الشاعر الكعبي مصطفى كبير
وكَـعْبٌ قال "بانتْ" فاسْتبانتْ * * ومــا انْـفَـكَّتْ سُـعـادٌ بـالخِمارِ
...... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الشاعر مصطفى كبير[2]
وقصيدته ( فتوى كعبيّة ) تعبّر عن ذلك أدقّ تعبير وأوضحه وهي التي يقول فيها:
وكَـعْبٌ قال "بانتْ" فاسْتبانتْ * ومــا انْـفَـكَّتْ سُـعـادٌ بـالخِمارِ
ومــا بَـرحَتْ دِيـارَ الـقَوْمِ يَـوْمًا * ومـــا فَـــتِـئـــتْ تُـــــراودُ بـــــالـسِّــــوارِ
تَغَزَّلَ مِنْ قَديمِ العَـهْـدِ شَـيْـخٌ * إمَــــــامٌ، أو فَــقَــيــهٌ بِــاحْــــــــوِرارِ
وبعْضُ سُعـادِنـا لَـيْـلَـى ودَعْـدٌ * وبَـغْــدادٌ وصَــنْــعَــا إنْ نُــوَارِي
وأحْــيـَـانًــا نُــصَــوِّرُهــا رُؤانــا * * لِـتَـــــنْـعَـــــمَ بالـدَّلالِ والاسْـتِـتــارِ
والقصيدة مؤلّفة من ثمانية عشر بيتا محكمة النّسج سلسلة النغم قويّة المعاني، يبدأها بالغزل ثم يعرّج على هجاء الغَزِلين غزلا إباحيّا ، الذين لا يرون في المرأة إلا جسدا وشهوة، مُبَكِّتا نهجهم ومُشنّعا عليهم ، ثم يختمها بالافتخار بشعره على طريقة الأقدمين ، ونهجهم المحكم الذي ما إن حدنا عنه حتّى ضاع الشعر أو كاد وزاغت القيم واندثرت أو هي على وشك.. !
من لطائف هذه القصيدة أنّها تشرح المنهج الكعبيّ في الغزل بشكل مفصّل وتبيّن أغراضه العامّة ، فالغزل هنا عند الشّاعر مصطفى كبير:
تَغَزَّلَ مِنْ قَديمِ العَـــهْـدِ شَـيْـــخٌ إمَــــامٌ، أو فَــقَــيــــهٌ بِــاحْـــوِرارِ
وبعْضُ سُعـادِنـا لَـيْـلَـى ودَعْـدٌ وبَـغْــدادٌ وصَــنْــعَــا إنْ نُــوَارِي
وأحْــيـَـــانًــا نُــصَـــــوِّرُهــا رُؤانـــــا لِـتَـنْـعَـــــمَ بالــــدَّلالِ والاسْـتِـتــــارِ
وتظهر بعض هذه الخصائص في هذه الأبيات ويمكن حصرها فيما يلي:
- نهج قديم شارك فيه الشيوخ والفقهاء ( ما يوحي بالإباحة والجواز )
- قد يراد بالغزل المرأة مثل سعاد وليلى ودعد.( غزل حقيقي صريح عفيف ).
- وقد تكون المرأة رمزا لمدينة مثل ( بغداد وصنعاء ) فيورّىكعبيّة خالصة – كتبها الشاعر في مكّة المكرّمة – كتبها في الكعبة المشرّفة وهي خير ما يكتب فيها من شعر في الغيد .. !!
أسلوب شائع عند الكعبيين وطريقة متّبعة ، يكتب الشاعر متغزّلا بشيء عزيز على قلبه، فيظن القارئ أو السّامع أنّ ذلك في امرأة بعينها ثمّ يكتشف أنّها مدينة أو وطن أو فكرة قيّمة أو قضيّة عادلة يدافع عنها..
مطلع غزليّ جذّاب ومثير لانتباه القارئ وخصوصا أنّ فيه عنصرين أساسيين يساعدان على ذلك وهما ( الهوى / السؤال ) بمعنى آخر جاذبية الموضوع ( الهوى ) وأسلوب العرض وهو صيغة السؤال، وكلّ سؤال في هذا الشأن يثير النّفس ويجعلها تتطلّع إلى الجواب وتنتظره بشغف..
وحين يقول:
وذُقْتُ العِشْقَ مُذْ سَكَنَتْ فُـؤادي * * ولـــو يَـخْـلـو الـفـؤادُ إذن أشِـيـبُ
فــؤادي فـي الـمَحَبَّةِ غـــــيـرُ هَـــــاوٍ * * ومــــنْ ذاقَ الـصَّـبـابةَ لا يَـغِـيـبُ
يعبّر الشاعر عن شدّة حبّه وولهه بمحبوبه فيصرّح أنّه ذاق العشق عندما سكن فؤاده ، وهو قبل ذلك – إذاً – لم يكن يعرف ما العشق وما طعمه ، فهو عشق بِكر ، والعشق البكر هو العشق الأوّل الذي يبقى في الفؤاد ويدوم ( فما الحبّ إلا للحبيب الأوّل )، ويصرّح أيضا لو أنّ فؤاده يخلو من ذلك العشق لشاب وهرم ، وأدبر شبابه، ويقول أيضا في إعلان قويّ أنّ عشقه ليس عشق هواة سرعان ما يتحوّلون عنه إلى غيره ، رغم أنّه ذاق العشق لأوّل مرّة ، فكان عشقا متمكنا وقويّا منذ بزوغ زهره في القلب، ذلك لأنّه ليس عشق امرأة ولا أمرا ماديّا سرعان ما يذهب بمرور الدّهر وكرّ الأيّام ، إنّه عشق لمكان مقدّس عظيم يهواه ويهيم به كلّ مسلم مشبوب ( الإيمان ) في أوّل بيت وضع للنّاس.
ويقدّم الشاعر على هيامه الكبير دليلين قاطعين وبرهانين ساطعين ، هما ( ذهوله والنّدوب التي في قلبه )، فأمّا الذّهول فهو شيء مألوف عند الشعراء يصوّرون به شدّة المحبّة وقوّتها، أمّا الندوب في القلب فهي صورة نادرة وقليلة في شعر الغزل لا تتكرر كثيرا.. وقد أنشأت البيت خلقا آخر، سحرا حلالا وبيانا زلالا:
ويَـشْـهـدُ بـالـهيامِ بِـهـا ذُهُـولـي * * ويَـشْـهـدُ بـالـفُـؤاد لـهـا الـنُّـدُوبُ
ويسأل العذّال الشاعر – وهم لا يدرون – كيف يهيم بالغيد بعد الكِبر والمشيب ، وكيف بُليَ بذلك في آخر عمره ، وذلك من أعظم الذّنوب، فيردّ عليهم الشاعر ردّا مزلزلا:
يَـقول... وهـلْ سَـيصْمدُ لـوْ رآهـا * * مُــجَـلْـبَـبَـةً بِـــسَــوْداءٍ تُـــذِيــبُ
ثمّ يأتي الشاعر على ذكر مفاتن حبيبته ومحاسنها فيقول أنّها: ترتدي ثيابا سوداء تذيب –من جمالها - عين النّاظر ، وأنّ هذا الجلباب من الخزّ الذي تعجز ملوك الدنيا عن تقديمه لفاتنة لعوب من النّساء، ويصف قبلة ثغرها بأنّها أحلى وأشهى من الرّضاب :
وقُـبْـلَـةُ ثَـغْـرِهـا يَــا وَيْــحَ قَـلْـبي * * يَـقُـولونَ الـرُّضـابُ.. وَلَــمْ يُـصِيبُوا
ويمضي على هذا النّسق في وصف مذهل وتغنٍ صادح وغزل عفيف طاهر، إلى أن يوقّع بما يدلّ عليها أنّها هي لا شك قِبلة المؤمنين ومهوى أفئدتهم لا غادة حسناء من فاتنات النّساء:
ويَـخْـطـبُها بِــبـابِ الـقَـصْـرِ قَـــوْمٌ * * ويُـكْـسَرُ فِــي مَـحَـبَّتِها الـصَّـليبُ
ستَبْقى في القُلـوبِ مَـنَـارَ هَدْيٍ * * ويَـعْــجــزُ إذْ يُـعَـانِـدُهـا الـــغُــرُوبُ
والشاعر لا يصرّح بشكل قاطع أنّها الكعبة الشريفة ، لكنّ هناك إشارات قويّة وأوصاف تنفرد بها هي دون غيرها تدلّ عليها يقينا لا ريب فيه..
وكما نَظَم الشاعر مصطفى كبير إحدى أروع كعبيّاته في ( الكعبة ) المشرّفة وفي مكّة المكرّمة، فقد نظم كعبيّة أخرى في الشّوق إلى مسجد الرّسول صلّى الله عليه وسلّم وذكر خصائصه، وتحديدا في التغنّي بجمال الروضة الخضراء ، والهيام بسنائها وبهائها حيث يقول في قصيدته التي عنوانها (الروضة الخضراء )
[2] - من حوار لي معه في الفايس بوك.
[4] - الشاعر مصطفى كبير غالبا لا يضع عناوين لقصائده ، خلاف هذه القصيدة التي عنونها ، ولمّا طلبت منه عنونة قصائده محلّ ( القراءة ) تفضّل بذلك مشكورا .
وسوم: العدد 655