السرد.. بين السينما والرواية، وتوظيف الحكي فيهما...
ضمن الفعاليات الثقافية لمعرض الكتاب الإلكتروني في دورته الأولى عام 2016، تحت رعاية السيد الأستاذ مروان محمد مؤسس دار حروف منثورة للنشر الإلكتروني، الذي وجه لي دعوة كريمة منه لتقديم ندوة موضوعها "السرد بين الرواية والسينما، وتوظيف الحكي فيهما"، وقد حددتُ لها عدة محاور، هي: مفتتح نقاشي حول سيادة الرواية في الآونة الأخيرة، مفهوم السرد والسردية، مفهوم السرد في الرواية، مفهوم السرد في السينما، العلاقة بين النص السردي في الرواية والسينما.
بدأتُ الندوة بسؤالين متتاليين اقتطفتهما من حواري مع الأديب السوري الكبير الدكتور محمود عمر خيتي، كانا يدوران حول تسيد الرواية التي سلبت الشعر مكانته، وعن النهضة الأدبية في عالم النشر، وجاءت إجابة الدكتور خيتي رافضة لهذا القول لأن الشعر مركبه صعب، وأن الذين يكتبون الرواية يظنونها فن سهل وأنها عملُ مَن لا عملَ له، ويسأل متعجبًا كيف صار بعض الشعراء يكتبون الرواية على حين لا ينتقل الروائيون إلى الشعر؟!، كما يرى أن الذين يهتمون بالشعر ويسمعونه ويقرؤونه طبقة مثقفة حتمًا وهذا ليس حال نوعية القاريء مع الرواية؛ إذ يمكن لأي فرد يفكُّ الخط أن ينتصر على أميته ويتسلى قليلاً ويقرأ صفحة من رواية فإذا به يندمج في الأحداث فيتابع قراءته، كما يرى الدكتور عمر أن هناك نهضة خادعة في وفرة دور النشر ومراكز بيع الكتب ومعارض الكتاب، ووفرة بالروايات العربية والمترجمة "أكثرها بوليسي أو عشق وغرام" في مكتبات البيع وعلى الأرصفة وعلى منصات التحميل المجاني.
حين يرى الدكتور فهد حسين أن الرواية لم تعد حالة طارئة في المجتمع العربي، وإنما راحت تتجذر في تكوين الكتابة العربي، وتسعى إلى أن تكون ملكة الأجناس الأدبية كلها، غير أن الدكتورة أماني فؤاد لها وجهة نظر مختلفة، حيث ترى أن كل نوع من الأنواع الأدبية، وكل جنس من أجناس الفن، يغني جانبًا في وعي المتلقي ووجدانه، بل وتتكامل الفنون كافة في تشكيل إنسان أكثر قدرة على تطوير إمكاناته البشرية.
بشيء من الإجمال سأعرض لأهم النقاط التي تناولتها في الندوة، تاركًا المساحة الأكبر لأسئلة الحاضرين، والإجابة عليها، تناولتُ المحور الأول وكان عن مفهوم السرد والسردية، ولأن التعاريف في أكثرها معقد وملغوم، فقد حاولت التبسيط، وعرَّفت السرد بأنه كل الأعمال التي تتميز بخاصيتين: وجود قصة وتوفر شخص واحد لا أكثر يحكيها أو يقصها، وهو التواصل المستمر بين المرسل والمتلقي، وكما يقول غاستون بلاشار: (إن ما أنشأ البشرية هو السرد)؛ فالسرد في الأصل وسيلة اتصالية، لنقل الحكايات عن الآخرين لنا، ونقل حكاياتنا للآخرين في المقابل،وهو يوافق اللغة المكتوبة واللغة الشفاهية المنطوقة، والصورة سواء كانت ثابتة أو متحركة.
وعلى هذا فالسرد هو الطريقة أو الآلية التي يختارها الكاتب المبدع عن طريق مجموعة من التقنيات يشكل من خلالها الصورة التي يريد رسمها في ذهن المتلقي. والسردية كما يعرفها فاضل الأسود: (هي مجموعة الأحكام والقواعد التي تنتظم شكلًا أو كيانًا محددًا، وتنظيماً منطقيًا والتي تختص بمناقشة الأجزاء والمقاطع والنصوص التي يتشكل منها السرد)..كما أن الرواية قادرة على توظيف تقنيات أجناس الفنون المختلفة : الأنواع الأدبية، أو غيرها من الفنون مثل: الموسيقى، والفنون التشكيلية، والسينما وغيرها من وسائط الاتصال التكنولوجي الحديث، وصهرها في شخصيتها.
وحين انتقلتُ إلى محور السرد في الرواية، تلك الرواية التي يعرَّفها الدكتور عبد الملك مرتاض بأنها "هي كل فعل أو عمل سردي مطول نسبيًا، معقد التركيب والبناء، وقائم على تقنيات للكتابة معروفة"، كما ترصد الدكتورة أماني فؤاد تاريخ المنظومة السردية، فتقول: (إن هناك مستويات من التطور في الآليات الفنية، فبعد الراوي العليم المفارق علي سبيل المثال وجدت تقنية "تعدد الأصوات"، بما يتيح تنوعا في سردية الرواية من وجهات نظر مختلفة: التطور في تقنية كتابة الرواية، لايخضع للأجيال المختلفة، وإنما يعتمد علي إبداع الكاتب وقدرته علي مواكبة ذلك التطور)، كما يلاحظ الدكتور حامد أبو أحمد أنه خلال العقود الأخيرة حدث تطور كبير في التقنيات الروائية في كل أنحاء العالم: (فلم تعد الرواية هي ذلك العالم الإبداعي القائم علي حدث صاعد يبني علي الحكي أو المضمون، وإنما صرنا نفاجأ بتقنيات جديدة معقدة لأنها في الأساس متداخلة، وفيها نوع من عدم الترتيب، أو العودة إلي الماضي، أو تداخل الشخصيات، وغير ذلك من فنون وتقنيات، فالتقنيات الجديدة التي جعلت من الرواية فنا يحتاج إلى امتلاك ثقافة عميقة حتي يمكن تلقيها واستيعابها).
أما عن السرد في السينما وهو المحور الثالث في ندوتنا، فإن المتفحص لتاريخ السينما ونشأتها سوف يلاحظ الأهمية الكبرى للحكي/السرد، لأنه الخطوة الهامة والضرورية لصياغة النص الفيلمي، والنظام الضروري لتحديد المعنى والتحكم فيه بل هو قاعدة ضرورية ولازمة وليس اختيارًا يتبع الأهواء، وقد تزودت السينما حين دخلت عالم السرد بعناصر ثرية متنوعة غيرت من مفاهيمها، كما تطور فن الفيلم كثيرًا.
يأتي تعريف كريستيان ميتز للفيلم غير بعيد عن تعريفه للسرد السينمائي، إذ الفيلم عنده: "يروي لنا قصصًا مترابطة، ويقول لنا أشياء كثيرة، تقولها أيضا اللغة المنطوقة، لكنه يقولها بطريقة أخرى، إن الذهاب إلى السينما يعني رؤية هذه القصص، ليس لأن السينما لغة تستطيع أن تروي لنا قصصًا جميلة، إنما لأنها روت لنا هذه القصص فأصبحت، بذلك، لغة".
أما السرد عند "ميتز" فهو مجموع الوقائع والأحداث التي ترتب في نظام أو توالٍ "سلسلة" من المشاهد، يحاول الفيلم تقديم تلك المشاهد من خلال قدرته على التفريج والتعبير عن معنى، ليس وفقًا لأفكار مسبقة أو مستعارة، إنما عبر تنظيم عناصره في الزمان والمكان؛ إذ الكاتب ــ عند ميتز ــ يستعمل اللغة، أما السينمائي فإنه يبتكرها.
ومما تقدم يمكننا القول بأن النص الروائي يعبر تعبيرًا ظاهريًا عن الأحداث والشخصيات مستندًا لمبدأيِّ المقروء والمتخيل، أي قراءة جوهر النص ثم يأتي التخيل ليصنع الصورة الشكلية لهذا الجوهر، بينما النص السينمائي فإنه يعبر بوسائل ثلاثة "المرئي، المسموع، المتحرك".
نجح النص السينمائي "السيناريو" في الانفصال عن الإخراج وصار مستقلًا بنفسه وخلق أساليبه السردية الخاصة به وذلك حين ابتكر رائد السينما لأمريكية "ديفيد جريفيث" أساسيات اللغة السينمائية باعتماده على الصورة دون الكلمات؛ فلم يكن جريفيث يستعمل الكتابة الجانبية أو المواد العارضة لوصف أحداث الفيلم مثلما كان شائعًا في السينما الصامتة آنذاك، حيث تظهر لوحة مكتوب عليها ما لا يستطيع المخرج قوله بالصورة، ولقد أدرك رائد السينما الخالصة، الروسي "سيرجي ميخائيلوفيتش أيزنشتاين" أن الوحدة الأولية للفيلم وهي اللقطة، لا تختلف عن درجة اللون أو الصوت في أهميتها، فهي تستولي مباشرة على عقل المتفرج وذهنه وحواسه. وكان يرى ضرورة أن يمنح المخرج السينمائي نفس القوة التي يتمتع بها الرسام أو المؤلف الموسيقي، فقد كان يرى في السيناريو بأنه مجرد وصفة تلخص التأثير العاطفي العام للفيلم على الجمهور، أو الضغط الذي سينشأ بالضرورة على نفسية الجمهور، ويرى أن دور كاتب السيناريو محدود قياسًا إلى دور المخرج الذي سيتعامل مع هذا السيناريو.
مع كوني كاتب سناريو استرعى انتباهي أن الفارق بين السيناريست وبين مؤسسة الإخراج كبير جدًا، فمهما بلغ وصفي ـ كسيناريست ــ لمقطع عن نهاية العالم بحسب تصوري السردي للحدث، فإنه لن يبلغ مدى التأثير في المشاهد مثلما يراه مشهدًا في فيلم، غير أن الفارق ــ من وجهة نظري ـ أن السيناريست في النهاية فرد بينما الإخراج مؤسسة ــ كما قلت ــ فهو لا يعمل وحده، ويبقى أن النص السردي السينمائي هو الخطوة الضرورية الهامة في بناء الفيلم، وتقديم الفيلم منتوجًا كاملًا للمشاهد بكل عناصره تبقى الخطوة الأكثر أهمية والنهائية في تلقي المشاهد، وهي الموجة التي ستدفع موجات كبيرة وكثيرة في عقله ــ أي القاريء ــ لأوقات تطول وتقصر، وقد حدد "كريستيان ميتز" الفروق الجوهرية بين الصورة والكلمة، منها: محدودية عدد الكلمات في اللغة، بينما عدد الصور الممكنة غير نهائي، ولا ينفي كون المتكلم مبتكرًا للمعاني إلا أنه يستعمل ويستخرج كلماته من المعجم، وهو ما يأتي على عكس الصورة التي يبتكرها متصورها مباشرة من تلقاء نفسه ودون مرجعية، ولثراء الصورة وتنوعها يستطيع المتلقي أن يستقي الكثير من المعلومات التي تكون أكثر للغاية من تلك التي يستخلصها من القراءة أو السماع.
خُتِمَت الندوة بالمحور الرابع والأخير، الذي يدور حول العلاقة بين النص السردي في الرواية والسينما، والتي حاولتُ فيها تسليط الضوء على الخلط الواقع بين السرد والحكي في الذهنية العربية، من حيث أن السرد لا يخرج عن كونه تركيبًا أو نسقًا مبني على الترتيب، بينما هو بحسب تعريف جيرار جينيت: "تمثيل لحدث أو مجموعة من الأحداث الحقيقية أو التخيلية عبر اللغة"، وهو ما يستدعي وجود أحـداث متسلسلة، شخوص متعدّدة يقع عليها عبء القيام بهذه الأحداث من خلال إطار لهذه الأحداث الذي يتمثل في المكان والأشياء، ثم التقسيم الزمني للأحداث، واللغة تأتي ممثلة في سارد الحكاية أي من يرويها، والحاية التي يحكيها أو يحكي عنها عبر زاوية أو زوايا نظر متعدّدة ، لآخر مستفيد وهو متلقي الحكاية أي المسرود له.
مما تقدم يتبين لنا أنّ الفرق بين السرد والحكي يكمن في الاختلاف في الوسيلة ليس إلا؛ إذ يمكن أن نجد الحكي في الصورة أو في الحركة والإيقاع، أمّا السرد فهو أخص منه لأنّه يتصل فقط باللغة، كما أن الحكي يحتوي المادة القابلة للحكى، أمّا السرد فيتعلّق بطريقة تقديم الحكي.
وعلى الرغم مما يبدو من توافق إلى حدٍ ما بين النص الروائي والسينمائي في تعريفهما للسرد، إلا أن عملية السرد في النص السينمائي تتميز على النص الروائي بالمساحات الشاسعة التي يمنحها النص السينمائي بجمعه لجميع الفنون الإنسانية وهصرها لتساهم في تكوين اللغة السينمائية، ولقد ذكرت سابقًا أن وسائل التعبير عن المحتوى الروائي تختلف عنه في المحتوى السينمائي "الفيلم"، إذ أن المشاهد السردية الروائية تتكون نتيجة التوهم بين النص والقاريء، بينما تأتي المشاهد السردية السينمائية تجميعًا بصريًا تعطي المتفرج معطيات مرئية تسمح له بالتماهي معها أو الانفصال عنها، وعلى هذا فما يجمع الفنين هو النص السردي في أصله الروائي اللفظي، وتقديمه في نصه السردي السينمائي مصورًا.
سأل الدكتور محمد حسن كامل رئيس اتحاد الكتاب والمثقفين العرب: بالرغم من تقدم وسائل النشر والتواصل الحديثة إلا أن الرواية السردية تراجعت في كف التكنولوجيا الحديثة، فضلاً عن سرعة الإيقاع العصري الذي حرم القاريء من متعة الصورة الذهنية التي تستمد من نسيج السرد الممتد، لماذا؟
وجاءت الإجابة كالتالي: المفكر الموسوعي الدكتور محمد حسن كامل، سؤالكم الاستهلالي المتعدد يحمل في جنباته قضايا ما زال الصراع محتدمًا وقائمًا بين أصحاب الأجناس الأدبية بشأنها، وهو الذي حدا بي إلى طرح مفتتح استهلالي لندوتنا يناقش مكانة الرواية وسيادتها، وبين رفض وقبول كل فريق، وعلى الرغم من تقدم وسائل التكنولوجيا فقد استوعبها النص السردي الروائي وطوعها لتكون إحدى تقنياته في الحكي أو السرد، وهذا ما يتيح للنص الروائي السيولة والتحول والامتداد، ولهذا فمهما طالتها ـ أي الرواية ــ موجات التكنولوجيا العاتية، استوعبتها ولفتها بين طياتها، ولأن لغة الرواية الكتابة، فقد احتاجت إلى الصورة المبسوطة على الشاشة لتستوعب بذلك الصورة الذهنية والنص السردي معًا، ولذلك كان تعريف السرد عند "ميتز" بأنه مجموع الوقائع والأحداث التي ترتب في نظام أو توالٍ "سلسلة" من المشاهد، يحاول الفيلم تقديم تلك المشاهد من خلال قدرته على التفريج والتعبير عن معنى، ليس وفقًا لأفكار مسبقة أو مستعارة، إنما عبر تنظيم عناصره في الزمان والمكان؛ إذ الكاتب ــ عند ميتز ــ يستعمل اللغة، أما السينمائي فإنه يبتكرها... وهذا ما يضمن للرواية امتدادها، لأنها الخطوة الأولى للسينما، وبالتالي فقد أضاف القاريء/المتفرج متعة فوق متعته عندما يشاهد فيلمًا سينمائيًا مُعدًا عن رواية.
سأل الأستاذ عمرو ع ـ م: هل السرد يعتمد على التخاطب اللفظي فقط؟
وقد أجبته بأن الخطاب اللفظي أو المنطوق هو ما قُصَّدَ به لغة السرد الروائي،ولقد شكلت لغة السينما قضية حاربتها بشدة كافة الاتجاهات التقليدية السينمائية، ينطلق جان ميتري في مؤلفه "جماليات وسيكولوجية السينما" في معالجة هذه القضية، من منظور مختلف إلى حد ما عن ميتز، وينتهي، بعد عرض أفكاره، إلى أن السينما أيضاً لغة، لكنها تختلف عن اللغة المنطوقة، على الرغم من أنه يراها في النهاية لغة طالما إنها تشارك اللغة اللفظية في خاصية إيصال المعنى، لأن الفيلم أولًا هو نظام صور لأشياء هدفه وصف تتابع إحداث معينة، يطورها إلى سرد. وهي صور تذعن، وفقًا لطريقة السرد المختارة لنظام من العلامات والرموز، ومن هنا فقد صنف "جان ميتري" السينما في تصنيف يختلف عن اللغة الكلامية، لأنه يجد الصورة تختلف عن الكلمة التي تقارن، ولان الصورة تتطابق مع أشياء الواقع. ويوضح ميتز، بأنه من اليسير مناقشة أن كل لغة ينبغي أن تشبه اللغة المنطوقة، تجعلنا نستنتج أن لغة الفيلم لاختلافها عن اللغة المنطوقة هي بالتالي ليست لغة، وقد حاول "مارسيل مارتن" في كتابه: "مفهوم آخر للسرد" العمل على تقسيم التوليف "المونتاج" إلى توليف روائي وتوليف تعبيري، تاركًا للأول مهمة بناء الرواية من خلال تسلسل تاريخي أو منطقي يدفع الأحداث إلى الأمام، أما الثاني فيؤسس على تراكب اللقطات تراكبًا هدفه إحداث تأثير مباشر في ذهن المتفرج باستخدام مؤثرات قائمة على القطع وليس الارتباط.
سألت الأستاذة حسناء الحساني: ماذا تقصد بكون الرواية قادرة على صهر أجناس الفنون الأخرى في شخصيتها؟ كما أني أرى أن المسألة ليست مسألة من يفوق على من في الرواية والشعر فكلاهما جنسان أدبيان يستحقان القراءة، المسألة هي كيفية النهوض بالآداب عامةً وتشجيع الإقبال عليها، فما رأيكم؟
ويأتي سؤال الأستاذة حسناء الحساني متفقًا مع سؤال الأستاذ أحمد حمدي: الرواية حاضنة بالفعل للفلسفة والتاريخ والاجتماع بل الشعر ذاته، ولكن يبقى للشعر أنه النبع الثري للمشاعر والعواطف الإنسانية، والوسيلة المباشرة للتعبير عنها بلا اختفاء وراء الشخوص والأحداث المختلفة، الشعر له أهميته والرواية لها حضورها أيضًا، فما قولكم؟
الإجابة عن سؤال الأستاذة حسناء كون الرواية قادرة على صهر أجناس الفنون الأخرى، أكده الأستاذ أحمد في سؤاله، وأجيب بالموافقة على ما قاله الأستاذ أحمد، غير أن الشعر أيضًا يستطيع أن يكون حاملًا لكل ما ذكر، وقراءة سريعة ستحيله للقصائد التي أرخَّت لحقب مهمة في تاريخنا العربي والإسلامي، ولم تغب الحكمة وهي المرادف للفلسفة عند العرب في شعر المعري والمتنبي وهكذا.. وهذا لاينفي ما تتمتع به الرواية من خاصية التناص، واحتضان الشعر والفلسفة والتاريخ والفكر، غير أن مسألة المباشرة والتقريرية حتى في الشعر تقتله، وإن كنتَ تقصد شخص الشاعر فهو أيضًا مثل السارد في الرواية إن كان ينقل لنا تجربة غيره، أما إذا كان سردًا ذاتيًا فيلتقي مع سارد الرواية من حيث المباشرة، ولكن الفارق يكمن في استحداث تقنيات أوسع وأرحب مجالًا وتقبلًا للتطوير في النص السردي الروائي والسينمائي عنه في النص الشعري العمودي/الخليلي، وإن كان من الممكن أن يتقبله النثر في قصائده سواء اختلفنا على كونه شعر من عدمه!.. وبالطبع لكل جنس أدبي أهميته، ولهذا فأنا أؤمن بالتجاور بين الأجناس الأدبية، بل بالتجاور بين الأضداد داخل الجنس الأدبي أو الفني الواحد.
سألت الأستاذة حسناء الحساني: أرى أن المسألة ليست مسألة من يفوق على من في الرواية والشعر فكلاهما جنسان أدبيان يستحقان القراءة، المسألة هي كيفية النهوض بالآداب عامةً وتشجيع الإقبال عليها، فما رأيكم؟ كما أن إرجاع تفوق الرواية على الشعر إلى الأسباب التي ذكرت، وأيضًا صعوبة تذوق الشعر مقارنةً بالرواية فيه الكثير من الصواب، لكن أردف على ذلك تراجع الحس الفني لدى الناس وحتى تراجع اللغة العربية التي بدأت تختفي حتى على ألسنة الأدباء والمثقفين لصالح العامية، أرجو منكم التعليق؟
وكانت إجابتي: رائع ما قالته الأستاذة حسناء الحساني، وهذا في الواقع ما أشرت إليه في التعقيب وأوردت رأي الدكتورة أماني فؤاد، ولو راجعتِ مقالي ــ مشكورة ــ "النثر ..قصيدة تأبى الرحيل" لبان لكِ أني من أشد الأدباء الذين يؤمنون بالتجاور بين الأجناس الأدبية.. كما أني أشد على يد الأستاذة حسناء في تتبعها التاريخي في ثنايا سؤالها الثاني الذي يتضافر مع العامل الفني، وأضيف لكل ما ذكرتْ ذلك الذي ذكرته في إجابتي على سؤال الدكتور محمد حسن كامل، كما أن هناك عوامل تأتي مجتمعة يزاحم فيها فن فنًا آخر فيزيحه عن مكانه فترة ما من الزمن، ثم يعاود هذا الفن عودته لمكانته إذا جدت عوامل أخرى مُعِينة له، وتذكرين حتى داخل الفن الواحد كيف يزيح نوع نوعًا آخر؛ ففي النصف الأول من القرن العشرين كانت التراجيديا هي التي تتسيد فن السينما في مصر بينما تأتي الكوميديا في مكانة تالية لها، وهو ما يختلف مع حاضرنا الآن من تسيد الكوميديا وتراجع التراجيديا، وذلك مرجعه عوامل اجتماعية واقتصادية وسياسية، تتصل اتصالًا وثيقًا برفاهية المجتمع/الجمهور، ولهذا فلا قلق من تزاحم الأجناس ما دام لكل جنس مكانه ومكانته، فالتزاحم غير التقاتل والإقصاء.
ويأتي في نفس السياق، سؤال الأستاذ أحمد حمدي: أرى أن أزمة الشعر مرحلية، فالشعر كجزء أصيل من الثقافة العربية يمر بكبوة وركود كبير، والرواية تنتشر الآن لأنها تعتمد على الحكي والقص وهي أقرب للقاريء العادي الراغب في التسلية، وذلك بسبب انتشار ورواج روايات تافهة وسطحية، لأن الثقافة في أزمة، ولا يوجد جمهور حقيقي يميز الغث من الثمين، هذه كل الحكاية، ولكن الشعر لم ولن يموت، فهناك من يكتب شعرًا جميلًا، ولكن لا يوجد جمهور يتلقى، وعندما تفيق الثقافة من كبوتها سيعود الشعر مزاحمًا للرواية ومنافسًا لها، فما رأيكم؟
أشكر الأستاذ حمدي على سؤاله، وأحترم ما ذهب إليه، وأنا في الأصل شاعر، وأتمنى معك أن يعود الشعر إلى اعتلاء صهوة الريادة من جديد، ليكون ديوان العرب كما كان، وحالة الشعر في التراجع تصيب ليس المجتمع العربي وحده بعامة والمصري بخاصة، بل رصدتُها في فرنسا وأنا أعرض هذا السؤال على الأستاذين خشان خشان رائد العروض الرقمي حيث كنت أحاوره في أول كتاب سيصدر عن العروض الرقمي وستصدره حروف منثورة إن شاء الله تعالى، ومع الدكتور عمر خيتي، والمسألة تعود إلى الذائقة، وحقب تاريخية وأجيال، وعصر بأكمله تتضافر فيه كل المعطيات الحضارية في خلق أجيال جديدة بأمزجة جديدة، ولكن ما زال للشعر بتعدد مدارسه جمهوره.
جاء سؤال المهندسة هدى: الرواية التي نقرأها في أيام تختلف كثيرًا عن الفيلم الذي راه في ساعتين، وأرى أنهما لا يتشابهان إلا في العنوان والمضمون فما رد حضرتك؟
وقد أجبتها: المهندسة هدى لها مني جزيل الشكر والتقدير، ومداخلتها ثرية، وقد تعرضتْ لموضوع جد كبير وواسع، تناولته الدراسات الطوال حول إشكالية الزمن في النص السردي، وإشكالية الزمن الروائي، والذين ينظرون للرواية يعرفونها بأنها فن يقوم على الزمن مقابل فنون المكان مثل النحث والرسم، ولهذا حاولوا أن يميزوا بين زمن الحكاية، وزمن الكتابة، وزمن القراءة، وهنا يتضح أن الرواية أيضًا توجز أو تلخص فترات زمنية تمتد لسنوات طوال، عبر صفحات مهما بلغت لن تكفي أو تفي زمن الأحداث في الواقع، غير أن العناصر التي تأتي متفرقة في الرواية تكون مجتمعة في الفيلم عبر الصوت والصورة والحركة والموسيقى، ولهذا فقد قاربت زمن الرواية بتقنياتها المتعددة.
كان سؤال الأستاذة إقبال المطيري: لماذا قصرت السرد على راوٍ واحد؟
وقد أجبتها، بأن الاقتصار على سارد واحد، لأنه هو الكاتب، أو الراويأ أو الحاكي، وبالنسبة لعلماء السرد هو المرسل، ولذكلك فقد اقتصر على راوٍ واحد، ولهذا يقول جينيت: (لا يوجد قص بلا راوي، وربما لم أصادف ذلك بعد)، فالمؤلف له وجود حقيقي خارج النص، بينما الرواي وجوده داخل النص.
سأل الأستاذ أحمد حمدي: ألا توجد تقنيات أخرى في السرد غير الراوي العليم، والأصوات المتعددة؟
وهذه آخر إجاباتي: بالطبع هناك تقنيات سردية قائمة، وتقنيات أخرى ستجد بطبيعة الحال ومنها تضمينات (باختين) النظرية التي مفادها: أن اللغة تحضر داخل النص الروائي كقيمة دلالية، وكطرح أيديولوجي فتكشف عن منظور المتكلم، ولذا فقد صاغ (باختين) هذا التصور للشخصية –الصوت في نظريته من خلال ما اصطلح على تسميته بـ "تعدد الأصوات" وهو مفهوم يسمح بانفلات النص من تحكم المنظور الواحد. نظراً لكونه يتأسس على تعدد الأصوات التي تعني في جوهرها تعدد المنظورات. فمع هذا المفهوم يغادر النص الروائي أحادية المنظور الموجه للنظام السردي في الرواية التي تتقدم فيها الأحداث تبعاً لوجهة نظر واحدة تحقق إمكانية تواجد وجهات نظر أخرى مناقضة لها من جهة، وتفرض على القارئ حقيقة واحدة من جهة ثانية، ومن هذا المنطلق تمكن "دوستويفسكي" من أن يسمع داخل كل صوت "صوتين متجادلين" في كل تعبير استطاع أن يكتشف أزمة واستعدادًا للانتقال في الحال إلى تعبير مغاير تمامًا، وهذه الخاصية هي التي تنتج فعل "التعدد الصوتي".. ولذا فسوف نفاجأ بتقنيات جديدة معقدة لأنها في الأساس متداخلة، وفيها نوع من عدم الترتيب، أو العودة إلي الماضي، أو تداخل الشخصيات، وغير ذلك من فنون وتقنيات، فالتقنيات الجديدة التي جعلت من الرواية فنا يحتاج إلى امتلاك ثقافة عميقة حتي يمكن تلقيها واستيعابها.
وسوم: العدد 659