كتاب آخر الأتراك في ظل نبينا
حقائق لا يطويها الزمن !!
تأليف: فريدون قاندمير
يتحدث هذا الكتاب عن السنوات الأخيرة في حياة الخلافة العثمانية، ويركز على فترة الحرب العالمية الأولى، والكتاب غني بالوثائق التاريخية، أما مؤلفه فهو الصحفي التركي "فريدون قاندمير" أحد أفراد هيئة الهلال الأحمر، وآخر المنسحبين من المدينة المنورة بعد قبول القائد فخري باشا الخروج منها، تظهر الحاجة إلى مثل هذا الكتاب في هذا الوقت للكشف عن كثير مما يعرض في كتب التاريخ الموجهّة، وفي المسلسلات التلفزيونية التي تعكس جانباً واحداً من العلاقة بين العرب والأتراك من زاوية نظر معينة، وتقتطع من الأحداث ما يخدم خلفيات فكرية مغرضة، وأطراً تاريخية جاهزة؟!!
إن المتتبع للكتابة التاريخية المعاصرة التي تعالج هذه الفترة، والمسلسلات التاريخية في عدد من وسائل الإعلام يجدها تركز على بعض الأمور التي لا يكاد يخلو منها تاريخ أمة، ووقائع دولة، حيث يتم التركيز على السنوات الأخيرة من حياة الخلافة العثمانية، متناسية سيطرة الاتحاد والترقي وتوجيهه للأحداث بدءاً من عام 1908م، فهي تختصر تاريخ هذه الفترة اختصاراً مخلاً؟ فالتشكيل والوقائع والانتصارات والنقط المضيئة والفتوحات، والوقوف في وجه الهجمات الاستعمارية التي كانت امتداداً للحروب الصليبية يتسم الحديث عنه بوصفه بحكم السلاطين والنظام العسكري والهيمنة، والتقوقع الذي حرم الشعوب المنضوية تحت ظل الخلافة من الانفتاح على العالم، والمشاركة في النهضة التي بدأت أوربا تشهدها، مع تناسي وتجاهل حجم التآمر الغربي والشرقي على العالم الإسلامي آنذاك، والجهود العملاقة التي بذلها كثير من هؤلاء السلاطين في الحفاظ على بلاد المسلمين، ورد الطامعين عن ديارهم؟!
وفي المقابل نجد إصراراً على إبراز دور جمال باشا وأنور باشا وكمال أتاتورك وجمعية الاتحاد والترقي، والنزعة الطورانية، وكأنه يمثل تاريخ الدولة العثمانية بأسره كما في عدد من المسلسلات مثل (أخوة التراب – تراب الغرباء – الشوكة السوداء؟!!) في صورة تفتقر إلى الواقعية والصدق والموضوعية، فهي تشارك عن وعي منها، أو عن غير وعي، الدوائر الاستعمارية التي زيفت تاريخ هذه الفترة، وجهدت على إبراز العلاقة بين العرب والترك وغيرهم من الشعوب الإسلامية على أنها علاقة استيلاء واستعلاء واستلاب، في حرص شديد على تمزيق جميع أنواع الروابط والوشائج المعنوية والمادية، وتشويه الصورة الحقيقية، ونشر ما يضادها ويخالفها؟! وقد فضح الحاج أمين الحسيني مفتي فلسطين هذا التوجه، في بيانه الذي ألقي أمام اللجنة البريطانية الموفدة إلى فلسطين في 12 يناير 1937م فقال: "لقد كان العرب يؤلفون جزءاً مهماً من كيان الدولة العثمانية، ومن الخطأ أن يقال: إن العرب كانوا تحت نير عبودية الأتراك، وإن نهضتهم ومساعدة الحلفاء لهم في الحرب العامة إنما كانت ترمي إلى تحريرهم من ذلك النير؟! فقد كانوا يتمتعون في كيان الدولة العثمانية بجميع أنواع الحقوق التي كان يتمتع بها الأتراك سياسية كانت أو غير سياسية، وذلك بحكم الدستور الذي وضع أساس حكم واحد لجميع البلاد والعناصر التي كان يتألف منها كيان الدولة العثمانية، وكان العرب يشاطرون الأتراك جميع مناصب الدولة العثمانية المدنية والعسكرية، فكان منهم وزراء ورؤساء وزارات وقواد فيالق وفرق، وسفراء وولاة ومتصرفون، كما كان في مجلس النواب والأعيان العثماني عدد كبير من الأعضاء العرب بنسبة أعدادهم وفقاً للدستور وقانون الانتخاب العثماني، وفوق ذلك كانت البلاد العربية تدار بحكم يستند على مجالس إدارية، ومجالس عمومية في الأقضية والألوية والولايات، وكان لهذه المجالس صلاحيات واسعة في الإدارة والمالية والتعليم والعمران".
وفي كتابنا الذي نحن بصدده ما يؤكد هذه الحقيقة، ويصور مدى حرص الإنكليز على فصم العرى، وتمزيق وحدة المسلمين؟! وقد تحدث المؤلف عن ثلاثة من أخطر مفجري الديناميت من الإنكليز، وعن حرصهم على نسف الخط الحديدي الحجازي،ـ وإسقاط المدينة المنورة، وفصل الحامية التي فيها عن بقية أجزاء الدولة، فيذكر أنهم مهندسون مهرة في زرع الألغام ونسف خطوط البرق، وأنهم كانوا يبقون بدون طعام أسابيع ملتصقين بالسكة الحديدية، وأن حرصهم على التحطيم والتخريب لم يكن له حد؟!
بل كان أحدهم –كما نقل العرب الذين شاهدوه- يعض القضبان الحديدية وكأنه يريد أن ينتزعها بأسنانه إذ نفِدالديناميت، أو إذا لم ينفجر!! وأنه من حرصه كان ينام، ورأسه فوق القضبان.
وعن طبيعة العلاقات رغم ما أثير من فتن، ومن شحن للنفوس، ينقل المؤلف هذه الصورة بعد دخول القوات الهاشمية إلى المدينة وبعد الاتفاق على إخلائها وبقاء هيئة الهلال الأحمر التي ترعى الجرحى والمرضى يقول المؤلف:
قدم وفد مؤلف من ثلاثة أشخاص ليزوروا المستشفى، وبعد شرب القهوة قال أحدهم: يلزم ألا يبخل الهلال الأحمر التركي بشفقته وعونه علينا، وبما أننا كلنا مسلمون فلا فرق بيننا.
ويعلق المؤلف الذي كان أحد أعضاء الهيئة:
لقد ذابت الثلوج بيننا، وانطفأ القلق، وشعرنا بالفرح والسرور، ولاسيما عندما قال أحدهم وهو يشرب القهوة: إننا مشتاقون منذ سنين للقهوة التركية، وإننا متأسفون لهذا الطالع الذي ساقنا إلى ذلك، ولكن الذي حدث حدث وعلينا الآن أن ننسى الماضي.
ومن الصور التي ينقلها المؤلف صورة للجنود الجرحى الذين بقوا في المدينة وهم يزورون المسجد النبوي: لقد استُقبلوا من قِبل أهالي المدينة حتى من البدو، بمودة وترحاب وأخوة نادرة، وبعد صلاة الجمعة أصروا عليهم أن يتناولوا طعام الغداء معهم، وعند رجوعهم إلى المستشفى كان يحيط بهم جمع غفير من الأهالي يودون البقاء معهم.. يقول المؤلف:
قال لي الأمير عبد الله الذي شاهد هذا المنظر عندما لقيته في الغد:
أيها السيد!! إن الإسلام رابطة قوية، إن مثل هذه الرابطة لا يستطيع أحد أن يقطعها، ولابد لنا أن نعرف قيمة هذه الرابطة مع الأتراك، وسوف نعرفها.
ويعلق المؤلف:
كان بودي أن أقول للأمير: ليس هناك أحد كالأتراك عرف قيمة هذه العلاقات وأراق دمه في سبيلها.
وينقل عن أحد المجاورين في المدينة من أصل جزائري: يا أولادي.. إن الأتراك من أكثر الأمم التي خدمت الإسلام، وإنكم نماذج إنسانية إسلامية أتيتم من استانبول من أجل غاية شريفة..
وعند الاستعداد للرحيل من المدينة، بعد محادثات مع القيادة العربية كان بين الجنود جنود من أصل عربي: هذا شامي وهذا مقدسي وهذا من حيفا ومن بيروت، وعندما سمعوا بكلمة الأسر رفضوا ذلك كما رفض زملاؤهم الأتراك، وأخيراً استطعنا أن نقنعهم بواسطة بعض الضباط العرب للرضوخ للأمر الواقع.
وبينما كان الجنود يودعون زملاءهم الشهداء في مقابر المدينة كان أهل المدينة الذين عرفوا أنهم سيغادرون يظهرون لهم التقرب والمودة ولا يعرفون كيف يحتضنونهم ويعانقونهم، ويعلق المؤلف:
ولا زلت متألماً حزيناً لأنني لم أجد آلة فوتوغرافية لأصور هذا المنظر ذا الدلالة العظيمة ساعة الفراق التي دامت ساعات، ومضى بهم القطار والأيدي تلوح بالوداع.
وحين جاء ياسين باشا ممثلاً للقيادة العامة يقول المؤلف: كنا نتحدث كأصدقاء أو حسب تعبيره كالإخوة، وكان يقول:
إن العرب والترك بحسب خلقتهم شعوب يفترق بعضها عن بعض، وليس على وجه الدنيا أمتان مرتبطتان مع بعضهما مثلهما..
وهذه حقيقة تاريخية أن الأتراك هم الذين قبلوا الإسلام الذي ظهر في جزيرة العرب أولاً، ونشروه إلى الجهات الأربع، وجاهدوا في سبيل ذلك، وهم يريقون دماءهم.. فكروا في قول النبي وهو يبشر بفتح القسطنطينية لقد وُفق الأتراك لهذا، وأسسوا استانبول وجعلوها دياراً إسلامية، وهم الذين نشروا السكينة في الجزيرة وحرسوها، وجعلوا العرب تاجاً فوق رؤوسهم، نحن العرب لا ننسى هذه الحقيقة التاريخية.. ثم يبدي ياسين باشا تعجبه من الواقع الذي تظهر فيه العداوة، وفي جزيرة العرب بالذات، ويرجع ذلك إلى الاتحاد والترقي الذين أساؤوا إلى العرب، وأدخلوا الدولة على الحرب، وجروها إلى الكارثة، ويرد المؤلف: بأن الخروج على الدولة مقابل وعود الإنكليز وطعنها في أحلك الظروف أجج العداوة، وأن المستقبل القريب أثبت كذب وعود الإنكليز فهم لم يفوا للعرب منها بشيء؟!!
ويعترف ياسين باشا بأن الصداقة التي بين العرب والأتراك قد اهتزت كثيراً بتحريض الأجانب في الأيام الأخيرة، وهذا الاهتزاز أدى إلى أحداث دامية، وأن جنود الأتراك الفارين من فلسطين قد تعرضوا لأذى عظيم من قبل بعض الناس الذين حرضهم الأجانب؟!
يقول المؤلف وهو يتصور هذا الموقف عندما كان في طريقه إلى دمشق: زاد خوفنا أننا سندخل إلى دمشق بزيّنا المميز.. وفي الفندق أغلقوا اللباب على أنفسهم وكأنهم مساجين، وبعد مقابلة الملك فيصل وترحيبه بهم، وقوله لهم: كان يجب أن لا تقع هذه الأحداث، يجب على الطرفين أن ينسيا الماضي القريب، ويعملا على إحياء الأخوة والصداقة القديمتين، وذكرما قاله له فيصل وهو يبدي إعجابه بالشاعر التركي الكبير محمد عاكف: أحمد الله أن شاعركم هذا مسلم، وبهذا الاعتبار تستطيع أن نعده شاعرنا جميعاً لأنه شاعر مسلم..
ثم يتحدث المؤلف عن العلاقات مع السوريين على المستوى الشعبي، وكيف أن المخاوف قد تبددت، فحين دعاهم الملك فيصل إلى حفل فني لم يفكروا بشيء سوى السلامة.. دخلنا ونحن خائفون، وبينما نحن نبحث عن مكان جلوسنا، ارتفعت صيحة عالية من القاعة المليئة بالمدعوين: الأتراك! الأتراك! الإخوة الأتراك، فركز جميع مَن في القاعة عيونهم، وأخذوا يصيحون: فليعش الإخوة الأتراك، وقامت عاصفة من التصفيق والترحيب فأصبحنا لا ندري كيف نستقبلها؟ وكيف نتصرف؟ وامتدت الأيدي لمصافحتنا.. لقد كانت الصداقة العربية التركية تأخذ طريقها، وكأنها لقاء بين الأحبة بعد أشواق السنين وحسراتها.. وحين دخل الملك فيصل أخذ الحاضرون يهتفون "فلتعش الأخوة العربية التركية".
لم نكن نفكر بأننا سنقابل بمثل هذه الحفاوة، وعند الخروج كان الجمع أكبر والميدان يرن بأصوات "يعيش" وقبل وعناق وهتافات.
ويتساءل المؤلف ما الذي حمل الدمشقيين أو على الأصح العرب على ذلك، لقد كشف السوريون ألاعيب الإنكليز كما كشفها عرب الجزيرة وأخذوا يعانقوننا قائلين: (يا إخواننا الأتراك" وهم يلعنون الإنكليز ويسبونهم، ولا يعرفون ماذا يقولون ليأخذوا ثأرهم منهم.. وهكذا يتغيّر المواطن السوري وهو لا يعرف كيف يكرم أول من يقابلهم من الأتراك.. عدد الذين يأتون لزيارتنا كبير، الناس يدعوننا لتناول القهوة، وفي الداكين يقدمون لنا الهدايا ويرفضون أخذ ثمنها؟ الصحف تكتب عن وصولنا وترحب بنا.. الناس يتناشدون قصائد محمد عاكف، ويهتزون لمعانيها الإسلامية.. ثم يضيف: كان من المقرر أن نسافر عن طريق حلب إلى أضنة لنصل في يوم واحد، ففوجئنا بالسفر عن طريق البحر الذي يطول أياماً؟!! ثم عرفنا أن الإنكليز وراء هذا التغيير المفاجئ، لقد فكروا في احتمال أن يظهر أهالي حلب وحماة وحمص مودتهم لنا فيتظاهروا ضدهم كما حدث في دمشق، فاختاروا طريق البحر، وكأنهم يهربوننا.. أحد البغداديين قال لنا في آخر لقاء على وليمة في دمشق: أقسم بالله أيها السادة إن حديث الصداقة عبث، فإننا إخوة، وقد امتزجنا منذ سنين طويلة، وأي واحد منا لو بحث عن شجرة عائلته، وحلل دمه ستظهر له هذه الحقيقة.
ويختتم المؤلف هذه المشاهد بقوله: إن جميع هذه الحركات كانت بسبب السياسة التي تشحذ السكين لذبح الإسلام وبدسائس الجاسوس لورنس.. إن السوريين الذين هجموا على الأتراك دون أن يدروا شيئاً عما يدبر لهم، إنهم بعدما مرت عليهم عدة شهور من هذه الأحداث، يخجلون من ذكرها، ولا يعرفون كيف يظهرون حبهم للأتراك.. الحمد لله لقد قدر لنا أن نرى هذه التطورات قبل أن نصل إلى استانبول، ونحن فرحون.
* آخر الأتراك في ظل نبينا: أو (الدفاع عن المدينة).
تأليف: فريدون قاندمير. ترجمة: أديب عبد المنان.
مخطوط (آلة كاتبة) في مركز "بحوث ودراسات المدينة المنورة" في المدينة المنورة 254 صفحة من القطع
وسوم: العدد 663