تأملات فيصليّة والواقع

clip_image002_f8fd7.jpg

يستهلّ الكاتب الاماراتي فيصل سعيد السويدي كتابه" تأمّلات فيصلية" الصادر في العام 2016 عن دار الجندي للنّشر والتّوزيع في القدس، بإهدائه إلى مدينة القدس التي طالما عشقها وتمنّى أن تطأها أقدامه، وأختار أخيرا أن ينشر كتابه من قلبها إعلانا لحبّه وتبجيله لها. هذا الإهداء يفصح عن شخصيّة الكاتب المنتمي، الذي يشعر أنّه جزء من أمّته يتألم لألمها ويتطلّع لنهضتها، ويُظهر أيضا روحه الوطنيّة والقوميّة وانتماءه الإسلاميّ، والتزامه بالدّين الحنيف والذي بدا واضحا في معظم نصوصه وأثّر عليها وأثراها.

يتكون الكتاب من مجموعة كبيرة من الومضات القصيرة، والتي تتميّز جميعها بسهولة اللغة ووضوحها، وتتصف معظمها بالمباشرة بعيدا عن الرمز والصور؛ فما يقصده الكاتب يبثّه بوضوح دون مواربة، ويعبّر عن مشاعره وأفكاره بكلّ صراحة. نصوص الكتاب متنوّعة في أسلوبها ومضمونها؛ فالقارئ يبحر في هذه التأمّلات يتفيّأ ظلالها، وكأنه نحلة تنتقل من غصن إلى آخر ومن وردة إلى أخرى، تستنشق عبير أزهار لا تخلو من الأشواك. فهناك الخاطرة وهناك الموعظة والحكمة والقصة القصيرة جدّا، وهي متفاوتة جدّا في أسلوبها ومضمونها وجمالها. فنراه يستخدم أحيانا أسلوب التساؤل؛ ليثير حفيظة القارئ ويستفزّ مشاعره للتفكير بعمق فيما وراء هذه الكلمات القليلة، فيقول مثلا: كم هو مهلك ذلك البوح! كم هي معبّرة بعض الملامح! لكنّه يجنح أحيانا أخرى إلى الأسلوب الوعظي باستخدام أفعال الأمر والتي تضعف نصوصه، مثل قوله: جالس الفقراء... اذهب إلى مطاعم الفقراء.

يبدع الكاتب أحيانا في اختلاق بعض المعاني والأساليب وإثارة التساؤلات، لكنّه يبقى يحوم حول بعض الأفكار المطروقة، ويستخدم بعض المصطلحات التي تتكرر كثيرا: مثل قوله : كم هو بليغ ذلك الصمت! والكاتب ابن بيئته بامتياز، فهو يدور في نصوصه حول الصداقة والعلاقة مع الأصدقاء، ويبرز معاناته من الأصدقاء الزائفين المتملّقين، ويظهر وفاءه وحبه لأولئك المخلصين، ويستدلّ على ذلك بكثير من التشبيهات والأحداث التي تدور في عالم الشباب في وطنه، حيث التباهي بالسيّارات والماديّات والابتعاد عن روح الصراع والمعاناة والفقر والبطالة التي يعاني منها معظم الشباب في مختلف الأقطار العربية. ويظهر الكاتب عدم رضاه عن المجتمع الذي يعيش فيه والذي ابتعد عن الوفاء وبساطة العيش.

تكلّم الكاتب كثيرا عن الصداقة والأصدقاء، وصنّفهم إلى مخلص وإلى صاحب مصلحة مخادع، إلا أنّني لم أرَ أن الكاتب جاء بما هو جديد أو مختلف عن المألوف، حتّى قرأت هذا النّص صفحة 68 (تساقط الورق وظلّ الهدهد يناجيني.) فوجدّته يعبّر عن كل ما أراد أن يقوله في نصوص كثيرة ولكن بأسلوب أدبيّ جميل. وفي صفحة 43 يقول الكاتب. (كم من أبرهة، وما من فيلٍ يمتنع!) يعبر بهذه الكلمات القليلة البسيطة عن واقع معقّد؛ فالذين يناصبون هذه الأمة العداء ويريدون هدم أسس الكرامة والعزّة فيها كثر، لكنّ العلّة لا تكمن فيهم فحسب بل في كل من يقف في صفّهم، ويكثّر سوادهم، ولا يحاول منعهم عن غيّهم؛ فيكون المعول الذي يهدم به الأعداء أركان هذه الأمة. وإلى جانب الجانب المظلم هناك دائما جانب مشرق منير، يقول الكاتب: (عظماء أولئك الذين في أعتى آلامهم يسألون عن آلام غيرهم ويخفّفونها!)

يعرّف الكاتب عن نفسه في أحد نصوصه ويظهر التواضع الشّديد عندما يسمّي نفسه كويتب وشويعر بالتّصغير، لكنّ (الأنا) تبرز بوضوح في نصوصه رغم ذلك، فنراه يكرر كلمة "أنا" في أماكن يمكن حذفها بسهولة دون أن يختلّ المعنى، مثل قوله: للأسف معلومات بعض شبابنا عن الحضارات والتاريخ كمعلوماتي أنا عن الناتج المحلي الإجمالي في دولة ترينداد وتوباغو!) ويستخدم ضمير المتكلم كثيرا مظهرا الاعتزاز بنفسه دون أن يشعر، ويستخدم اسمه بشكل صريح (فيصل) في كثير من النصوص، وينسب كثيرا من الأشياء إلى ذاته فيسميها فيصليّ وفيصليّة، وتصل نرجسيّته ذروتها عندما يطلق على كتابه "تأملات فيصليّة"

أخيرا، فإنّ قراءة كتاب (تأملات فيصليّة) تجربة ممتعة خفيفة الظلّ، ينتهي القارئ منه بسرعة، لكنّه يرغب أن يقلب صفحاته مرّة أخرى ويبدأ من جديد.

وسوم: العدد 655