الأناة والتثبت في البحث العلمي

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على سيِّدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعدُ:

فغيرُ خافٍ على مَنْ يراقب الحركة العلمية في العالم الإسلامي أنَّها تشهد أزمة في مستوى البحث، تنمُّ عن تَرَدٍّ في التحصيل، وتكشفُ عن ضعف في الاستعداد، وتبينُ عن خلل في الأداء.

ولا بد أن من وراء هذه الأزمة أسباباً متعددة أدَّتْ بها إلى البروز والاستفحال.

ومن الأهمية بمكان دراسةُ هذه الأزمة، والكشفُ عن أسبابها، والعملُ بجدٍّ وصدقٍ على القضاء عليها، والسعيُ الدؤوبُ للارتقاء بمستوى البحث إلى الدرجة اللائقة.

ومِنْ خلال متابعتي لهذا الموضوع أحسبني وضعتُ يدي على سببٍ مهمٍ من الأسباب التي قعدتْ بالبحث عن التحليق والتوفيق، ذلك هو التعجُّل والتسرُّع، وقلة الأناة والتثبُّت، ورأيتُ أن يكون حديثي اليوم في معالجة هذا الجانب:

• وأبدأ بإضاءةٍ من القرآن الكريم فقد قال تعالى:

﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ (الأعراف: 54).

وقد تواردتْ كلماتُ عددٍ من المفسِّرين على معنىً لطيف هو أنَّ الله -سبحانه وتعالى- خلق السموات والأرض في ستة أيام - ولو شاء لخلقها في لحظة - لِيُعَلِّمَ عبادَه الرفقَ والتثبتَ، وهو معنى من معان أخر يمكن أن تستفاد من الآية:

قال الإمام ابن الجوزي في "زاد المسير":

«فإن قيل: فهلا خلقها في لحظة، فإنّه قادر؟

فعنه خمسة أجوبة...

الرابع: أنه علّم عبادة التثبت، فإذا تثبَّت مَنْ لا يزل، كان ذو الزلل أولى بالتثبُّت».

ومثل هذا جاء عند الرازي، والقرطبي، والجلال السيوطي، والشوكاني، والآلوسي.

♦♦♦♦

• ونجدُ في السُّنة النبوية اهتماماً واضحاً بالأناة وبيان فضلها:

ومن ذلك ما رواه الشيخان عن ابن عبَّاس، أنَّ النبي صل الله عليه وسلم قال لأشج عبد القيس: إنَّ فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة.

وما رواه الترمذي عن سهل بن سعد الساعدي، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: الأناة من الله، والعجلة من الشيطان.

وما رواه عن عبد الله بن سرجس المزني، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: السمت الحسن والتؤدة والاقتصاد جزء من أربعة وعشرين جزءاً من النبوة.

وما رواه الطبراني والعسكري والقضاعي عن عقبة بن عامرٍ رفعه: مَنْ تأنى أصاب أو كاد، ومَنْ عجل أخطأ أو كاد.

وما رواه ابن أبي الدنيا في «ذم الغضب»، والخرائطي في «مكارم الأخلاق» عن الحسن مرسلاً: التبيُّن من الله، والعجلة من الشيطان فتبينوا.

♦♦♦♦

هذا عن فضل الأناة، فما وسائلها في مجال البحث العلمي؟

للجواب عن هذا التساؤل أقول:

إن هناك عدة وسائل يمكن تلمُّسها من النظر في سير العلماء، وعاداتهم، وأقوالهم، وأفعالهم - وبينها تداخلٌ وتكاملٌ - فمِنْ هذه الوسائل:

1- إعطاء عامل الزمن حقه:

ولا سيما أن الإنسان معرض لتبدل الآراء والأفكار، وقد قال القاضي الفاضلُ عبد الرحيم البيساني (ت: 596هـ):

«إني رأيتُ أنه لا يكتب إنسان كتاباً في يومه إلا قال في غده: لو غُيِّرَ هذا لكان أحسن، ولو زِيد كذا لكان يستحسن، ولو قدِّم هذا لكان أفضل، ولو ترِك هذا لكان أجمل، وهذا من أعظم العبر، وهو دليلٌ على استيلاء النقص على جملة البشر».

وكان في العلماء مَنْ يمكث السنين في تأليف الكتاب:

جاء في ترجمة العالم الأديب إبراهيم بن يحيى اليزيدي (ت: 225هـ) أنَّ له كتاباً «يفتخرُ به اليزيديون وهو "ما اتفق لفظُه واختلف معناه" - نحو من سبع مئة ورقة - وذكر أنه بدأ بتصنيفه وهو ابن سبع عشرة سنة، ولم يزل يعمله إلى أن أتتْ عليه ستون سنة».

وقال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام (ت: 223هـ):

«مكثتُ في تصنيف هذا الكتاب «الغريب المصنف» أربعين سنة، وربما كنتُ أستفيد الفائدة من أفواه الرجال فأضعها في موضعها من الكتاب فأبيتُ ساهراً فرحاً مني بتلك الفائدة».

وجاء عن الإمام ابن عبد البر (ت: 463هـ) قولُه في كتابه «التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد»:

سميرُ فؤادي من ثلاثين حجة http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وصاقلُ ذهني والمفرِّج عن غمي http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

بسطتُ لكم فيه كلام نبيكم http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

لما في معانيه من الفقه والعلمِ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وفيه من الآداب ما يُقتدى بهِ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

إلى البرِّ والتقوى وينهى عن الظلمِhttp://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وللإمام شمس الدين محمد بن حمزة الفناري (ت: 834هـ) مُصنَّفٌ في أصول الفقه سمّاه «أصول البدائع في أصول الشرائع» جمع فيه المنارَ، وكتابَ البزدوي، والمحصولَ للرازي، ومختصرَ ابن الحاجب، وغير ذلك، وأقام في عمله ثلاثين سنة.

وصرف الإمام المزي (ت: 742هـ) من عمره لتأليف «تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف» ستاً وعشرين سنة، فقد كان الشروع فيه يوم عاشوراء سنة 696هـ، وختم في الثالث من ربيع الآخر سنة 722هـ.

واستغرق تأليف كتاب "الصحيح" من الإمام مسلم بن الحجّاج النيسابوري خمس عشرة سنة.

وصرف الإمام أبو إسحاق الشيرازي لتأليف كتابه «المُهذب» أربع عشرة سنة.

وألَّف الزمخشري «الكشاف» في مدة خلافة أبي بكر، وكان يقدر تمامه في أكثر من ثلاثين سنة، لولا بركات الحرم، كما قال.

واعتذر المُناوي عمّا قد يُوجد في كتابه «فيض القدير شرح الجامع الصغير» من هفوات أو كبوات بأنه ألفه في استعجال، في مدة الحمل والفصال.

وجاء عن الإمام النووي أنه تطلب مسألة سنين ففي «كفاية الأخيار» للحصني: «أصبح شخصٌ ولم ينو صوماً فتمضمضَ ولم يبالغْ فسبق الماءُ إلى جوفه ثم نوى صوم التطوع صحَّ على الأصح.

قال النووي: وهي مسألة نفيسة، وقد تطلبتُها سنين حتى وجدتها، ولله الحمد».

وكان يُستدل مِنْ حُسنِ تأليف الكتاب على الوقت المصروف فيه، ويُثنى على صاحبه بذلك:

قال ياقوت الحموي:

«وقفني صديقُنا الحافظ الإمام أبو عبد الله محمد بن محمود بن النجار -جزاه الله خيراً- على مختصر من كتابٍ ألفه أبو الفتح نصر بن عبد الرحمن الإسكندري النحوي فيما ائتلف واختلف من أسماء البقاع، فوجدتُه تأليفَ رجلٍ ضابطٍ قد أنفدَ في تحصيله عمراً، وأحسنَ فيه عيناً وأثراً...».

وبلغنا عن السيد أحمد صقر أنه أخرّ طبع كتاب ستة أشهر لأنه لم يعثرْ على قائل بيتٍ ورد فيه.

ولعدم وجود الفراغ والوقت الكافي، والخوف من التقصير امتنع الإمامُ أبو طاهر السِّلفي من الكلام على الموطأ حين سُئِله، انظرْ ما قاله في «مقدمة إملاء الاستذكار».

أخلصُ من هذا إلى القول:

أن للزمن حقاً لابد من مراعاته، والعملُ العلمي - إن لم يستكمل وقته - صغيراً كان أو كبيراً، بحثاً كان أو مبحثاً - وُلد مخدجاً.

♦♦♦♦

2- الرجوع إلى المصادر والمراجع والمظان المتعددة:

وهذا أمر بدهي، ولكن المتابع يجد إخلالاً واضحاً به، والأصل أنْ يَستقصي مَنْ يبحثُ في موضوعٍ كلَّ ما كُتِبَ عنه أو ما يتعلق به استقصاءً تاماً - أو على الأقل شبه تام-، ليرى - أولاً - إن كان هناك ضرورة للكتابة فيه مِنْ جديد.

ولتكون كتابته - ثانياً - مستوفية لجوانب الموضوع، قائمة بشروط البحث، ملبية لحاجة القارئ والمراجع والمُهتم.

وليحاول – ثالثاً - أن يضيف على ما كُتِبَ إضافة ذات بال.

ويحضرني هنا:

ما قاله الإمامُ عبدُالله بن مبارك: «صنَّفتُ مِنْ ألفِ جزءٍ جزءاً».

وما قاله الإمامُ عبدالحي الكتاني (ت: 1382هـ) مِنْ أنه قرأ جُلَّ مكتبته لتأليف كتابه «نظام الحكومة النبوية».

وقد أورد مصادرَه في مقدماته فتجاوزتْ (410) كتاب، وكتابُه - كما هو معلوم - في مجلدين اثنين.

ويُذكرُ هنا الإمام السيوطي (ت: 911هـ) وقد قال في مقدمة كتابه «بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة»:

«إنِّي مذ نشأت وأنا أتشوّف إلى كتابٍ يجمع أخبار النحويين لمزيد اختصاصي بهذا الفن إذ هو أول فنوني... فلم أرَ في ذلك ما يَشفي العليل ولا يَسقي الغليل، فجرَّدتُ الهمة في سنة ثمان وستين وثمان مئة [وعمره 19 سنة] إلى جمع كتابٍ في طبقات النحاة جامعٍ مستوعبٍ للمهمات، وعمدتُ إلى التواريخ الكبار التي هي أصول وأمّات، وما جُمِعَ عليها من فروع وتتمات، وطالعتُ ما ينيف على ثلاث مئة مجلد».

وبلغتْ مصادرُه في «الإتقان في علوم القرآن» (550) مصدراً.

وقال في رسالته «القول المُجْمل في الرد على المُهْمَل» التي وضعها لنصرة رأيه في ضبط لفظة «خصِّيصى»:

«ولقد رأيتُ في اللغة والنحو والتصريف أكثرَ من مئة مؤلَّف، فلم أرَ أحداً منهم ذَكَرَ أنه سمع «خصيص».

♦♦♦♦

3- ضرورة الدقة في النقل واتهام الذاكرة:

وفي "نفح الطيب" في ترجمة إمام النحو ابن مالك (ت: 672هـ):

«كان رحمه الله كثيرَ المطالعة، سريعَ المراجعة، لا يكتب شيئاً من محفوظه حتى يراجعه في محله، وهذه حالة المشايخ الثقات والعلماء الأثبات».

ولننتبه بدقةٍ إلى الجملة الأخيرة: «وهذه حالة المشايخ الثقات...» ولننظرْ إلى أوضاع البحث العلمي اليوم، وكم فيها من أخطاء وأخطار في النقل المُشوه، والنقل المبتسر، والنقل بواسطة أو بوسائط، والنقل عن غافل أو جاهل أو عامل!!.

وبلغنا عن العلامة الشيخ أمجد بن سعيد الزهاوي أنَّ رجلاً سأله سؤالاً ليس جوابه بالصعب فقال للسائل: أمهلني حتى أراجعه في الكتاب.

ولعل مستنده في هذا ما جاء في «المجموع» في آداب المفتي:

«ليتأملْ الرقعة تأملاً شافياً، وآخرها آكد، فإنَّ السؤالَ في آخرها، وقد يتقيدُ الجميع بكلمة في آخرها ويغفلُ عنها. قال الصيمري: قال بعضُ العلماء: ينبغي أن يكون توقُّفه في المسألة السهلة كالصعبة ليعتاده، وكان محمد بن الحسن يفعله...».

وجاء عن العلامة السيد داود بن سلمان التكريتي أنه كان وهو في الثمانين من العمر يقوم مع الرجفة وضيق التنفُّس ليأتي بكتابٍ يراجعُ فيه كلمة أو مسألة، لا للجهل بها ولكنْ للتأكد والتثبُّت.

♦♦♦♦

4- إطالة النظر والتفكير والمراجعة والتحرير:

يقول الخطيبُ البغدادي:

«ينبغي أن يفرغَ المصنِّفُ للتصنيف قلبَه، ويجمعَ له همَّه، ويصرفَ إليه شغله، ويقطع به وقتَه».

ثم يقول: «ولا يضع من يده شيئاً من تصانيفه إلا بعد تهذيبه وتحريره، وإعادة تدبُّره وتكريره».

ونَقَلَ عن عبد الله بن المعتز في هذا كلاماً حسناً.

ويقول الإمامُ النووي:

«ينبغي أن يعتني بالتصنيف إذا تأهّلَ له، فبه يطَّلع على حقائق العلم ودقائقه، ويثبت معه، لأنه يضطره إلى كثرة التفتيش والمطالعة، والتحقيق والمراجعة، والاطلاع على مختلِفِ كلام الأئمة ومتفِقهِ، وواضحهِ من مشكلهِ، وصحيحهِ من ضعيفهِ، وجزلهِ من ركيكهِ، وما لا اعتراضَ عليه مِنْ غيره، وبه يتصفُ المحقِّق بصفة المُجتهد».

ثم يقول: «وليحذرْ كلَّ الحذر أن يشرعَ في تصنيف ما لم يتأهل له، فإن ذلك يضرُّه في دينه وعلمه وعرضه.

وليحذرْ أيضاً من إخراج تصنيفه من يده إلا بعد تهذيبه، وترداد نظره فيه وتكراره ...».

ومثل هذا جاء عند ابن جماعة في «تذكرة السامع والمتكلم».

والضرر الذي لمح إليه النووي لمح إليه علماء عقلاء مِنْ قبله، فقد قال أبو عمرو بن العلاء:

«الإنسان في فسحةٍ من عقله، وفي سلامةٍ من أفواه الناس، ما لم يضعْ كتاباً، أو يقلْ شعراً».

وقال كلثومُ بن عمرو العتابي (ت: 220هـ):

«مَنْ صنعَ كتاباً فقد استشرفَ للمدح والذم، فإنْ أحسنَ استهدفَ للحسد والغيبة، وإن أساءَ تعرَّضَ للشتم، واستقذفَ بكل لسان».

وقال هلالُ بن العلاء الرقي (ت: 280هـ):

«يُسْتدلُ على عقل الرجل بعد موته بكتبٍ صنّفها، وشعرٍ قاله، وكتابٍ أنشأه».

ويُذْكرُ هنا أن الشيخ ابن باطيش ترجم في "كتابٍ" وضعَهُ على «المُهذب» رجلاً اسمُهُ مطرف رآه الشافعيُّ (ت: 204هـ) في صنعاء، ترجمه على أنه مطرف بن عبد الله بن الشخير المتوفى سنة (87هـ) ممّا استدعى عجبَ ابن خلكان الشديدَ وتسجيله هذا الخطأ، ولو تأمّل الشيخُ المذكورُ (ابن باطيش) هذا لاستدرك على نفسه.

واليوم يوجدُ من هذا الخطأ أمثلة كثيرة، وسبحان الله!.

وإذا لم يلتزم الباحثُ بهذا عرّضَ نفسَه للنقد:

ويُذْكرُ هنا ما قاله الحافظُ ابنُ حجر في «فتح الباري بشرح البخاري»:

«وإنّي ليَكثرُ تعجُّبي مِنْ كثرة إقدام الدمياطي على تغليط ما في "الصحيح" بمجرَّد التوهُّم، مع إمكانِ التصويب بمزيد التأمُّل، والتنقيبِ عن الطرق، وجمعِ ما ورد في الباب من اختلاف الألفاظ، فللهِ الحمدُ على ما علّم وأنعم».

وممَّن تعرَّض للنقد - مع ما بذل من جهدٍ - الحافظُ عبد الغني المقدسي:

قال الإمامُ المزي في مقدمة «تهذيب الكمال في أسماء الرجال» بعد ذكرهِ الكتب الستة وعناية العلماء بخدمتها:

"وكان مِنْ جملة ذلك كتاب «الكمال» الذي صنَّفه أبو محمد عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي - رحمة الله عليه - في معرفة أحوال الرواة الذين اشتملتْ عليهم هذه الكتب الستة، وهو كتابٌ نفيسٌ، كثيرُ الفائدة، لكن لم يَصرفْ مصنِّفُه - رحمه الله - عنايتَه إليه حقَّ صرفها، ولا استقصى الأسماءَ التي اشتملتْ عليها هذه الكتب استقصاءً تاماً، ولا تتبَّع جميعَ تراجم الأسماء التي ذكرها في كتابه تتبعاً شافياً، فحصل في كتابه بسبب ذلك إغفالٌ وإخلالٌ».

ومن الكتب التي تعرضتْ للاستدراك كتاب «الترغيب والترهيب» للمنذري - على أهميته وجلالة مؤلفه - فقد وضعَ الحافظُ برهان الدين الناجي عليه مجلداً سمّاه «عجالة الإملاء المتيسرة من التذنيب على ما وقع للحافظ المنذري من الوهم وغيره في الترغيب والترهيب».

على أنَّ المنذري كان قد احتاط لنفسه، واعتذر عمّا قد يكون في كتابه فقال في آخره:

«نستغفرُ اللهَ سبحانه مما زلّ به اللسان، أو داخله ذهول، أو غلب عليه نسيان، فإن كل مصنِّف مع التؤدة وإمعان النظر وطول الفكر قلَّ أنْ ينفك عن شيءٍ من ذلك فكيف بالمُملي مع ضيقِ وقته، وترادفِ همومه، واشتغالِ باله، وغربةِ وطنه، وغيبةِ كتبه...».

وكان الإمام الموقاني (ت: 664هـ) يقولُ عن أبي الفرج ابن الجوزي إنه كان كثير الغلط فيما يصنِّفه، فإنه كان يفرغُ من الكتاب ولا يَعتبره.

قال الذهبي: «هكذا هو، له أوهامٌ وألوانٌ مِنْ ترك المراجعة، وأخذ العلم من الصحف، وصنَّفَ شيئاً لو عاش عمراً ثانياً لما لحق أنْ يحرره ويتقنه».

قال ابنُ رجب الحنبلي: «ورُبّما كتبَ في الوقت الواحد في تصانيف عديدة».

ومن التثبُّتِ التفكُّرُ الدقيقُ في المسألة المبحوثة:

ويحدِّثنا تاجُ الدين السبكي عن والده تقي الدين فيقول:

«كنتُ أراه يكتبُ متن «المنهاج» ثم يفكِّر، ثم يكتبُ، وربما كتبَ المتن، ثم نظرَ الكتب، ثم وضعَها مِنْ يده وانصرفَ إلى مكانٍ آخر وجلسَ ففكَّرَ ساعة، ثم كتبَ».

وهذه لقطةٌ جميلةٌ مِنْ لقطات التاج عن والده في طريقة كتابته.

♦♦♦♦

5- ومن الوسائل عدمُ الإسراع إلى تغليط الآخرين، والتأمُّلُ التام في الأمر قبل الحكم:

وقد نصح تاجُ الدين السبكي قارئ كتابهِ «جمع الجوامع» بقوله:

«إياك أنْ تبادر بإنكار شيءٍ منه قبل التأمُّل والفكرة، ففي كل ذرة منه درة».

وكان شارح «التنبيه» الشيخ عبد العزيز بن عبد الكريم الجيلي صاحب النقولات المستغربة في المذهب الشافعي قد استشعرَ من نفسه أنه يُنْكَرُ عليه، ففصَّل في خطبة كتابه كثيراً وقال:

«لا يتسرع أحدٌ إلى الإنكار عليّ حتى يكشف جميعَ هذه الكتب».

قال ابنُ الملقن في «العقد المذهب»: «فينبغي أن يعمل كما قال، ولا يعجل بالإنكار».

وشجّع ابنُ خلكان مَنْ رأى في كتابه «وفيات الأعيان» خللاً أنْ يصلحه، ولكنْ «بعد التثبُّت فيه» قال: «فإنِّي بذلتُ الجهدَ في التقاطه مِنْ مظانِّ الصحة...».

♦♦♦♦

6- ومنها عرض البحث على المختصين من أهل العلم:

ومن المشهور أنَّ أبا هريرة رضي الله عنه كان يقول وهو يُحدِّثُ: اسمعي يا ربّة الحُجرة - يريد السيدة عائشة رضي الله عنها-

قال العلماءُ: مرادُه بذلك تقوية الحديث بإقرارِها ذلك، وسكوتِها عليه.

ومن المعروف أنَّ الإمام مالك بن أنس قال: «عرضتُ كتابي هذا على سبعين فقيهاً من فقهاء المدينة، فكلهم واطأني عليه، فسميتُه المُوطأ».

وأنَّ الإمام البخاري عرضَ «الصحيح» على ابن المديني، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وغيرهم.

وأنَّ الإمام مسلماً والإمام ابن ماجه عرضا كتابيهما «الصحيح» و«السُّنن» على الإمام أبي زرعة، وقال مسلم: «فكل ما أشار عليّ أنَّ له علة وسبباً تركتُه، وكل ما قال إنه صحيح ليس له علة فهو الذي أخرجتُ».

وأنَّ أبا داود عرضَ كتابه «السُّنن» على الإمام أحمد - إنْ صح الخبر، ولعله عرض بعضه -.

وأنَّ الترمذي عرضَ «الجامع» على علماء الحجاز، والعراق، وخراسان، فرضوا به.

وأنَّ المفسِّر محمد بن عزيز السجستاني عرضَ كتابه «غريب القرآن» على أستاذه أبي بكر ابن الأنباري.

وأنَّ الحافظ أبا سعد الإدريسي قد حمل كتابه «تاريخ سمرقند» إلى الإمام الدارقطني فنظرَ فيه، ثم قال: هذا كتاب حسن.

ومِنْ بعدهم عرض ابنُ الجوزي كتابه «تلقيح فهوم الأثر في عيون التواريخ والسير» على شيخه ابن ناصر السلامي، فكتب له عليه ثناء ودعاء.

والأمثلة في هذا غير قليلة، وهي تدلُّ على حبِّ العلم، والحرصِ على صيانته، وفضلِ النفس وتواضعِها، والخوفِ من الله في تسطير ما يكون خطأ في علوم الدين.

وكان بعضُ الأئمة يعرض على تلامذته:

ومن هؤلاء الفقيه ابن الرفعة (ت: 710هـ):

قال التاجُ السبكي في ترجمة والده تقي الدين:

«وأمّا شيخه ابن الرفعة فكان يعامله معاملة الأقران، ويبالغُ في تعظيمه، ويعرضُ عليه ما يُصنِّفه في «المطلب».

وجاء في ترجمة الحافظ ابن الغرابيلي (ت: 835هـ) أنه رحل إلى القاهرة فصحبَ بها الحافظَ ابن حجر، وحرَّرَ «تحرير المشتبه» له.

وكان ابنُ حجر يقول:

«لستُ راضياً عن شيءٍ من تصانيفي، لأني عملتُها في ابتداء الأمر، ثم لمْ يتهيأ لي مَنْ يحرِّرُها معي سوى "شرح البخاري"، و"مقدمته"، و"المشتبه"، و"التهذيب"، و"لسان الميزان"».

♦♦♦♦

• وهذه الوسائل لابد لها من الاستعانة التامة بالله للوصول إلى الصواب وتجنُّب الخطأ.

ومن اللطيف ما قاله الإمامُ أبو الوفاء ابن عقيل (ت: 513هـ):

«شاهدتُ شيخنَا أبا إسحاق الفيروزأبادي لا يُخرِجُ شيئاً إلى فقيرٍ إلا أحضرَ النية، ولا يتكلمُ في مسألة إلا قدّمَ الاستعانة بالله، وإخلاص القصد في نصرة الحق دون التزيُّن والتحسين للخلق، ولا صنَّفَ مسألةً إلا بعد أنْ صلى ركعات، فلا جرمَ شاع اسمُه، واشتهرتْ تصانيفُه شرقاً وغرباً، لبركة إخلاصه».

وأخيراً:

فقد نَقَلَ القيرواني (ت: 453هـ) في «زهر الآداب» عن بعض الحكماء قولَه:

«إيّاك والعجلة، فإنَّ العربَ كانت تكنيها أمّ الندامة، لأنَّ صاحبها:

يقولُ قبل أنْ يعلمَ.

ويُجيبُ قبل أنْ يفهمَ.

ويعزمُ قبل أنْ يفكِّرَ.

ويقطعُ قبل أنْ يقدِّرَ.

ويحمدُ قبل أنْ يجرِّبَ.

ويذمُّ قبل أنْ يخبرَ.

ولن يصحبَ هذه الصفة أحدٌ إلا صحبَ الندامة، واعتزلَ السلامة».

وأورد الزمخشري في «ربيع الأبرار ونصوص الأخيار» أنَّ آدم عليه السلام قال لولده: كل عملٍ تريدون أنْ تعملوه فقفوا له ساعة، فإنِّي لو وقفتُ لم يكن أصابني ما أصابني.

ولعل هذا مِنْ لسان حاله لا مِنْ قاله.

وأورد -الزمخشري- كذلكَ حكمتين جميلتين، ولم يعزهما إلى قائلٍ، وهما:

مَنْ ورَدَ عجِلاً صدَرَ خجِلاً.

ولا يَكادُ يعدم الصَّرعة مَنْ عادتُه السُّرعة.

وفي «جمهرة الأمثال» للعسكري:

قال القطامي:

قد يُدرِكُ المتأنّي بعضَ حاجتهِ *** وقد يكونُ معَ المستعجلِ الزللُ

وقال آخر:

يا طالبَ الحاجات يرجو نفعَها *** ليس النجاحُ مع الأخفِّ الأعجلِ

ويقول سعدي الشيرازي:

والقول لم تُعْمِلْ به التأمُّلا http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

كالثوبِ مِنْ غير قياسٍ فُصِّلا http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

قليله مِنْ بعد إعمالِ الفِكَرْ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

أفضلُ من طولِ الكلام في الهَذَرْ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

لا ترمِ آلافَ السهامِ خائباً http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وارمِ إذا تعقلُ سهماً صائبا

وسوم: العدد 655