قراءة في ديوان "مرافئ العمر"

الشعر مرآة للوعي، ولكنّ المؤامرة كانت أكبر من قدرات الشعب الفلسطيني!

clip_image001_62088.jpg

محمد علي الصالح

قد يتساءل البعض: كيف يمكن أن يحدث ما حدث للشعب الفلسطيني، وقد كان يملك الكثير من الوعي بما يتربّص به من مؤامرات؟ ويُؤكّد ذلك الوعي، رموز فلسطينية كثيرة، بالإضافة إلى نخبة من الشعراء الذين عاشوا وعايشوا التطوّرات على الساحة الفلسطينية منذ وعد بلفور المشؤوم وبداية الاستعمار البريطاني لفلسطين وغيرها من أقطار العالم العربي. الإجابة على مثل هذا التساؤل، في اعتقادي، كانت وما زالت واضحة: كانت المؤامرة وقدرات ثالوثها الدنس: الإمبريالية الغربية، والصهيونية، والرجعية العربية، أكبر بكثير من قدرات الشعب الفلسطيني، فلم يستطع آنذاك، أن يقف أمام المؤامرة، ويحول دون تنفيذها.

في تلك الفترة، عاشت نخبة من الشعراء، طالما حذّرت من المؤامرة، ومن التعامل مع أطرافها، ومن بيع الأراضي للحركة الصهيونية. يُذكر من بين هؤلاء الشعراء: إبراهيم طوقان، عبد الرحيم محمود، مطلق عبد الخالق، أبو سلمى، محمد على الصالح وغيرهم الكثير. بعض هؤلاء الشعراء، نفر لم يعطهم البحث والنقد حقّهم الذي يستحقّونه. من بينهم الشاعر محمد على الصالح، والد الشاعر الفلسطيني المعروف، عبد الناصر صالح. وقد حظي ديوان الشاعر محمد على الصالح، بالنشر مؤخرا فقط. فقد صدر في القدس عن دار "الجندي" للنشر والتوزيع. ويقع في 208 صفحات من الحجم المتوسط، تضمّ 38 قصيدة تتصدّرها قصيدة للشاعر عبد الناصر صالح، بعنوان "مرثية لفارس القصيدة"، يرثي فيها والده، الشاعر المناضل، محمد علي الصالح، ويتصدّرها هذا إهداء: "إلى روح والدي: الشاعر والمناضل".

في دراسة للناقد عزيز العصا،[3]

في هذه الأسطر، يُلخّص الشاعر سيرة والده النضالية، ودوره في فضح المستعمر والأنظمة الرجعية التي ساندته وما زالت تسانده، وكذلك دوره في التنوير ونشر الوعي بين أبناء شعبه، وبين طلابه بشكل خاص. ولذلك يُمكننا أن نراهن على أنّ الذي يفتقد محمد علي الصالح هو ليس نجله فقط، وإنّما هو الإنسان الفلسطيني عامة، لأنّ الشاعر عبد الناصر صالح نفسه، يحمل في شعره، إلى جانب همّه الذاتي، همّا جمعيا، فلسطينيا وعربيا.

ولد الشاعر الفلسطيني، محمد علي الصالح عام 1907، في طولكرم، واختطفته يد المنون في العاشر من آذار عام 1989. أي أنّه عاش تاريخ فلسطين الحديث إلى ما بعد بداية انتفاضة الحجارة الأولى عام 1987، وقبيل اتفاقيات أوسلو. وكان أول شاعر فلسطيني ذكر الانتفاضة في شعره. ففي قصيدة له بعنوان "يوم 2 نوفمبر" التي خرج فيها ضدّ "وعد بلفور" المشؤوم، وحذّر شعبه وأمّته من مغبّة السكوت عليه، قال في أحد أبياتها:

إنّـا لنحمي حمــانـا بانتفاضتنا      على عدوّ غريب ... طامع ... أشِر

قراءة قصائد الديوان، "مرافئ العمر"، تضعنا وجها لوجه، أمام شاعر مناضل ومثقّف، قاوم الإنجليز قولا وفعلا، وسُجن في سجونهم. أي أنّه عاش وعايش أحدث أكثر الفترات حساسية في تاريخ فلسطين، من خروج الأتراك وبداية الانتداب البريطاني، إلى النكبة. وهي الفترة التي من بداياتها، بدأ الشعراء الفلسطينيون، وبينهم محمد علي الصالح، يستشعرون القادم من خراب وضياع. وقد كانوا في نضالهم ومقاومتهم، قدوة لغيرهم. وقد كان شعرهم بحقّ، شعر مقاومة. فقد اتخذوا منه سلاحا للمقاومة، ومنبرا للتنوير والتحذير والتثوير. ولكنّ قدرات المؤامرة وثالوثها الدنس، كما ذكرت، كانت أكبر من قدرات الشعب الفلسطيني. ورغم ذلك، فإنّ هول المؤامرة وشراستها، لم يقضيا على الشعب الفلسطيني، ولم يحولا دون صموده واستمرار مقاومته ومطالبته بحقّه في تقرير مصيره في وطنه وعلى أرضه. وكل ذلك وغيره، يتجلى في شعر محمد على الصالح.

في تصفّح سريع لقصائد الديوان، نجد أنّ الشاعر، من حيث المبني، ينهج منهج الاتجاه النيو-كلاسيكي، الذي كان سائدا في تلك الفترة، في فلسطين وغيرها من أقطار العالم العربي. فقصائده معظمها من الشعر العامودي الذي يخضع لبحور الخليل؛ يُعالج فيها هموم الساعة وقضاياها بقالب كلاسيكي درج عليه شعراء العرب آنذاك. 

 أما من حيث المضمون، فلأوّل وهلة، سيعتقد القارئ أنّ شعر محمد على الصالح، هو شعر مناسبات. وهذا صحيح، ولكنّ قراءة أعمق، سوف تكشف للقارئ أنّ هذه القصائد لا تواكب أحداثا فقط، بل يمتحها الشاعر من واقع مؤلم، كثير الانكسارات والأحلام معا، ويربطها بحالات وجدانية ووطنية، من الطبيعي أنّها تتدفّق من ذات الشاعر وأعماقه، ولكنّها تتعدّى الذات الفردية إلى الذات الجمعية الوطنية، الفلسطينية والعربية. فهي تحمل همّا ذاتيا هو جزء من همّ جمعي، وهو همّ الشاعر كإنسان فلسطيني مضطهد، وهمّ فلسطين المغتصبة والفلسطينيين المضطهدين جميعا. وبهذا تُشكّل قصائد محمد علي الصالح، وعيا جمعيّا وهمّا إنسانيا، هما جزء لا يتجزّأ من الوعي والهمّ الفلسطينيين، ومن النسيج الثقافي الفلسطيني والعربي.

في شعر محمد على الصالح، تتجلّى مناسبات فلسطينية مختلفة. ولكن، في تلك القصائد ومناسباتها، تتجلّى فلسطين كلّها، بتاريخها وتراثها ومعالمها ورموزها، وهول نكبتها واستمراريّتها. ومن خلالها أيضا، تتجلّى الأمة العربية، إذ كما يظهر من القصائد، وكما يقول الناقد، عزيز العصا، فإنّ محمد على الصالح، "يرى فلسطين عبر الأمّة، ويرى الأمّة عبر فلسطين" (العصا، ص 191).

[2] . عزيز العصا. "محمد علي الصالح: كرميٌ - مقدسيٌ ... دافع عن فلسطين بالقصيدة والبندقية" (2014)،  ضمن:     

     محمد علي الصالح، مرافئ العمر، القدس: دار الجندي، 2016. ص 179-206.

[4] . عزيز العصا. "محمد علي الصالح: كرميٌ - مقدسيٌ ... دافع عن فلسطين بالقصيدة والبندقية" (2014)،  ضمن:

     محمد علي الصالح، مرافئ العمر، القدس: دار الجندي، 2016. ص 179-206.

وسوم: العدد 663