عن رواية "الحلم المزدوج" لدينا سليم: سيرة عن هجر الوطن وأوجاع الغربة
كل من يكتب الرواية إجمالا يتأثر بشكل أو بآخر بواقع بلده ومعايشته للآخرين من خلال جملة أفراحهم وأحزانهم، فما بالك لو كان بطل "الحلم المزدوج" للفلسطينية دينا سليم شاعرا يعيش وجع الغربة، أين يمتزج الواقع بالخيال في بوتقة واحدة سيعيشها القارئ حتما من خلال صفحات هذا العمل الروائي الذي لا يخلو من عنصر التشويق أين ينقلنا ببراعة الكلمات والوصف والمشاعر لمعايشة جملة من الشخصيات اكتفت بنسج أحلام وردية وذلك لأجل العودة إلى أحضان الوطن الأم، فكيف سيكون ذلك يا ترى؟.
استطاعت المبدعة دينا سليم من خلال باكورتها الروائية الموسومة "الحلم المزدوج" أن تحلق بنا عاليا لمعايشة معاناة شخصيتها المحورية "صارم" أين نجد أنفسنا دون سابق إنذار نتقاسم معه ذكريات من طفولته الأولى: "ذهبت به الذكريات إلى طور الطفولة، كان سعيدا، مغرورا في حب أمه، متجاوزا قسوة أبيه والزمن، ما بين ليلة وضحاها بات كسرطانات البحر، ينزوي في الأركان الضيقة، متاح له الظهور في فصل واحد قصير فقط حيث يجهر بوحدته، أما باقي الفصول فيعود يستتر داخل الأعماق المظلمة التي تفصله عن غيره من المخلوقات." (ص 7).
منذ البداية استعانت الروائية دينا سليم بتكنيك الاسترجاع لتشارك المتلقي أحداث البطل السابقة لتساعده بشكل أو بآخر لفهم ما سيعمل على تغيير مسار الأحداث لاحقا في حياة "صارم": "لقد أحس باليتم منذ ولادته، من الصعب اختيار الأب، تماما كما تصعب الدنيا علينا عندما ننمو داخل قاذوراتها مرغمين، فلو خيروه لاختار اليتم من الأب فعلا." (ص 11).
جاءت أولى الصفحات في الرواية للحديث عن بعض التفاصيل الدقيقة في حياة البطل كخدمته في الجيش والتي دامت لمدة تسع سنوات أين عايش أبشع جرائم القتل التي عرفها خيرة أصدقائه ثمنا لتلك الحرب حيث نقرأ ما يلي: "تتخذ البسيطة ملاذا لعويلها، تعفر رأسها بالتراب، تضرب صدرها، وبعيونها المخضبة تتوسل الله رجوعه سالما، تتعقبه كالحارس، تنظر إليه من بين سراب الصحراء، بينما يتابع هو، يستقل القطار المتجه نحو الموت، تختفي آثاره ويختفي من معه، اندفعت الرياح بحركاتها الدائرية تعطل مجال الرؤية، الغبار يغشى عينيها، تتسلل العتمة وتقبع ذات البقعة، تنظر من خلال الظلام عبر الأفق البعيد كأنها تراه بعينيها السوداوين تتأمل وجهه، ينتصب أمامها.... ترى كم عدد السالمين من تلك الحرب السافرة؟" (ص 14).
كما تبدو حنكة الروائية سليم منذ الوهلة الأولى في الكشف عن علاقة العشق بين البطل وحبيبته تكنيكا مغايرا للتخفيف من مشاهد الحزن والوجع كما جاء على لسان الساردة: "أموت في عبق شعرها، أسبح في تموجاته، أقلق تفكيرا في نعومته، لباسها يدل على يسر حالها. وذلك القرط الذهبي المتدلي، إنها ملاك يعيش في عالم أرستقراطي، أحلم بها عارية تسبح في الفضاء، من غير لباسها الأسود هذا، يرونها بقناعها المزيف للحياة، متطلباتها! أراها شاردة كغزال يبحث عن طريق الخلاص، بينما أتوق إليها عروسا مزينة بأقراط الحجارة الكريمة، مدموغة بالماس، تطأ أسوار الجواهر، تلتحف اللؤلؤ..." (ص 30).
لعل للمبدعة دينا سليم رأي في اختلاف أوجه حياة البطل كرمزية لاختلاف حال الوطن (العراق الشقيق) بين حرب وسلام، فهي تنسج ببراعة اختلافا في الدلالة النصية، ومن ذلك قولها: "منذ تلك اللحظة وهو يتقمص الأدوار، أدوار شائكة، جميعها هو بطل فيها، الزوج، ثم الأب، الشاعر، المفك، لجميعها، أي الأدوار، الدافع الأقصى لتصرفاتنا سببها الدائم.. الغير وليس نحن، يستمتع بها الآخرون كلما أتقناها، تحرقنا، تميتنا وسوانا يغمى عليه من الضحك." (ص 39).
قد يجد القارئ الذكي في مشهد فقدان "هادية" ابنة البطل لدميتها ملامح فقدان الهوية والحرية نتيجة تلك الحرب التي تكشف عن دخيلة الروائية و ما يصطرع في لا شعورها حيث نقرأ ما يلي: "تقاطعه 'هادية' الصغيرة باكية: لقد فقدت دميتي أبي، الدمية التي أحب." (ص 40).
تمتلك دينا سليم حصيلة لغوية راقية ساعدتها على إبداء مهارة عالية في نسج مقطوعات ذات إيقاع شعري ينتمي في معظمه إلى عالم الرومانسية بحزنها وفرحها، لفظا وصياغة وتصويرا ذكرتنا برواية "ذاكرة الجسد" للمبدعة أحلام مستغانمي، ونذكر هنا على سبيل المثال ما يلي: "يشاكسها في الحلم، وينام جفنه ولا يستريح، امرأته في بلاد بعيدة، تطرق باب قلبه عبر الريح، ينسل إلى فراش تداعبه، يحاصره القلق، يقرأ كل تعاويذ الأرض، يبارك لها المنام المريح، في غرفته الرطبه تقاسمه الدمى النهار، وفي الليل تضمد الكلمات قلبه الجريح، كم مرة أجل طيرانه وترك حرية التحليق، طائر تمرد على السرب، وترك قوافل المهاجرين، في مملكتها عشه، وبدونه لا يقوى على الرحيل، كلما حاصرته الحمى يرتجف.. يهذي بأسمها فتهبط من سماواتها تمسح يديها جبينه كي يستفيق، هي آلهته الحارسة، أينما يمضي بوجهه، وجهها الملاك يدله على الطريق، في سر برده يحتفظ بحر الكلام، وفي سر حره يحتفظ ببرد السلام!" (ص 51).
تصر الروائية سليم على اختراق موضوع حرب العراق لارتباط حياة "صارم" بها بشكل غير مباشر، وذلك منذ فترة ميلاده إلى فترة سقوط بغداد حيث تقول الساردة: "اليوم هو الحادي والعشرون من آذار سنة 2003 الساعة الرابعة فجرا، انطلقت الصواريخ تقصف بغداد، حالة إعصار، عفاريت نفاثة تحتل سماءها، تنطلق مع الريح كلهيب نار وتغادر بعد صومعة تؤرق حتى الأسماك في النهرين. فقد صارم حماسته في الحياة، أعياه التفكير في وطنه الملتهب، طفلتاه، وحدته القاتلة، سجن المنفى الأبدي وحنينه لحبيبة غائبة، سلك طريق الاحتضار، أهمل نفسه، ظهرت عليه علامات التراجع من الحياة، قلة النوم، الامتناع عن الطعام والاعتكاف متخذا الظلمة مأمنا له." (ص 53). كل ذلك يعكس أثر سقوط النظام العراقي في الجانب النفسي للكاتبة من خلال نصها الروائي المتميز والذي جاء معبرا عن رفضها لهذا الواقع والثورة عليه ولو بالقلم.
أما المرأة في نص المبدعة دينا سليم فجاءت حاضرة في أكثر من مقطع ما بين شخصية الأم ثم الأخت فتلتها الحبيبة والابنة لتتضامن مع الرجل (صارم)، فالأم مثلا هي الوطن البائس الذي يناشد الحرية بشكل غير مباشر ولنا في ذلك هذا المثال: "هزت جسده الهامد، نفخت في فمه، قبلته، حتى أعياها التعب، انفجرت بالبكاء، أصوات تصاعدية تهز الصمت، انتشر النواح، حول الهدوء إلى صدى والصدى إلى حقيقة، صيحة طفل! توقف الزمان عن الدوران، أمطر الكون صراخا، ارتعشت القبور، تراجع عزرائيل مبتعدا، يهرول بين القبور، مدركا أنه لم يعد له مكان ولا شأن هنا." (ص 10). أما حادثة وفاة الأخت "ساجدة" فجاء تعبيرا عن نهاية المغتصب لأي أرض طاهرة مهما طال قهره وجبروته ليبزغ فجر الحرية يوما ما: "أيقنت إنها ستأخذ خطا سريعا لا رجعة فيه، سقوط أبدي نحو الله عز وجل، هزيمة الحياة لم تعد هي الكبرى، هناك انتصارات لهزائم أقوى من العبودية، الحياة الأبدية." (ص 32).
ما نستخلصه إجمالا فيما يخص علاقة الشكل بمضمون رواية "الحلم المزدوج" هو ذلك الشكل الثوري تحديدا الذي استعملته الفلسطينية دينا سليم كتكنيك للتجريب الذي تجاوز المألوف أين تحركت الشخوص وسط جو درامي يعكس بعدا نفسيا بطريقة غير مباشرة تبحث عن ثوب الحرية تفاديا لهجر الوطن الحبيب.
المصدر
(1) دينا سليم: الحلم المزدوج، دار العودة، بيروت، ط 2، 2004.
وسوم: العدد 652