الشاعر إلى تعميق دلالته واستكمال صورته ، إذ يتيح له التكرار فى كل مرة الإمساك بجديد ، وترسيم المشهد .. وفى نموذج مماثل فى نصه (أقداري 126) يستثمر عصفور تقنية التكرار مستعطفاً وراجياً ومناجياً مولاه فيقول (بتقديم الثلاثي المراحل على ثنائيها) :
ووعدتنا بعد الحــياة بجنَّةٍ لا منتهى لنعيمها المدرارِ ووعدتنا بالعفو عن سـهوٍ به ما كان للساهين من أوزار ووعدتنا بالصفح عن ذنب به ما كان للعاصي من استغفار وفتحت أبواب الجنان لأهلها ولأهلها غلَّقــت باب النار وفتحت باب العفو حتى خلتني قد نلته بالرغم من إصراري
إن التكرار هنا يكشف عن حب وإيمان ، يمتاز بهما عصفور ، فما يلتذ بالمفاجأة إلا مؤمن ، ولا ينطلق فى الحديث إلا محبٌّ .. ولا يرقى هذا النظم إلا من شاعر أصيل!
يستثمر عصفور تكرير التركيب فى الإشارة إلى جانبي الإنسان ؛ المادي والروحي فى (كن من الدنيا سماها 59) فيقول فى إبداع راقٍ يتلبس فيه التكرار (التشاكلي) بالمقابلة التباينية:
فلتكن بالطين غصناً زهرةً يهفو شذاها ولتكن بالنور نجماً ساطعاً فيه ضياها
ومن جميل نماذج تكرير التركيب بالديوان ، إذ يضيف إلى تكرير العناصر الصرفية بالإطار التركيبي النحوي المتكرر دوالَّ متجانسة ، فى مفتتح الصدر وفى العروض لا فارق بين ألفاظها سوى صوت وحيد ، فيلف التماثلُ كاملَ الصدرين إطاراً وصوتاً .. وعاءً وجرساً .. يقول فى (يا سيد الخلق 89) :
فللجلال رياضٌ أنتَ تبصرها من عاينوها بعين الخلق قد شابوا وللجمال رياضٌ فيك نبصرها تــــبدو فتفتح للعشَّاق أبواب
وقريب من ذلك قوله فى (الحمد لك 98):
ومن يقربِ النورَ دون انتظار يتوه كنجمٍ هوى فى الحلك ومن يقرب النور دون امتثال لأمر النـــبوة فيه هلك
وقد يكشف التكرير للتركيب عن عاطفة صادقة ملتاعة تدفع المبدع إلى إبلاغ رسالة تحذيرية إطارها التكرير .. الذي يبدو كصرخة تنبيه ، واستغاثة تحذيرية من خطرٍ داهم .. يقول فى (نعصى الإله 106):
يا ويلَنَا إذْ لم نعُدْ لشريعةٍ فى أرضنا نرضى بها الديَّانا يا ويلنا إذ لم نعد بعقولنا وقلوبنا نسترحم الرحمــانا
أما المقابلة فجميع نماذجها تحوُّلية ، من أحد طرفيها إلى الآخر ، فهي تقنية حركية بالديوان ففي (أيا أمارة بالسوء 120) يخاطب نفسه فيقول :
فكرني كيفما يدعوك ربى فقد تُودِي المحاسـنُ بالعيوبِ وعودي للذي لا ريبَ فيه فما بعد الشروق سوى الغروب
والمقابلة هنا فى موضعها تقرر أمرين ، أولهما انطلاقها فى كل آنٍ عن تصور إسلاميٍّ إيماني عميق يستند إلى نص أو مرتكز إيماني من التاريخ ، ففي الأولى مصداق قوله تعالى: (يبدل اللهُ سيئاتِهم حسناتٍ)
وفى الثانية استناد لسنةٍ كونيةٍ وجودية ، ولقانونٍ من قوانين الحياة والبشر ، فليس بعد الكمال فى الدنيا سوى النقصان. ثاني الأمرين هو تمركز المقابلة – على خلاف التكرار – بالعجز لا بالصدر ، وذلك منطقيٌّ ، فبناؤها إجمالاً يحتاج إلى تمهيد سابق ، والمقابلة على ذلك ليست تأسيسية من الوجهة البنائية اللغوية ، وإن كانت تأسيسية من الوجهة الدلالية. ومواضع تمركز المقابلة بالصدر لا تكون إلا استناداً لبيت سابق مهَّد لميلادها كما فى قوله بـ (يا رب 68) :
ففي موجة البحر سرٌّ خفىٌّ وما ليس مما يخالُ البشر بأصدافه نسمع السرَّ جَهْراً لعلَّ من الناس من يعتبر
وقد تقع المقابلة بالصدر ، كونها إحدى تمثلات تكرير المقابلة بسياق تتكاثر فيه بالعجز والصدر ثم بالعجز ثانياً كما فى قوله : (زاد الجمال 28)
والله أكبر حيث ساد محمدٌ والعذب من قلب الصخور ترقرقا والعسر يسر والقفار حدائقٌ والصعب سهل بالحدائق أعـبقا
ومن جميل المقابلة هنا ، احتواء التركيب النحوي الواحد ، فى الجملة الاسمية على المتقابلين ، أسند أحدهما إلى الآخر ، مخبراً به عنه ، فى تْركيب إيجازيٍّ ، أشبه بتراكيب شوقي : (الدين يسر ، والخلافة بيعة ..) ولكن هنا بترقٍ مختلف ، إذ البناء تقابليٌّ إخباري ، لا إخباري فحسب.
أما التناص ، أو تكافل النصوص ، فأكثر نماذجه ينطلق عن القرآن ، والتاريخ الإسلامي ونادراً ما كان من معين الثقافة الشعبية أو الأساطير. يصدر عن القرآن بشأن فجور النفس وتقواها فى قوله بـ ( أقداري 128) :
فأنا يا رب من أودعتني نفساً تحركني من الأغوار إِمَّا بها أحيا تقيّاً فى الورى أو باسمها أحيا من الفُجَّار
فهو هنا يستلهم معنى قوله تعالى (ونفسٍ وما سوَّاها ، فألهمها فجورَها وتقواها)
وفى قوله (يا قاضي الحاجات 47) : يناجى ربَّه سبحانه :
أنت الذي من نطفة أنشأتني ما أروع الإنشاء بالإبداع ونفخت فىَّ الروحَ صلصالاً سما بالروح قلباً رائع الإيقاع
فالصدر الأول يستلهم فيه الشاعر معنى قوله تعالى (يا أيها الناس إن كنتم فى رَيْبٍ مِنَ البعث فإنَّا خلقناكم من ترابٍ ثم من نطفة..) الحج
وبالصدر الثاني استفهام لمعنى قوله سبحانه (... فإذا نفختُ فيه من روحي فَقَعُوا له ساجدين) ولمعنى قوله عز من قائل: (.. من صلصال من حمأٍ مسنون)
وفى مدائح عصفور للنبي (صلى الله عليه وسلم) بالديوان كثير من وقائع التاريخ الإسلامي والسيرة النبوية ، من مثل قوله (المدينة المنورة 15) :
بشراك يا أرضاً تضمُّ المصطفى ضمت من الملأ المحمَّد طه آوته لما جاءها مُـــستنصراً وتـشرفت لما أتى ووطاها
ولعصفور بديوان (قطرة من فيض) نصٌّ نوعىُّ متميز ، يعرض فيه لسور القرآن ، وما تمتاز به كل واحدة فى موضوعها الرئيس .. بما يكشف عن ثقافة إسلامية أصيلة ، ومعايشة للقرآن بصيرة .. ففي (الشمس تضحك 41) يعرض لأربعين من سور القرآن ، مستخدماً اسم السورة ، وكاشفاً عن علاقات سور القرآن ببعضها فى سرد غير منقطع ، عبر (36) بيتاً ، يتكئ على اسم السورة فى كل مرة إلى التعريف .. الشعري .. بها ، ومنها قوله :
يس قلبُ الذكر تعطى للأحـــبة ما تشاءْ ولـسورة الملك التي كلُّ القـبور بها تُضاء وبسـورة الرحمن إذ تأتى الفواتـح بالآلاء والنـملُ يحمى نفسه والنحل معسول الشفاء وبــيوسفٍ وبمريمٍ قُلْ فى الطهارة ما تشاء والتين والزيتون أولى بالشـــفا من كلِّ داء
وهكذا – ومع ما يبدو فى النص من عجلة ، وبساطة ، تعرض للسورة فى شطر أو بيت .. فإن الفكرة فى ذاتها تكشف عن شاعر لقرآنه فى ثقافته وإبداعه حظٌّ موفور ، يجعله متميزاً بذلك من بين قرنائه فى جيله وزمانه ومكانه. ومطلع النص جميل لو جاءت أبيات القصيدة على نهجه لكانت القصيدة من عيون الشعر العربي الحديث .. يقول بالمطلع :
الشمسُ تضحك للضحى والنورُ فى وجه النساءْ
وربما اتكأ عصفور فى تناصه على الشعر الإسلامي، كاستلهامه لبيتي الشافعي:
شكوت إلى وكيعٍ سوءَ حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي وأخبرني بأن العلمَ نُـــور ونورُ الله لا يُـهدى لعاصي
(ديوان الشافعي صبر الأمة وإمام الأئمة ، تحقيق دكتور محمد عبد المنعم خفاجي 70 ، مكتبة الكليات الأزهرية بالقاهرة ، د.ت) وذلك فى قوله (أنت نور 33) :
يُضاءُ بك المكانُ وأنت نورٌ ونور النور لا يهدى لعاصي فَكُنْ لله فـــينا خيرَ داعٍ بفعل الخير واجْتنِبِ المعاصي
وهو فى مطلع (يا قاضى الحاجات 46) فى قوله :
يا قاضي الحاجات حسبي أنني عبدٌ لربٍّ لا يملُّ سماعي فإذا سألت الناسَ شيئاً أدبروا وإذا سألت الله فهو الساعي
ينصص من قول الشاعر :
لا تسألنَّ بُنيَّ آدمَ حــاجةً وسل الذي أبوابـه لا تُغلَقُ الله يغضب إن تركت سؤاله وبنيَّ آدم حين يُسأل يغضب
ولربما فى إجراءٍ غير مستملحٍ يستند عصفور إلى شيءٍ من ثقافة شعبية ، لا أعرف لها فيما أعلم أصلاً صحيحاً ، حين يذكر فى (إني أحبك 48) أن الصلاة على النبي كانت صداق آدم لحواء .. يقول :
حـواء قد خلقت وآ دم لم يذقـــها واعتزل وصداقها كان الصلا ة ، على الـنبي ولم يزل إن الصلاة على النبيـْ يِ ، لِمَنْ أحبَّ من الغزل!
وفى حين تتوارى الصورة فى الديوان إلى حدٍّ كبير ، مستعيضاً عنها فى أكثر الأحيان بتعابير العاطفة الصادقة .. وليست بكافية .. وتكاد تتمركز صور المبدع عصفور جميلة جداً بنص (تكبير الموج 96) وفيه يقول :
فما البحر إلا حليبٌ طهور يطهِّـر ما دونه باقتداره ويرفـــع كفيه لله سحبا بها الله خضَّر فينا البوارْ
فى حين تتوارى الصورة – فيما أرى – بالديوان ينهض مرتكزُ الشعر الآخر الإيقاعيُّ ناهضاً بدوره فى شعرية النص العصفوري على أحسن وجه ، وقد استخدم عصفور من بحور الشعر العربي ستة ، هى على الترتيب :
م البحر عدد القصائد عدد الأبيات نسبة الأبيات حالة البحر تام مجزوء 1 الكامل 22 197 + 170 367 51.19 12 10 2 المتقارب 12 123 + 16 139 19.38 11 1 3 الوافر 10
83+31
114
15.90 8 2 4 م. الرمل 3 35 04.88 - 3 5 المتدارك 3 34 04.74 3 - 6 البسيط 2 28 3.91 2 - الإجمالي 52 100.00 36 16
يحتل الكامل قمةَ قائمةِ بحور عصفور ، بنسبةٍ تجاوز نصف الأبيات ، وقد استخدمه فى توازن بين التام والمجزوء ، ومن التام قصائده ( يا أيها النور النبي ، أهل المدينة ، المدينة المنورة ، زاد الجمال ، جلال الله ، يا قاضى الحاجات ، رسولنا الأحمد ، وأقداري ، والرباعية المتتابعة بالديوان: من ذوى الألباب ، نعصى الإله ، قلبي المتيم ، وأنَّى ستغفر لي) ومن الجلي أنها نصوص يغلب عليها السرد والمناجاة ، وهما مما يناسبها البحور الطويلة كالكامل ، ومنه قوله فى (أهل المدينة 14) يمدح الأنصار:
يا معشر الأنصار إن بحبكم آيات إيمـان يفوح شذاها فلْتَقْبَلُوا منِّــى التحية إنها بمقامكنَّ شرفٌ لِمَنْ أدَّاها.
أما مجزوء الكامل ، فقصائده بالديوان عشر ، أكثره فى الدعاء والتأملات ، ومن ذلك قوله فى (راحمي 132):
أيقنتُ أنـك راحمي فازددتُ فيك تعلقا وذكرت إسمك مهجة تاقَـتْ إليه تشوقا
أما المتقارب فجاء فى اثنتي عشرة قصيدة ، واحدة منها مجزوءة ، ومن قصائده (بمن أستجير ، يا رب ، بطلعته ، تشفع إلهي ، تشرق فينا ، والخماسية المتتابعة: إلهي ، تكبير الموج ، الحمد لك ، منك الحروف ، بدأت المسير) ويبدو فيها الإيقاع متماوجاً كما فى قوله بالنص الأخير (101) :
بدأتُ المسيرَ إلى المنتهى وكلٌّ يسير إلى ما انتهى فيا ويلَ مَن قلبه قد سها ولم يُجِبِ الله عمَّا نهى
أما الوافر فآخر ما نظم عليه عصفور تاماً ومجزوءاً ، ومن التام قوله بـ (المسير9) :
يطول بي المسير ولست أدرى إلى ما قد يطول بي المسير وقلبي فى رحاب الله يشفــى بنـفس من خطاها تستجير
ومن المجزوء قوله فى (سيد الخلق 31) :
ويبقى سيد الخلق جميلَ الخَلْقِ والخُلُقِ بنورٍ قد بدا فيما بذاك الكون من ألَقِ
ولم يستعمل عصفور الرمل إلا مجزوءاً فى ثلاث قصائد لا تتجاوز أبياتها الخمسة والثلاثين بيتاً هى (حكم القرآن ، كن من الدنيا سماها ، أمك) يقول فى أولها بنبرة فيها شيء من المباشرية (8) :
لا تـــقلْ كُنَّا وكانا كلُّ ما قــد كان كانا فاطلبِ العيشَ عزيزاً وارفض العيش الهوانا
(يراجع فى المتدارك قصائده: الله يناديك ، العالم ثار ، أيناك وفى البسيط قصيدتاه : ذكر الله ، يا سيد الخلق)
أما القافية فلها بالديوان شأن ، يكشف عن عناية المبدع بموسيقى شعره ، وقد نوَّع عصفور فى قوافيه على أحسن مما نوع فى بحوره ، فجاءت قوافيه ، أكثرها مطلق، وبعضها مقيد ، وأكثر النوعين يأتي مردفاً أو ذا خروج ، مما يسهم فى إعلاء مدى غنائية النص فى مختتمه ، وقد ينوع عصفور القافية فى النص الواحد كما فى (الله يناديك ، وجلال الله ، إني أحبك ، رسولي)
ففي الأخير (يجعل قوافيه ما بين (عا) العين الموصولة بألف (فى أربعة أبيات بالمطلع ، وما بين (ـــــائى) الهمزة المردفة بالألف والموصولة بالياء (فى خمسة أبيات) وأخيراً الباء ذات الوصل بالياء فى سبعة أسطر. وتنويع الروي مما يسهم فى تدفق النص وغنائيته
وقد يقفى عصفور أشطره جميعاً ، فتبدو الأبيات مصرعة دوماً ، لا بالمطلع وحده .. وذلك مع تنويع القافية أيضاً، فيبدو نمط الروي هكذا :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ .... أ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ... أ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ .... أ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ... أ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ .... أ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ... أ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ .... أ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ... أ
وذلك فى (رسولي 84) حين يقول :
رسولي تشفع وكن لي شفيعاً فإن لم تجرني فلن أستطيعا وكن لي حضناً وسدّاً منيعاً وإلا وقعت بذنبي صـريعا رسولي صلاتي عليك دعائي بها الله أدعو ليبقى رجائي بعفوك ربى ويبقى رجـائي من الناس إن الصلاة ردائي
ومثله فى (بدأت المسير 101) :
دُعينا إليك فلم نستـــجبْ وحين سألت لِمَ .. لم نُجِبْ!! على من لذاك الوجود وهب أجابت على ما سألت الحجب
(يراجع مثل ذلك أيضاً فى (أنى يكون 114) والملاحظ أن جميع هذه القصائد على "المتقارب" وكان رباعية تفعيلاته فى كل شطر مما أسعفه على تقفية الأشطر الأبيات ، ومما ساعد على ذلك بساطة جملة عصفور وتلقائية أسلوبه وعدم تعقده أو تقعره ، فالأسلوب هو الرجل .. ولا تعقد فى أسلوب مؤمن .. شاعر)
وقد لزم عصفور فى كثير من قصائده ما لا يلزم ، فعزز من غنائية المنتهى وكشف عن قدرات موسيقية ، يمكن استثمارها فى ضوء توسط النفس الشعري لقصائده (13,79 بيتاً لكل قصيدة) فى شعر يُوَجَّهُ للأطفال ، وفى الأناشيد والأغاني الإيمانية .. ونحن فى حاجة ماسة لذلك ، كمجتمع يبحث عن تعزيز هويته الإيمانية .
وقد يلتزم عصفور الياء ردفاً ، ولا يعاقب بينها وبين الواو ، بل يفرد الياء بالردف ، كما فى (المسير "15 بيتاً" ، بطلعته "13 بيتاً" ، وغيرها ) ففي (لا أطيق 57) يلتزم أيضاً الياء ردفاً وحيداً مع روى القاف المقيد ، مضيفاً إلى التزامه ياء الردف حرفاً يستبقه آخر.. هو الراء كما فى أقواله :
يا من لبعدك لا أطيق ويغار من خطوي الطريِقْ ومن الـظلام يشدني لهـــواك ذياك البريق .. وأكاد إن لم تلتقطني الأرض يلفحني الحريق .. واقطع بسيف حدُّه لدم الأحبة لا يُــريق
وهو اللام كما فى قوليه :
والطير يحيى روحه فى الأيك إذ يحيا طليق فانظر إلى برحـمة بجمالك الباهي تـليق
(يراجع فى التزامه الواو ردفاً "العقل يمضى 80")
ينحو عصفور بهذا المسلك إلى تركيب إيقاع نهاياته ، إثراء لموسيقى الختام .. وربما تعويضاً لتقييد الروي! .. ومن نماذج التزامه صوتاً "لا بردف ولا تأسيس" بخلاف الروي ما كان فى (الحمد لك 98) حين التزم فى سداسية أبياتها اللام المفتوحة والقاف المقيدة.. يقول :
عجزت عن الحمد والحمد لكْ ولن يصبح الطين يوماً ملكْ وروحــي تتوق إليك وقلبي يهيم بروحي إلى من سلكْ ومن يَكُ بالله أنَّى تـــراه مع الله يؤتى به للفـــلك
وربما جمع عصفور إلى الردف (اليائي) خروجاً يائياً كذلك ، فيسهم ذلك فى ثراء الموسيقى ، وغنائية النص وغنته ، خاصة مع روى النون ، الذي جاء معه النص أشبه بمناجاة سحر .. يقول فى (كف 116) :
بحقِّ الكاف والنون أنا قد كنت فى حيني .. وأرواح تصاحبني من الأقدار تحميني إلى ما شاء مولاها تطببني .. تداويـني وبالأنوار تطعمني وبالأذكـار تسقيني
ظاهرة أخيرة بديوان عصفور (قطرة من فيض) تعد من مثيرات ومكامن إيقاعه الخاصة تتمثل فى توافق هندسي .. دلالي محبب بين الدال اللغوي وتفعيله البيت ، بحيث توافق زنة الدال الصرفية زنته الإيقاعية ، فتقابل التفعيلة كلمة بذاتها ، ويحدث هذا التوافق انسجاماً وجدانياً لدى المتلقي منشؤه اتحاد الوقفتين الدلالية والصوتية مع الكلمة ومن ذلك فى عجز مطلع (بمن أستجير 53) :
بمن أستجيرُ وأنت المجيرُ وقلبي / إليك / بروحي / يطيرُ
//5/5 / //5/ / //5/5 / //5/5
ومنه فى (تشفع فى (تشفع إلهى86) يقول مكثراً من ذلك التوافق المحبب :
فإنِّي / ضعيفٌ / فلطفاً / بحالي ولطفاً / لأني / بدرب / المُحالِ //5/5 / //5/5 / //5/5 / //5/5 //5/5/ //5/5 / //5/5 / //5/5 فمنك / إليك / نعود / جميعاً ومنك / إليك / يكون / المآل //5/ / //5/ / //5/ / //5/5 //5/ / //5/ / //5/5 / /5/5
الإيمان فطرة .. والإبداع فطرة ، وإبداع عصفور الشعري الإيماني يحتاج إلى شيءٍ من الدقة ميسور .. يتمثل فى ضرورة الصبر على إبداعه ومعاودته بالتنقيح والتثقيف والتحكيك.. فبقلة هذه المعاودة (وأنا أعلم أن الشعر يسيل على لسانه ، ويتدفق على قلمه فى كل آن) تجلت بعض الهنات – يسهل التخلص منها ، بقليل معاودة – تمثلت فى:
1) شكل التنفيذ الطباعي .
2) أخطاء نحوية وإملائية ، وهنات فى الضبط .
3) اضطراب الإيقاع فى حين ، وتمثل المباشرية فى حين.
أما المباشرية ، فتخلو منها نصوص الديوان كافة ، إلا بعض مواضع نصه الثاني (حكم القرآن) وهى مباشرية ليست معيبةً بحالٍ ، طالما نشأت عن هدف نبيل ونفس محبة للخير .. لكن الأمل – ولأن الشاعر المبدع عصفور قادر على ذلك – أن يتخلص الشاعر من هذه لئلا يطعن بها المتشدقون على إبداع أصيل.. جميل كشعر عصفور ، ولا يضير الديوان أن ترد هذه المباشرية فى بيتيه (8) :
إنك الإنسانُ فاسمعْ قبلك الإنسانُ عانى واتقِ الشرَّ وأخلِصْ علنَّا ننجو عسانا
واضطراب الإيقاع وهو قليل جداً ، ربما نشأ عن خطأ طباعي ، ومن ذلك قوله فى (فرج لهمي 91) وهو من الوافر:
فهى باسمه يا نفس سمى إلى لقياه يا نفس هَلُمِّي
ففي حين يستقيم إيقاع العجز ، يضطرب فى الصدر.
أما التنضيد الطباعي وشكل كتابة شعر الديوان ، فقد لُبِّسَ على المتلقي نوعُ الشعر هل هو عمودي؟ أم حرٌّ ؟ فإن كان عمودياً فلِمَ التحول عن إطارٍ تعارف عليه القارئُ لهذا النوع عبر مصراعين يمثلان الصدر والعجز .. فى (إلهي مثلاً) يبدو الشعر عمودياً استناداً إلى وحدة الروي بالوحدات الثلاث الأولى (ــــيَّا) وليس كذلك بل هو من الشعر الحر ، إذ لا تتفق أعداد تفعيلات المتقارب الوحدات ، فهي فى الأوليين ثمانٍ ، وفى الأخيرة ست ، هكذا :
إلهي إليك
مددت يديَّا
وإسمك يقطر
من شفتيا (8 تفعيلات)
وأسعى إليه
فيسعى إلىَّ
فهل من منادٍ
ينادى عليَّا (8 تفعيلات)
أنا مَنْ بذنبي
إليك أعود
ويشفع لي فيا (6 تفعيلات)
لقد أرهق التنضيدُ الطباعيُّ قارئَ الديوان وناقده ، حين جعل ستة أبيات فحسب فى 19 سطراً كاملة فى (تشرق فينا 87) ، نعم يفيد هذا التنضيد الطباعي فى إضفاء شيء من حداثة إطار – وإن متوهمة – ويفيد فى التقسيم الموسيقى والدلالي المعين على تفهم مقاصد المبدع كما فى قوله :
وتشرق فينا / إذا ما احترقنا من النار فينا / بنور وطيب تضيء القلوب / وتشفى النفوس وتكشف عنا / ضباب الكروب
لكنه يخالف ما اتفق عليه بشأن كتابة شعرنا العربي .. ويرهق القارئ ، إذ يلبس عليه النوع!
ملحظ آخر ناتج عن عاطفة أريحية متسامحة ، حين لم يجعل للخلق فى الجنات أنصاب "ولئن لم تكن أنصاب – جمع نصب (التعب)" فالمعنى إن كانت جمعاً لنصيب / الحظ ـ غير دقيق لم يقل به أحد .. ذلك فى قوله (يا سيد الخلق 90) :
والله يعطى عطاءً لا حدود له إذ ليس للخلق فى الجنات أنصاب
فالجنة درجات .. والنار دركات!
أما آخر الملاحظ فيتمثل فى الأخطاء الإملائية والنحوية وهنات الضبط .. ومنها: (الكلمة مصحوبة بصوابها بين الأقواس ، مع الإشارة لموضعها من الديوان)
" 7 الإسراءٍ (الإسراءِ)
11 غسق الكيالى (الليالى)
17 يقصك (يغضبْك) 40 جلاه (حلَّاه)
59 يبقًى (يبقى)
60 إنها (أنها)
61 بنيها (بنوها)
63 ستلقى (ستبقى) 126 وامرته (وأمرته)
71 مَنْ (مِنْ) 132 فاذددت (فازددت)
73 الغرورَ (الغرورِ) 130 فالتصبح (فلتصبح)
105 إحسان (إحسانا) 130 ماقد (ماذا)
إذ لا تتفق (قد) والاستقبال (سوف)
109 شُيدت (شَيدت)
110 فتبرات (فتبرأت)
122 أنا شك (أناشدك)
123 أقدارى (أوزاري)
124 اشهدتنى (أشهدتني)
والحق أن هذه الهنات ، قد لا يُسأل عنها عصفور .. الغِرِّيدُ المبدع الشاعر إلا من ناحية العجلة ، وإخراج ديوانه للنور ، وقد أثبتت التجاريب أن بقاء الجنين يبطن الأم زيادةً عن ميعاد ولادة طبيعية بقدر مقبول أولى من أن يخرج مبتسراً يعانى آلام الحضَّانات الصناعية!!
دام إبداعك محمد أبا عصفور ، ودُمت مبدعاً نبيلاً رائعاً.
شكراً لك رحلة ماتعة عشتها .. مسبحاً مستمتعاً بديوانك.
وسوم: العدد 648