النثـر العـربي في عصر الدول المتتابعة
قال صلى الله عليه وسلم لجرير بن عبد الله البَجَلِيّ :
يا جرير إذا قلت فأوجز وإذا بلغت حاجتك فلا تتكلف
كتاب الكامل للمبرد 1/10
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
حمدا لله وشكرانا ،وصلاة وسلاما دائمين على الرسول المجتبى ، وعلى آله وصحبه العالمين العاملين الذين فتحوا مغلقات القلوب والألباب ، وبعد .
فقد صدر لي كتاب الشعر العربي في عصر الدول المتتابعة في سنة 2004م وهو كتاب كانت المكتبة العربية تفتقد إلى مثله لما فيه من شمولية في دراسة الشعر العربي وفنونه وفنيته ، وقد رأيت أن من واجبي أن أتبعه بكتاب يتحدث عن النثر العربي في الحقبة نفسها ، ولا سيما أن دراسات متعجلة اتهمت هذا العصر بالجمود والعقم والتخلف ، وما أشد بلاء هذا العصر من أبنائه فضلا عن أعدائه .
وكان د. شوقي ضيف رحمه الله قد أصدر كتابه " الفن ومذاهبه في النثر العربي " وعني فيه بالنثر العربي منذ العصر الجاهلي ، ولكنه عندما وصل إلى العصر المملوكي تحدث عنه في عشر صفحات فحسب كان منها ترجمة لأحد كتابه ، ثم لم يتحدث عن النثر في العصر العثماني إلا في صفحتين فحسب ملئتا بالاتهامات والطعن على فنية النثر في هذا العصر ، بل إنه عنونه بـ " العصر العثماني والعقم والجمود " ، ولعمري إن إطلاق الأحكام بهذه الطريقة وهذه العجالة أمر يتنافى مع البحث العلمي ، ويدعو إلى إعادة النظر ، وقد اعترف كثير من الدارسين العرب والمستشرقين بأهمية عصر الدول المتتابعة مثل د. طه حسين ود. أحمد أحمد بدوي و د. محمد رجب النجار ود عمر موسى باشا ود. حسين مؤنس ، و محمد بهجة البيطار ومحمود رزق سلوم والمستشرقين بلاشير وميكال ، وإن كان معظم هؤلاء يتحدث عن العصر المملوكي فيه ويبينون أهميته في حفظ كنوز حضارتنا لغويا وأدبيا وفكريا
وأما كتابا " العصر المملوكي " و" العصر العثماني " للدكتور عمر موسى باشا فهما على أهميتهما قد جمعا النثر إلى الشعر في كل من العصرين ، واعتمدا أثناء الحديث عن النثر على الترجمة لكبار كتاب العصرين، لا على دراسة الفنون النثرية، وبهذا انصب الاهتمام على ذكر حيوات الترجمات ومؤلفات أصحابها وأوجزت فيهما الدراسة الفنية ، ولم تتعرض لهذه لفنون بنظرة شاملة موحدة
وأما كتاب د. حسني ناعسة " فنون النثر في الأدب العثماني " فهو كتيب من خمس وستين صفحة فحسب اهتم فيه بالمقالة والقصة والرسالة في القرن التاسع عشر الميلادي دون غيره من قرون العصر المديدة ،وإن كان لفت النظر إلى أن هذه الفنون كانت موجودة في العهد العثماني ، وأن التأثر بالغرب إن دل على شيء لدى المنصفين فإنه يدل على أن الدولة العثمانية لم تحجر العلم عن العرب ، وإنما تركت لهم حرية الإبداع والتأثر شريطة أن يلتزموا في إنتاجهم بالآداب العامة
ولذلك رأيت من واجبي أن أقدم للدراسات الإنسانية كتابا يتحدث عن النثر العربي في هذا العصر، ولا سيما عهد ما قبل مرحلة الإحياء في القرن التاسع عشر لئلا يقال إنني أخط ما أشبعه غيري بحثا ودراسة ، وهو في عرف الدارسين من الأدب الحديث ، وإن كان هذا لا يمنع من إيراد بعض النماذج والشواهد دليلا على وجود هذه الفنون أو تطورها في ذلك العصر .
وسميت الكتاب :
النثر العربي في عصر الدول المتتابعة
ولم أميز في دراستي بين عصر مملوكي وآخر عثماني ، بل سرت على منهج كتابي " الشعر العربي في عصر الدول المتتابعة " حين بدأت العصر بمطلع القرن السابع الهجري، وأنهيته بالثورة العربية الكبرى ، لأنها كانت إنهاء للوجود العثماني على الأراضي العربية ، وكنت قد عللت ذلك في كتابي المذكور ، ولن أكرر ما قلته هناك .
وكان من الصعوبات التي واجهتني خلال الدراسة :
1- ما يتعلق بمنهجية البحث : إذ كان علي أن أوازن بين الشواهد المملوكية والعثمانية لأقدم صورة صحيحة عن النثر في هذين العهدين اللذين يشملهما عصر الدول المتتابعة .
2- وما يتعلق بالفنون الأدبية : كالتمييز بين المقامة والرسالة والمفاخرة فقد زالت الحواجز بين الأولى والثانية وبين الثانية والثالثة عند الكثيرين ، وكنت أعتمد على تسمية المؤلف ، أو المترجم ،أو على الصبغة العامة للنص الأدبي ، ثم أبين سمات كل منها في هذا العصر .
وبعض القصص يحار الدارس بين أن يعدها رمزا لقضية ما أو أن يأخذها على الحقيقة كما في قصة لوعة الشاكي للصفدي .
وترددت في قضية السيرة الشعبية بين أن أضعها في كتاب يتحدث عن النثر الفني في العصر، أو ألغيها لأن أسلوبها شابه العامية، وهي نتاج ضخم يشير إلى وجود فن الرواية والملحمة عند العرب ، وفضلت الأمر الأول _ الإبقاء _ وحجتي في ذلك أن القصص المعاصرة باللغة العامية تدرس حتى في الجامعات كفن للقصة الحديثة ، فأحرى بنا أن نبين فن الرواية والملحمة في نثرنا العربي القديم ، ولا سيما أن أسلوب السيرة الشعبية كان أرفع مستوى من اللهجات العامية ، وكانت هذه السير ضخمة الإنتاج ، وقد اخترت نموذجا لها" سيرة الظاهر بيبرس " لأنها تمثل الأوضاع العامة في ذلك العصر سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وفكريا ، في وقت تكالب فيه العدو الصليبي والفارسي على الأمة الإسلامية ، وقد بلغ عدد صفحاتها بمجلداتها الخمسة ما ينيف عن ثلاثة آلاف صفحة، صبرت على قراءتها، واستخراج ما فيها من قضايا عامة سياسية واجتماعية وثقافية و... ما فيها من جوانب فنية شتى تتعلق بفن الرواية والملحمة .
وعند دراستي للفن المسرحي اعترضتـني إشكالية تتعلق بوجوده ، وبموقف الدولة العثمانية منه ، وقد تبين لي بالأدلة أن هذا الفن وجد في هذا العصر منذ عهده المملوكي ، ولكن الأدب العربي كان أدبا يميل إلى الجد لا اللهو ولهذا لم يسجل أحد ما كان من مسرحيات في ذلك العهد ، وبقيت في حدود اللهو والتسلية .
كما تبين لي أن الدولة العثمانية لم تكن تحول بين الشعب العربي وفنونه الأدبية إلا حينما يتعارض الفن كالفن المسرحي مع الثوابت، أو حينما يطعن بشخصياتنا العظام ، أو بسياسة الدولة ، وقد درست مسرحية من الملهاة وأخرى من المأساة لأبين أن هذا الفن كان موجودا في ذلك العهد ، وأن الاتصال بالغرب فتق موهبة الكتاب فأكثروا منه حين اعترفوا به فنا جادا له دور في الحياة كباقي الفنون الأدبية الأخرى .
والأمر متشابه مع المقالة والقصة، ومما لاشك فيه أنهما وجدا في أواخر العصر العثماني مع انتشار الصحافة، ومقالات الكواكبي ومحمد عبده وغيرهما تشهدان بذلك ، ومع ذلك لم أدرسهما في أواخر هذا العهد لأن المهتمين بالدراسات الأدبية الحديثة أشبعوهما بحثا وإيضاحا ، وتحدثوا عنهما فنين من العصر الحديث ، وقد أردت لهذا الكتاب أن يتحدث عما أهمله الدارسون من قبل ، أو لم يوفوه حقه برأيي ، وإن كنت أعتقد جازمة أن التمازج بين الشرق والغرب قد أثر في تطويرهما وظهورهما بالمظهر الجديد في أواخر العصر العثماني شأنهما شأن المسرحية .
ومن الإشكاليات التي واجهتني مما يتعلق بالفنون الأدبية النثرية أني رأيت موضوعاتها المختلفة تشابه إلى حد كبير موضوعات الفنون الشعرية ،وقد تحدثت عن هذه الفنون إلا المديح والشوق والحنين لأن معانيهما وجدت في الرسائل الرسمية والإخوانية وفي المقامات والمفاخرات ، ولا حاجة للتكرار
واعتمد الكتاب على مصادر ومراجع متعددة أصلية ككتب التراجم والكتب الأدبية وكتب الرحلات والدراسات الفنية ، ومساعدة كالكتب الدينية " التفاسير وكتب العقيدة "، والتاريخية واللغوية والنحوية .
وقسمت الكتاب إلى مقدمة وتمهيد وبابين وخاتمة وملاحق :
فأما المقدمة فقد ذكرت فيها سبب التأليف والصعوبات وأنواع المصادر ومخطط البحث ومنهج الدراسة .
وأما التمهيد فقد تحدثت فيه عن النشاط الثقافي والتأليفي في ذلك العصر ،وأوضحت النقد الذي وجهه ابن الأثير لأساليب العصر ودعوته إلى الأسلوب المرسل أو المنمق بلا تكلف أو تعمُّل ، وظهور مدرسة ازدواجية الأسلوب المبنية على هذه الدعوة ، وتعدد أساليب العصر الفنية ، والفنون التي احتوتها .
وأما الباب الأول فكان للفنون النثرية التي كانت إطارا يحتوي مضامين شتى ، ويأتي في مقدمتها فن الرسالة بأنواعها وقد درستها في الفصل الأول : الديوانية الرسمية والإخوانية والأدبية وألحقت بها فنا المفاخرات والمناظرات ، ثم درست نماذج لها وخلصت منها إلى الحديث عن سماتها .
وكان الفصل الثاني للخطابة بأنواعها وضربت لها شواهد توضح خصائصها ، ولم أشأ أن آتي بشواهد من خطابة أواخر العهد العثماني للسبب الذي ذكرته في المقالة والقصة .
وكان الثالث للفن القصصي في عصر الدول المتتابعة: المقامات والقصة الواقعية والتأملية والرمزية ، وقد درست نماذج لها ، وتوقفت وقفة طويلة عند قصة " كشف الأسرار عن حكم الطيور والأزهار " لأنها تمثل صورة القصة الرمزية الوعظية في ذلك الحين؛ ثم عرجت على السيرة الشعبية ودرست نموذجا لها "سيرة الظاهر بيبرس " ، وبينت مدى صلتها بالتاريخ ومدى توفر الفن الملحمي والروائي فيها .
وكان الفصل الرابع للفن المسرحي وقد بينت اهتمام الدولة به وإيقافها لنشاطه حين كان يتعارض وجوده مع القيم والثوابت في المجتمع ، ودرست نموذجين له يثبتان التأثر الثقافي بين الأمم ، وتطور هذا الفن الذي كان له جذور في أدبنا العربي .
وكان الفصل الخامس لفن الرحلات ، إذ بينت مصادرها وتعدد موضوعاتها ودرست رحلة ابن بطوطة نموذجا للعصر المملوكي ، ورحلة عبد الله السويدي للعصر العثماني ، وبينت في كل منها ما يستفاد منها لمعرفة الأوضاع الدينية والسياسية والاجتماعية والحضارية ، ثم أتبعتها بنموذج لتصوير الرحلات للواقع المعاش في العصر العثماني سياسيا ، وقد أشرت إلى أهمية الرحلات العربية في الأدب الغربي .
وكان الفصل السادس لفن التراجم ، أوضحت فيه أهميته من خلال ما ذكره مؤلفوه ، كما بينت مناهجه وأساليبه في العصر المدروس .
وأما الباب الثاني وعنوانه " النثر الفني بين المضمون والشكل " فتحدثت في الفصل الأول منه عن مضامين النثر : النثر الديني ، المواعظ والأدعية والمدائح النبوية والنثر الصوفي ، ثم فن الوصف والرثاء والهجاء والعتاب ، أما فنا المديح والشوق والحنين فلم أتعرض لهما لأن معانيهما وردت في الرسائل التي درست سابقا .
وكان الفصل الثاني للشكل أو الأسلوب الفني، أوضحت فيه دعوة ابن الأثير إلى ضرورة العودة بالنثر إلى جمال عباراته وإشراقة تراكيبه ، و بينت موقفه من السجع وما أثمرت دعوته هذه إذ وجدت مدرسة ازدواجية الأسلوب ، كما بينت أنواع أساليب النثر في هذا العصر، فهناك النثر الفني بين التأنق والتصنع والتصنيع، والأسلوب المرسل الفني و العلمي منه والأدبي ، والأسلوب الرمزي ثم الشعبي ، وأخيرا تحدثت عن سمات النثر عامة .
ثم كانت الخاتمة ، لأبين فيها النتائج التي توصلت إليها الدراسة، وما جد في هذا العصر مما يتعلق بالنثر .
ثم الملحقات : أسماء أعلام الكتاب في ذلك العصر ، وفهرس المصادر والمراجع ، والفهرس العام .
واتبعت في هذه الدراسة المنهج الوصفي والفني ، حيث كنت أذكر ما كان عليه النثر ثم آتي لذلك بنماذج مدروسة .
وكانت غايتي من هذا الكتاب أن أخلف كتابا يسد ثغرة في تاريخ آدابنا العربية ، ينصف النثر العربي في هذا العصر ، ويضيف إلى المكتبة العربية مصنفا أهملت موضوعاته وفنيته على أهميتهما على الرغم من وجود جديد في كثير منهما إذ لم تتطرق إليهما دراسة سابقة إلا على استحياء بل في هجوم لايليق بالدراسات الجادة .
كما أني وجدت في كثير من أساليبه النثرية جمالا يحسن أن يتأدب به أبناء العربية المحبين لها ولأخيلتها الرائقة ولموسيقاها العذبة .
والله من وراء القصد .
المؤلفة
27 رجب 1427هـ / 21/8/2006م
تمهيــد
ورث أبناء عصر الدول المتتابعة حصيلة ثقافية خلفتها عناية الدولة الإسلامية في عهودها السالفة بالعلم ونشره، ولما هاجم التتر بغداد ورأى العلماء بأمات أعينهم ضياع كثير من العلوم نشطوا لجمعها حفاظاً عليها وعلى الهوية العربية والعلمية في جو كثر فيه الأعاجم ، وتعددت التآليف وبرز كتّاب عديدون، ورافق ذلك حركة نقدية واسعة تقوم على فهم للأدب، وإدراك لدوره مضمونا وشكلا.
وسأتحدث في هذا التمهيد بإيجاز عن النشاط التأليفي في هذا العصر، ثم ألقي الضوء على حركة التجديد في نثر ذلك العصر .
1- النشاط التأليفي:
توسع النشاط التأليفي بشكل ملحوظ في هذا العهد المديد، نتيجة اتساع الدولة، وكثرة علمائها وحلقات التدريس في مساجدها ومراكزها التعليمية، وبعد المد المغولي اهتم كثيرون بتقديم موسوعات علمية تجمع الكثير من العلوم التي خيف من اندثارها بهجمات مماثلة، ولهذا صرنا نرى في هذا العصر مئات الموسوعات ودوائر المعارف منها "لسان العرب" لجمال الدين محمد بن مكرم المعروف بابن منظور([1])، وهو معجم موسع يقع في عشرين مجلداً، وقد ألفه صاحبه بعدما رأى تهافت العربية في الألسن، فأراد أن يحفظ اللغة من الضياع بسبب انتشار العجمة. و"نهاية الأرب في فنون الأدب" لأبي العباس شهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب النويري([2])، ويقع في ثلاثين مجلداً، ويتحدث عن التاريخ والجغرافيا والنبات والحيوان، والآداب، مع دقة النقل وتمحيص المعلومات، وقال عنه فازيليف إن نهاية الأرب على الرغم من تأخر عصره يحوي أخبارا خطيرة عن صقلية نقلها عن مؤرخين قدماء لم تصل إلينا كتبهم ومنها أيضا "مسالك الأبصار في ممالك الأمصار" لشهاب الدين أحمد بن يحيى العمري([3])، وكتابه "دائرة معارف جغرافية" قال فيه ابن شاكر الكتبي كتاب حافل ما أعلم أن لأحد مثله. و"النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة" لأبي المحاسن جمال الدين يوسف بن تغري بردي([4]) ، وهو موسوعة تاريخية، و"صبح الأعشى في صناعة الإنشا" لأبي العباس شهاب الدين أحمد بن علي الفزاري القلقشندي([5]) ويقع في (14 مجلدا) ، وغيرها من الموسوعات التي أبرزت علوماً شتى، وقد سبقنا بها الغرب، وتأثروا بها في دوائر المعارف التي كتبوها.
كما نشط فن التراجم، ومن كتبه: "عيون الأنباء في طبقات الأطباء" لابن أبي أصيبعة([6]) ، و "وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان" لابن خلكان([7]) ، و"أعيـان العصر وأعوان النصر" لخليل بن أيبك الصفدي([8])،و"تاريخ الإسلام" للذهبي([9])، و "البدر الطالع في محاسن من بعد القرن السابع " للشوكاني([10]) وهو في مجلدين،و"بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة" لجلال الدين السيوطي([11]) .
وهناك كتب للتراجم تصنف حسب الطبقات المئوية، ففي المئة السابعة للهجرة نرى من كتب التراجم "الغصون اليانعة في محاسن شعراء المئة السابعة" لابن سعيد المغربي الأندلسي([12])،و"الغرَّة الطالعة في شعراء المئة السابعة"لأبي عبد الله محمد بن علي السبتي([13]).
وفي المئة الثامنة نقرأ "الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة في أربعة مجلدات " لابن حجر العسقلاني([14]) ، وكتاب "الكتيبة الكامنة فيمن لقيناه بالأندلس من شعراء المئة الثامنة" للسان الدين بن الخطيب([15]) .
ومن تراجم المئة التاسعة: "الضوء اللامع لأهل القرن التاسع" للسخاوي([16]) ، ويقع في اثني عشر جزءاً، و"نظم العقيان في أعيان الأعيان" لجلال الدين السيوطي ، ومن تراجم القرنين التاسع والعاشر "الروض الناضر في من اسمه عبد القادر من أهل القرنين التاسع والعاشر" لعبد القادر العيدروس([17]) ، وللمؤلف نفسه: "النور السافر عن أخبار القرن العاشر"، وقد تابع تراجمه جمال الدين الشلي الحضرمي([18]) في كتابه "السنا الباهر بتكميل النور السافر في أخبار القرن العاشر" وهناك "الكواكب السائرة في تراجم أعيان المئة العاشرة" لنجم الدين الغزي([19]) .
ومن مؤلفات المئة الحادية عشرة "لطف السمر وقطف الثمر في تراجم أعيان الطبقة الأولى من القرن الحادي عشر" للغزي نفسه ، و "خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر" لمحمد الأمين بن فضل الله المحبي([20]) ، و "عقد الجواهر والدرر في أخبار القرن الحادي عشر" لجمال الدين الشلي الحضرمي.
ومن المئة الثانية عشرة "سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر" لمحمد خليل المرادي([21]) ، و "الدر المنتثر في رجال القرن الثاني عشر والثالث عشر" لعلاء الدين الألوسي([22]) ، ومن المئة الثالثة عشرة أيضاً "حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر" لعبد الرزاق البيطار([23]) .
ومن كتب تراجم البلدان "تاريخ ولاة مكة " للشلي الحضرمي ، وعنوان الدراية في من عرف من علماء المئة السابعة في بجاية لأحمد الغبريني([24]) ، والكتيبة الثامنة في أدباء المئة الثامنة في الأندلس للسان الدين بن الخطيب ،وله أيضا الإحاطة في تاريخ غرناطة .
وهناك كتب متخصصة في علوم شتى، ففي اللغة كتب محمد عبد الرؤوف بن المناوي([25]) كتاب "التوقيف على مهمات التعاريف"، فضلاً عن المعاجم المتعددة مثل "لسان العرب" لابن منظو،وهو في خمسة عشر مجلدا جمع فيه بين تهذيب اللغة للجوهري والمحكم لابن سيدة والصحاح للجوهري والجمهرة لابن دريد وحاشية الصحاح . و"القاموس المحيط" للفيروز آبادي([26]) ،وهو في أربعة مجلدات ، ولأبي الطيب الفاسي ت 1170هـ "إضاءة الراموس وإفاضة الناموس على إضاءة القاموس" ، وللزبيدي([27]) "تاج العروس في شرح القاموس " ، وهو في عشرة مجلدات .
ومن كتب الفقه: "نظم الأشباه والنظائر في الفقه الحنفي" للشاعر عبد الله بن محمد حجازي قضيب البان([28]) ، وكتاب "الفوائد السمية في شرح النظم المسمى بالفرائد السنية في فروع الفقه على مذهب الإمام أبي حنيفة النعمان" لمحمد بن الحسن الكواكبي([29]) ومن كتب الحديث الشريف "شرح صحيح مسلم" لمحمد بن أحمد بن الملا الحصكفي([30]) .
وفي العقيدة ألف فتح الله البيلوني([31]) "الفتح المسوّي شرح عقيدة الشيخ علوان الحموي"
وفي التصوف كتب محيي الدين بن عربي([32]) "ترجمان الأشواق"، وألف أبو الوفاء العرضي([33]) كتاب "طريق الهدى".
وفي التفسير كتب محمد بن الحسن الكواكبي "حاشية على تفسير البيضاوي"، وهناك أيضاً "حاشية البيضاوي" لفتح الله بن محمود البيلوني وشرح أبو الوفاء العرضي سورة الضحى على لسان القوم [أي المتصوفة]، كما كتب إبراهيم الحصكفي([34]) "شرح النظر" وهو في علم المنطق .
ومن أدب الرحلات "تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار" لأبي عبد الله شمس الدين محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي([35]) المعروفة باسم رحلة ابن بطوطة. و"الفوائد في معرفة علم الملاحة والقواعد" لأحمد بن ماجد السعدي النجدي([36]) ، و "الحقيقة والمجاز في الرحلة إلى بلاد الشام ومصر والحجاز" لعبد الغني النابلسي([37]) " ، و "تحفة الأدباء وسلوة الغرباء " لإبراهيم الخياري([38]) ، والنفحة المسكية في الرحلة المكية لعبد الله السويدي([39]) .
وفي الأدب كتب يوسف البديعي([40]) "الصبح المنبي عن حيثية المتنبي" و"أوج التحري عن حيثية أبي العلاء المعري"، وهناك بديعيات كثيرة منها بديعية صلاح الدين الكوراني([41]) ، وقد شرحها، كما شرحت بديعيات كثيرة.
هذه قطرة من بحر العلوم التي ألفت في عصر الدول المتتابعة، ومن يطلع على ما كتب في التراجم من مؤلفات ير العجب، ويدرك أن ما يقال عن تأخر هذا العصر وانحطاطه كان باطلاً، وقد نجم هذا الاتهام عن إهمال دراسة العصر حتى من كبار الباحثين، عن قصد أو عن غير قصد، فالدكتور شوقي ضيف على سعة علمه نراه يصل في مؤلفاته إلى العصر العثماني فيوجزه إيجازاً مخلاً، ويحكم عليه حكماً فيه كثير من الإجحاف، ودليل على عدم الاطلاع عليه بشكل علمي واف ودقيق.
وكذلك فعل د.بكري شيخ أمين في كتابه "مطالعات في الشعر المملوكي والعثماني" إذ لم تتعد دراسته للعصر الثاني سوى أسطر قلائل في كل فن مما لا يسمن ولا يغني.
وهذا الإهمال أدى إلى حدوث فجوة في الأدب العربي ، وقفزة إلى العصر الحديث تاركة وراءها قرونا لم يكشف عنها النقاب واتهم أصحابها زورا وبطلانا نتيجة الإهمال والنقل من الدراسات الاستشراقية ، وقد أثرهذا على الأحكام النقدية في الأدب العربي .
2- حركة التجديد في النثر :
يقول د.محمود سالم محمد: "جميع الظواهر الأدبية التي عرفت في العصر المملوكي لم تكن من صنع أدبائه، بل سقطت إليه من العصور السابقة، وبلغت تطورها الطبعي فيه، ولاسيما ظاهرة الصنعة". ([42]) ذلك لأن النثركما يقول د. شوقي ضيف بدأ يميل منذ القرن الرابع الهجري إلى التكلف، فلما جاء القرن الخامس فالسادس بلغت الصنعة مداها على يد الحريري([43]) والحصكفي([44]) إذ سلك الأول في مقاماته مسالك من الصنعة لم يطرقها مَنْ قبله، حين أكثر فيها من ذكر مصطلحات النحو والفقه، والأمثال والأحاجي والفتاوى، كما ألف المقامة السينية والمقامة الشينية، والمقامة المهملة، وله مقامة تتوالى فيها الحروف بين منقوط وغير منقوط، وأخرى تسمى المقامة المغربية يأتي بالجملة ثم يعكسها([45])، وألف الثاني رسائل أكثر فيها من أنواع الجناس المختلفة، وأخرى من الحروف المهملة، وثالثة ذكر فيها مئة وأربعين كلمة غريبة ([46]) ، وهذا يدل دلالة واضحة كما ذكر د.شوقي ضيف على مدى ما وصل إليه كتّاب العصر العباسي من تعقيد لكتاباتهم وتَعَمَّل فيها([47]) ، وانتشر هذا الذوق المشرقي في أرجاء البلاد ، وأعجب به أبناء عصره حتى قال الزمخشري، مشيداً بمقاماته على ما فيها من فيض التكلف:
أقسـم بالله وآياتـِه ومِشْعَرِ الحجِ ومِيْقاتِه
إنَّ الحريريَّ حريٌّ بأن تَكْتُبَ بالتِّبْرِ مقاماتِـه
ويقول د.شوقي ضيف تعليقاً على هذا التصنع "وإن الإنسان ليشعر كأن الحياة العربية قد أصيبت بعطل شديد، وإنه عطل يتسع، فإذا مصانع النثر لا تستطيع أن تخرج ضرباً جديداً أو مذهباً حديثاً إلا هذه الطرق الملتوية المحمّلة بالتصنع لمصطلحات العلوم، والتكلف لأشياء شاذة كالأمثال والإرشادات التاريخية والأدبية… وقد جمدت العصور التالية عند هذا الأسلوب، ولم تستطع أن تنحرف عنه إلى منهج جديد أو أسلوب حديث" ([48]) .
ولكن هل كان د.شوقي ضيف محقاً في حديثه عن جمود النثر فيما بعد الحريري وأمثاله ؟
إن الساحة الأدبية قد خلفت لنا معطيات وآدابا تحررت من هذه الصنعة المتكلفة تحرراً كبيراً،وسنرى هذا فيما سيدرس من نصوص ، وعند عند دراسة الأسلوب في الفصل الأخير .
وكان أول صوت يلقانا في هذا المجال دعوة الكاتب ابن الأثير ([49]) التي أحدثت ضجة في الأوساط الأدبية،إذ عدت الأولى من نوعها في عصر الدول المتتابعة، فقد طالب بأن تخط الرسائل الرسمية بأسلوب بعيد عن الصنعة، وهاجم الحصكفيَّ والقاضي الفاضل والعماد الأصفهاني وغيرهم ممن يتعمّلون ويتكلفون، وحاول أن ينشر أسلوبه النثري الحر، الذي لا يُقَيد بقيْد، ولكن المسؤولين حالوا دون تنفيذ رغبته في رسائله الرسمية ، وعدوا ترسله ضعفا في أسلوبه، وتخلّفا عن صناعة الإنشاء، ولهذا صار يكتب الكتب الرسمية بأسلوب العصر ليرضي المسؤولين وليثبت مقدرته على الإتيان بما يرغبون وما يتذوقون، أما كتبه فقد ألفها بأسلوب مرسل مطلق، وبدا هذا ظاهراً فيها .
وقد أحدثت دعوته هذه ضجة نقدية كبرى بين أنصار التصنّع، وأنصار الترسّل على نحو يذكرنا بالمعارك الأدبية بين أنصار القديم والجديد التي برزت في مصر في العصر الحديث، وكأن كل دعوة تجديدية لابد أن تلقى هجوماً، وينقسم الأدباء حيالها إلى اتجاهين، فأنصار القديم حملوا على ابن الأثير وعدوا ترسّله ضعفاً وجعلوه من أدعياء الأدب، لأنهم اعتقدوا أن الكلام الجميل ما كان غريباً، وقد نسوا أن من شروط البلاغة والفصاحة البيان والإيضاح.
وأما أنصار الجديد فقد ضاقوا ذرعاً بالصنعة والتكلف الذي آل إليه كتاب أواخر العصر العباسي، ورأوا الجمال في ترك الإغراب المتكلف، وفي اختيار ألفاظ تناسب الموضوع، جزلة كانت أم رقيقة عذبة.
يقول ابن الأثير في تأييد دعوته والرد على من هاجمها: "الكلام الفصيح هو الظاهر البيّن، والظاهر البيّن أن تكون ألفاظه مفهومة لا يحتاج في فهمها إلى استخراج من كتب لغة، وإنما كانت بهذه الصفة لأنها تكون مألوفة الاستعمال بين أرباب النظم والنثر، دائرة في كلامهم… وأرباب النظم والنثر غربلوا اللغة باعتبار ألفاظها،… فاختاروا الحسن من الألفاظ دون غيرها، واستعمالها دون غيرها سبب ظهورها وبيانها، فالفصيح إذاً من الألفاظ هو الحسن،….والمرجع في تحسين الألفاظ وقبحها إلى حاسة السمع، فما يستلذه السمع منها ويميل إليه هو الحسن، وما يكرهه وينفر عنه هو القبيح" ([50]) .
ويقول في موطن آخر " وقد كانت العرب الأُوَل في الزمن القديم تتحاشى اللفظ الغريب في نظمها ونثرها، وتميل إلى السهل وتستعذبه" ثم ضرب لذلك مثلاً من النثر الجاهلي من حديث جرى بين الشاعر امرئ القيس وقبيصة حول الثأر لوالد الأول، وبين أنه كلام مفهوم وسلس ثم قال" وكذلك هو كلام كل فصيح من العرب مشهور، وما عداه فليس بشيء، وهذا من جزل كلامهم، وهو على ما تراه من السلاسة والعذوبة" ([51]) .
وقد عدّ ابن الأثير الغريب من الألفاظ غلظة طبع، وفجاجة ذهن، يقول "ومن له أدنى بصيرة يعلم أن للألفاظ في الأذن نغمة لذيذة كنغمة أوتار، وصوتاً منكراً كصوت حمار، وأن لها في الفم حلاوة كحلاوة العسل، ومرارة كمرارة الحنظل" .
فالكاتب جاء بأسلوب سهل رهو، وعذب، وقد نأى عن الحوشي من الألفاظ منفذاً ما كان يدعو إليه من ترك الغريب، والنأي عن التكلف لما فيهما من فجاجة وغلاظة ، وحكم الأذن في ذلك ، فما استساغته قبل ، وما رفضته ترك .
ولكن هذا لا يعني أنه كان ينفر من السجع، بل كان يدافع عن المعتدل منه، ويذكر أنه ورد منه في القرآن الكريم والحديث الشريف ما يعد قمة في البلاغة، وهو بذلك يريد أن يعيد للجملة العربية صفاءها وعذوبتها، وجمالها المطبوع لا المصنوع، ولذا نراه ينفر من سجع الكهان، ويبين أن السجع ليس تواطؤَ فقر على حرف واحد، وإنما له شروطه المتعددة، ومن شروطه إظهار الإيقاع ، والتزام اللغة ، والاعتدال في مقاطع الكلام ، وحسن اختيار المفردات والتراكيب ، وأن تكون ألفاظه حلوة حارة طنانة لاغثة ولا باردة([52]) وقد ادعى مَنْ تكلفه أنهم يأتسُون بكلام العرب، والحقيقة أنهم يأخذون بالقشور لا باللب، " والعرب وإن كانت تعتني بالألفاظ فتصلحها وتهذبها فإن المعاني أقوى عندها وأكرم عليها، وأشرف قدراً في نفوسها؛ ولما كانت الألفاظ عنوان المعاني وطريقها إلى إظهار أغراضها أصلحوها وزينوها، وبالغوا في تحسينها ليكون ذلك أوقع لها في النفس وأذهب بها في الدلالة على القصة، ألا ترى أن الكلام إذا كان مسجوعاً لذّ لسامعه فحفظه، وإن لم يكن مسجوعاً لم يأنس به أنسه في حالة السجع، فإذا رأيت العرب قد أصلحوا ألفاظهم وحسنوها… فلا تظن أن الغاية إذ ذاك إنما هي بالألفاظ فقط، بل هي خَدَمَة للمعاني…. فإنا قد نجد من المعاني الفاخرة ما شَوَّه من حسنه بذاذةُ لفظه وسوء العبارة عنه" ([53]) .
فهو إذاً يعجب بالسجع لا تكلف فيه لأنه حينذاك يلذ سامعه ويكون أعون له على الحفظ، ويرى أن اللفظ الجميل يُظهر جمال المعنى، وكم من معنى عظيم شوّه بألفاظ غير مناسبة.
ويفصل ابن الأثير رأيه في اللفظ والمعنى، وفي السجع المستخدم في عرضه، فيبين أن كل واحدة من السجعتين المزدوجتين يجب أن تكون مشتملة على معنى غير المعنى الذي اشتملت عليه أختها، (فإن كان المعنى فيهما سواء فذاك هو التطويل بعينه، لأن التطويل إنما هو الدلالة على المعنى بألفاظ يمكن الدلالة عليه بدونها، وإذا وردت سجعتان تدلان على معنى واحد كانت إحداهما كافية في الدلالة عليه، وجُلّ كلام الناس المسجوع جارٍ عليه، وإذا تأملت كتابة المُفْلِقين ممن تقدم كالصابي وابن العميد وابن عباد، … فإنك ترى أكثر المسجوع منه كذلك، والأقل منه على ما أشرت عليه، ولقد تصفحت المقامات الحريرية، والخطب النباتية ([54]) على غرام الناس بهما، وإكبابهم عليهما فوجدت الأكثر من السجع فيهما على الأسلوب الذي أنكرته)([55]) .
إذاً: تقوم نظرية ابن الأثير في تجديد النثر على:
1- سهولة اللفظ وعدم تتبع حوشيِّه لأن الفصاحة في البيان.
2- النأي عن التكلف في السجع، والإطالة فيه لغير ما معنى إضافي .
3- المعنى هو الأصل، واللفظ تابع له، وإلا صار اللفظ كظاهر مموه على باطن مشوّه.
وهذا تطور خطير في الأسلوب العربي في ذلك الوقت، إذ يربط المعنى بالمبنى، ويدعو إلى الانسجام بينهما، والتخلي عن التكلف الذي يذهب رونق العبارة، وينفر القراء، كما حصل في مقامات الحريري وأمثاله.
كما خط ابن الأثير للمتأدبين المنهج الذي يجب أن يسيروا عليه ليكونوا من أهل الأدب، ويكمن هذا المنهج في حفظ الأساليب البليغة، ولاسيما القرآن الكريم والحديث الشريف، ودواوين فحول الشعراء، وذلك لتستقيم ألسنتهم وأقلامهم.
ويعد ابن الأثير بهذه الآراء النقدية رائد النثر الجديد، وقد أحدث بدعوته هذا ثورة عارمة على أئمة الكتاب كالصاحـب بن عباد، والحريري والحصكفي، والقاضي الفاضل، وجمال الدين بن نباته، والعماد الأصفهاني، وكان يناقش آراءه حول أساليبهم مناقشة علمية ومنطقية، وقد أعجب برأيه كثير من أبناء العصر فأتسَوْا به، ومن هؤلاء "شهاب الدين محمود"([56])، إذ قلده فيما ذهب إليه فكتب رسائله الديوانية بذوق العصر المصنوع، وكتب ما سواها بالأسلوب المترسل، وشرط أن تترك للكاتب حريته في التعبير عن ذاته فلا يقيد في نثره الوجداني بقيد.
كما تأثر به "ابن حجة الحموي"([57]) فقال: "ميلوا إلى سهل الكلام، فإنه من خاف مال إلى الطريق الأوعر، وما خفي أن المتأدب يحتاج إلى صحة ذوق وصفاء ذهن، وحُسْن هذا إنما هو أمر إلهامي ليس مما يكسب".
فهو يرى أن التعبير عن النفس يتطلب إطلاق النفس على سجيتها لتأتي بما تُلهم به من غير ما تكلف أو تصنع مكتسب، وبهذا يدعو كصاحبه ابن الأثير إلى الإغراب والتعقيد والتصنع، وإلى الأخذ بالأسلوب المطلق.
وكذلك اتبع القلقشندي نهجه، ففي رسائله وتقاليده الرسمية نراه يتصنع، ولكنه فيما سوى ذلك يرى الألفاظ تابعة للمعاني، وتحسين الأولى يكون لتحسين الثانية، وأن استعمال الغريب قبيح، يقول في ذلك في أسلوب سهل مرسل: "اعلم أن المعاني من الألفاظ بمنزلة الأبدان من الثياب، فالألفاظ تابعة، والمعاني متبوعة، وطلب تحسين الألفاظ إنما هو لتحسين المعاني، بل المعاني أرواح الألفاظ وغايتها التي لأجلها وضعت، وعليها بنيت، فاحتياج صاحب البلاغة إلى إصابة المعنى أشد من احتياجه إلى تحسين اللفظ، لأنه إذا كان المعنى صواباً، واللفظ منحطاً ساقطاً عن أسلوب الفصاحة، كان الكلام كالإنسان المشوّه الصورة مع وجود الروح فيه، وإذا كان المعنى خطأ كان الكلام بمنزلة الإنسان الميت الذي لا روح فيه، ولو كان على أحسن الصور وأجملها"([58]) .
ثم يبين أن اللفظ لا يوصف بالحسن إلا إن اتصف بأربع، منها: ألا يكون غريباً، إذ من الغريب ما يعاب استعماله، وهو ما يحتاج فهمه إلى البحث في كتب اللغة، ومنها ما هو مقبول يحتاج إلى تدقيق النظر في التصريف. كما يبين أن من الألفاظ ما يكون مألوفاً عند قوم دون قوم، إذ لكل مقام مقال، فالنصوص الرسمية تقدم بأسلوب غير أسلوب التعبير الذاتي والوجداني.
وكأن ذوق العصر قد تقبل الدعوة، فظهر هناك ما سمي بازدواجية الأسلوب إذ بدا في اتجاهين:
الأول: أسلوب التأليف الذاتي، وهو أسلوب سهل مرسل مطلق، كما في القصص وبعض الكتب المؤلفة نحو "العبر وديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والعجم والبربر" لابن خلدون.
والثاني: أسلوب التأليف الرسمي، وفيه يبدو التأنق والصنعة والتكلف كما في الرسائل الديوانية.
واستمر الأمر على هذا في نهاية العصر العثماني وبدأت الدعوة إلى تجديد الأسلوب تظهر ثانية في الساحة الأدبية بأقلام كتاب العصر، أمثال محمود سامي البارودي، فيما سمي بحركة الإحياء في العصر الحديث، وأخذ بعض الفنون الإبداعية يتسع مداه ، ويأخذ أشكالا جديدة ، ويسير على مناهج لم تألفها الساحة الأدبية من قبل ، كما في المقالة والقصة والمسرحية ، وإن كان لهذه الفنون جميعا جذور في أدبنا العربي ، ولكن طريقة عرضها ، والمناهج المتبعة في العرض وفي تقديم المادة هو الجديد أو المتطور ، وهذا ما تأثر به أدبنا العربي بالأدب الغربي ، وقد حدث هذا منذ أواخر عهد الدولة العثمانية في بلادنا ، وهو إن دل على شيء فإنما يدل على نشاط الحركة الأدبية لا الجمود والعقم كما كانت تدعي بعض الدراسات .
وأحب أن أشير إلى دعوة متطرفة أخذت تظهر على الساحة الأدبية في أواخر العهد العثماني ، وهي ترمي إلى نشر اللغة العامية بعد أن رفع لواءها المشؤوم رفاعة الطهطاوي([59])، فأساءت إلى نهضة النثر بل كادت أن تقصم ظهره، إذ دعا أصحابها إلى التخلي عن الفصحى والأخذ بالعامية، أو بالأحرف اللاتينية، ولكن هذه الدعوة هوجمت بشدة في ذلك العصر على أيدي المحافظين على الأساليب العربية الأصيلة وبيانها المشرق الذين يعدّون اللغة وعاء للفكر الإسلامي وتراثه وحضارته ، وضياعها يؤدي إلى ضياع التراث والهوية .
هذه لمحة موجزة عن تطور النثر والدعوة التجديدية إليه في عصر الدول المتتابعة.
على أي حال فإن أسلوب العصر برز فيما خلفه أبناؤه من فنون نثرية متعددة، كالرسائل والخطابة، والمقامة والقصة والمسرحية وفي أدب الرحلات وغيره من معطيات الأدب في هذا العصر ، مما سيوضحه هذا الكتاب.
البــاب الأول
الفنــون النثــرية
البـاب الأول
الفنـون النثـرية
وهي الإطار الفني الذي يحوي في طياته مضامين النثر الفني وأساليبه وهي :
أولا – فن الرسالة بأنواعها الرسمية والإخوانية والأدبية ، ويلحق بها المفاخرات والمناظرات
ثانيا – فن الخطابة بألوانها
ثالثا – الفن القصصي ويشمل المقامات والقصة والسيرة الشعبية
رابعا – الفن المسرحي
خامسا - فن الرحلات
سادسا – فن التراجم
وستوضح هذه المعطيات الفنية في هذا العصر المدروس .
الفصـل الأول
فن الرسالة في عصر الدول المتتابعة
الفصـل الأول
فن الرسالة في عصر الدول المتتابعة
الرسالة فن من أبرز الفنون النثرية في عصر الدول المتتابعة، وهو في ثلاثة أنواع بارزة:
أولاً – الرسائل الديوانية أو الرسمية: وهي وثيقة الصلة بأجهزة الدولة.
ثانياً – الرسائل الإخوانية: وهي تحكي العلاقات بين الأصدقاء والأحبة.
ثالثاً- الرسائل الأدبية: وهي تترجم عما تكنه النفس من عواطف أو أفكار تجاه قضية من القضايا، وتأتي بأسلوب أدبي بليغ، ينم عن ذوق العصر وأدبائه .
وسأدرس هذه الأنواع الثلاثة، وأحلل واحدة لكل نوع لأبرز سماته الفنية.
أولاً – الرسائل الديوانية أو الرسمية:
وهي الرسائل التي صدرت عن جهات رسمية كديوان الخليفة أو الأمراء أو القادة أو غيرهم من المسؤولين السياسيين أو العسكريين أو القضاة، ويخبر فيها المرسِل المرسَل إليه عن أمر يتعلق بالدولة، كانتصار في حرب، أو استلام منصب أو عزل، أو تعزية بوفاة حاكم، أو ما شابه ذلك مما له علاقة رسمية بالحكم ومتطلباته.
وقد تعددت أنواعها حتى أوصلها القلقشندي في كتابه "صبح الأعشى في صناعة الإنشا" إلى ثلاثين نـوعـاً، منها كتب البَيْعـات([60]) والعهــود والأمــان، وكتـب الجهـاد، والعقـود ، والتهانــي، والتعــازي، والتقاليــد ([61]) والتفاويــض([62])، والتــواقيـع([63])،
والمراسيم([64])، والطرخانيات([65])، والمسامحات([66])، والمنشورات([67])، والإطلاقات([68]) والتصدير([69])، وغيرها.
وهذه الكثرة تدلنا على أهمية الدواوين الرسمية في ذلك العهد، وعلى الرتب السياسية والعسكرية والاجتماعية في ذلك العهد.
وتتشابه هذه الكتب في صياغتها، فيما عدا الألقاب الخاصة بكل رتبة أو مهنة، فكلمة مقام تقال للسلطان، والمقر الشريف للطبقة الأولى من مقدمي الألوف([70])، ولذوي المراتب الأولى من الموظفين، والمقر الكريم لذوي المرتبة الثانية، والمقر العالي لأصحاب المرتبة الثالثة، ثم يأتي لقب الجناب الكريم، وهناك المجلس العالي، والمجلس السامي، والأمير، ويكتب لجند الأمراء، ويوصف بالأمير الأجل ([71]) .
ويجب على الكاتب أن يراعي هذه الرتب وقد شرحها القلقشندي لكتاب عصره ليستعملوا في كل مقام ما يناسبه، كما أوضح لهم أنواع الورق وأحجامه والأقلام المستخدمة لكل طبقة وكيف تفتتح رسائل كل نوع، مع مراعاة براعة الاستهلال ([72]) .
وقد تستهل الرسائل بالحمد والدعاء، أو بكلمة أما بعد، أو يكتب: كتابي إليكم ([73]) وهذه المقدمات تتأسى خطب الرسول r ، ولكن أبناء العصر أطالوا كثيراً في عبارات الحمد والثناء والألقاب.
ويأتي العرض بالخبر المراد إيصاله بأسلوب مسجع منمق، وفيه تكلف بيِّن أو معتدل، وتكثر فيه أيضاً الاقتباسات من القرآن الكريم والحديث الشريف، وتضمين أقوال شعراء وكتاب.
أما خواتيم الرسائل فتكون بالسلام، أو بعبارة كتبته يوم كذا، وتذيل باسم من خط الرسالة.
ومن هذه الرسائل :
1- رسائل التعازي والتهاني:
وهي رسائل متبادلة بين المسؤولين عند وفاة ملك أو سلطان في الدولة، وتهنئة غيره باستلام منصبه.
ومنها الرسالة التي وردت عن السلطان المنصور " أبي الحسن علي بن أبي سعيد المَريني" ([74])، وكان هذا ذا علاقة وطيدة مع الملك الصالح " إسماعيل بن السلطان الناصـر محمد بن قلاوون "، وكانت الهدايا تترى بينهما، وقد أرسل إليه رسالة تعزية بوالده، وتهنئة له بالسلطنة في (745هـ)، وكتبها عنه أبو المجد بن الكاتب أبي عبد الله المعروف بابن أبي مدين، وفيها يذكر واقعة جرت له مع النصارى، ويطلب منه فيها أن يدعو للمسلمين، كما يستنجد به على الأعداء.
وهي رسالة طويلة تبلغ عشر صفحات، نهج فيها كاتبها نهج الرسائل القديمة إذ استهلها بتسمية المرسِل والمرسَل إليه مع الإفاضة في ذكر الألقاب والثناء عليهما، ثم ذكر كاتبها كلمة " أما بعد حمد الله سبحانه" ومجد المولى تعالى وسبح بحمده ، ثم صلى على الرسول r، وأثنى عليه وعلى صحابته، ثم انتقل إلى التعزية وسأل الله سبحانه أن يدخل والده فسيح رحمته، وأبّن المرثي بتعداد شمائله التي أذرفت دموع شعبه، ذلك لأنه خدم الإسلام، ورعى الحجاج، ولهذا فالمتوفى ذكره دائم وهو لا يزال حياً، لأن من خلف مثل هذا الابن "الملك الجديد" لم يمت، ثم ذكّره بالصبر على فراق الوالد، وهنأه بالمنصب الجديد، وأشاد بفعاله الحميدة التي تأسى فيها خطا والده فرعى مثله القراء، وأوقف الأوقاف، ونسخ المصاحف الشريفة؛ ثم اعتذر للملك الجديد عن تأخير التعزية والتهنئة بسبب انشغاله بحروب النصارى الذين تكاتفوا ضد المسلمين فخسر المسلمون في المعركة، مما دعا ه أن يرسل ابنه للجهاد في سبيل الله، ومحاصرة الأعداء ثلاث سنوات حتى طلبوا الصلح فكان نجحاً للمسلمين، وعاد الجيش إلى فاس ليستريح من وعثاء السفر، وليجهز لغزوة أخرى. ثم طلب منه أن يساعده في مجالدة العدو الصليبي، وبين له أهمية الاتحاد في وجهه ، وذكر أن هذا كله في سبيل الله.
وختم الرسالة بالسلام والدعاء برحمة الله وبركاته.
وهذا نص الرسالة:
"من عبد الله علي أمير المسلمين المجاهدين في سبيل رب العالمين، المنصور بفضل الله، المتوكل عليه، سلطان البرين، حامي العدوتين، مؤثر المرابطة والمثاغرة، مؤازر حرب الإسلام، مظاهر دين الملك العلام، ابن مولانا أمير المسلمين المجاهدين في سبيل رب العالمين، فخر السلاطين، حامي حوزة الدين ملك البرين، إمام العدوتين،… محط الرحال، مبلغ الآمال، أبي سعيد بن مولانا أمير المسلمين المجاهد في سبيل رب العالمين حسنة الأيام، حسام الإسلام، أبي الأملاك، شجى أهل العناد والإشراك، مانع البلاد، رافع علم الجهاد… أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق أخلص الله لوجهه جهاده، ويسّر في قهر عداة الدين مراده.
إلى محل ولدنا الذي طلع في أفق العلا بدراً تماً، وصدع بأنوار الفخار فجلّى ظلاماً وظلما، وجمع شمل المملكة الناصرية فأعلى منها علَماً، وأحيا بها رسماً، حائط الحرمين، القائم بحفظ القبلتين، باسط الأمان، قابض كف العدوان… السلطان الجليل، الرفيع الأصيل، الحافل العادل، الفاضل الكامل… المؤيد المظفر، الملك الصالح، أبي الوليد إسماعيل([75]) بن محل أخينا الشهير علاؤه، المستطير في الآفاق ثناؤه، زين الأيام والليالِ([76]) ، كمال عين إنسان المجد، وإنسان عين الكمال، وارث الدول، النافث بصحيح رأيه في عقود أهل الملل والنحل… هادم الكنائس والبِيَع "فهي خاوية على عروشها" السلطان الأجل، الهمام، الأحفل، الأفخم، الأضخم، الفاضل العادل، الشهير الكبير، الرفيع الخطير، المجاهد المرابط، المقسط عدلَه في الجائر والقاسط… أبي المعالي محمد([77]) ابن الملك الأرضى، الهمام الأقضى، والد السلاطين الأخيار، عاقد لواء النصر في قهر الأرمن والفرنج والططار([78])، محيي رسوم الجهاد، معلي كلمة الإسلام في البلاد… الإمام المؤيد، المنصور المسدد، قسيم أمير المؤمنين فيما تقلد، الملك المنصور سيف الدنيا والدين قلاوون([79]) ، مكن الله له تمكين أوليائه، ونمى دولته التي أطلعها السعد شمساً في سمائه.
سلام كريم يفاوح زهر الربا مسراه، وينافح نسيم الصبا مجراه، يصحبه رضوان يدوم ما دامت تقلّ الفلك حركاته، ويتولاه روح وريحان، تحييه به رحمة الله وبركاته.
أما بعد حمد الله مالك الملك، جاعل العاقبة للتقوى صدعاً باليقين، ودفعاً للشك، وخاذل من أسرّ في النفاق النجوى، فأصر على الدّخن والإفك، والصلاة والسلام على نبينا محمد ورسوله الذي محا بأنوار الهدى ظلم الشرك، ونبيه الذي ختم به الأنبياء، وهو واسطة ذلك السلك، ودحَا به حجة الحق، فمادت بالكفرة محمولة الأفلاك، وماجت بهم حاملة الفلك، والرضا من آله وصحبه الذين ملكوا سبل هداه، فسلك في قلوبهم أجمل السَّلْك، وملكوا أعنة هواهم فلزموا من محجة الصواب أسْحَج الهُلْك، وصابروا في جهاد الأعداء فزاد خلوصهم مع الابتلاء، والذهب يزيد خلوصاً على السبك، والدعاء لأولياء الإسلام، وحماته الأعلام…
فكتبنا إليكم، كتب الله لكم رسوخ القدم، وسبوغ النعم، من حضرتنا بمدينة فاس المحروسة… زاد الله سلطانكم تمكيناً، وأفاد مقامكم تحصيناً وتحسيناً، وسلك بكم من سنن من خلفتموه سبيلاً مبيناً، فلا خفاء بما كانت عقدته أيدي التقوى، ومهدته الرسائل التي على الصفاء تطوى بيننا وبين والدكم، نعّم الله روحه وقدّسه، وبقربه مع الأبرار في عليين آنسه، من مؤاخاة أحكمت منها العقودَ تاليةُ الكتب والفاتحة، وحفظ عليها محكم الإخلاص معوّذتاها المحبة والنية الصالحة، فانعقدت على التقوى والرضوان … حتى استحكمت وصلة الولاء، والتحمت كلُحْمة النسب لحمة الإخاء، فما كان إلا وشيكاً من الزمان … أنبأ باستئثار الله بنفسه الزكية وإكنان درته السنية وانقلابه إلى ما أعد له من المنازل الرضوانية بجليل ما وقر لفقده في الصدور، وعظيم ما تأثرت له النفوس لوقوع ذلك المقدور، … فبعد لأي وقعنا منها على الخبير، وجاءنا بوقاية حرم الله بكم البشير، وتعرّفنا أن الملك استقر منكم في نصابه، وتداركه الله منكم بفاتح الخير من أبوابه، فأطفأ بكم نار الفتنة وأخمدها، وأبرأ من أدواء النفاق ما أعلّ البلاد وأفسدها فقام على سبيل الحج سابلاً، وتعبّد طريقهُ لمن جاء قاصداً أو قافلاً … فأصدرنا لكم هذه المخاطبة المتفننة الأطوار، الجامعة بين الخبر والاستخبار، الملبسة من العزاء والهناء ثوبي الشعار والدثار، ومثل ذلكم الملِكِ رضوانُ الله عليه مَنْ يَجُلُّ المصاب لفقدانه، وتُحَلّ عُرا الاصطبار لموته، ولات حين أوانه، ولكن الصبر الجميل أجمل ما ارتداه ذو عقل حصين، والأجر أولى ما اقتناه ذو دين متين ومثلكم من لا يخف وقاره، ولا يشفّ عن ظهور الجزع للحادث اصطباره، ومن خلّفكم فما مات ذكره، ومن قمتم بأمره فما زال بل زاد فخره … وصار حميداً إلى خير المنقلب … فقد ارتضاكم الله بعده لحياطة أرضه المقدسة، وحماية زوّار بيته مقيمة أو مُعَرّسة، ونحن بعد بسط هذه التعزية نهنئكم بما خوّلكم الله أجمل التهنئة، وفي ذات الله الإيراد والإصدار، وفي مرضاته سبحانه الإضمار والإظهار، فاستقبلوا دولة ألقى العز عليها رِواقه، وعقد الظهور عليها نطاقه وأعطاها أمان الزمان عهده وميثاقه، ونحن على ما عاهدنا عليه الملك الناصر رضوان الله عليه من عهود موثقة، وموالاة محققة، … ولم يغب عنكم ما كان من بعثنا المصحفين المكرمين اللذين خطّتهما منا اليمين، وأوت بهما الرغبة من الحرمين الشريفين إلى (قرار مكين)، وأنه كان لوالدكم الملك الناصر تولاه الله برضوانه، وأورده موارد إحسانه في ذلكم من الفعل الجميل، والصنع الجليل، ما ناسب مكانه الرفيع، وشاكله فضله من البر الذي لا يضيع، حتى طبق فعله الآفاق ذكراً، وطوق أعناق الوراد والقصاد بِرّا، وكان من أجمل ما به تحفّى وأتحف، وأعظم ما يعرفه إلى رضا الملك العلام في ذلك تَعَرَّف، إذنه للمتوجهين إذ ذاك في شراء رباع توقف على المصحفين، ورسم المراسم المباركة، بتحرير ذلك الوقف مع اختلاف الجديدين، فجرت أحوال القراء فيها بذلك الخراج المستفاد، وبما يصلهم من خراج ما وقفناه عليهم بهذه البلاد على ما رسمه رحمة الله عليه من عناية بهم متصلة، واحترام في تلك الأوقاف فوائدها به موفرة متحصلة.
وقد أمرنا مؤدي هذه لكمالكم، وموفدها على جلالكم، كاتبنَا الأسنى الفقيه الأجل الأحظى الأكمل أبا المجد ابن كاتبنا الشيخ الفقيه … المرحوم أبي عبد الله بن أبي مدين حفظ الله عليه رتبته … بأن يتفقد أحوال تلك الأوقاف، … وما فعله من سداد وإسراف … وخاطبنا سلطانكم بهذا الشأن جرياً على الود الثابت الأركان، وإعلاماً بما لوالدكم رحمه الله تعالى من ذلك من الأفعال الحسان، وكمالكم يقتضي تخليد ذلكم البّر الجميل، وتجد يد عمل ذلكم الملك الجليل… وبحسب المصافاة، ومقتضى الموالاة، نشرح لكم المتزايدات بهذه الجهات، وننبئكم بموجب إبطاء إنفاذ هذا الخطاب على ذلكم الجناب، وذلك أنه لما وصلَنا من الأندلس الصريخ، ونادى الجهاد منا عزماً لمثل ندائه نُصيخ، أنبأنا أن الكفار قد جمعوا أحزابهم من كل صوب، وحتم عليهم باباهمُ اللعين التناصر من كل أوب، وأن تقصد طوائفهم البلاد الأندلسية … لتمحوَ كلمة الإسلام منها، وتقلِّص ظل الإيمان عنها، فقدّمنا من يشتغل بالأساطيل من القواد، وسرنا على أثرهم إلى "سبتة" منتهى المغرب الأقصى وباب الجهاد، فما وصلناها إلا وقد أخذ أخذَهُ العدو الكفور، وسد اختطاف الطواغيت على التعاون مجاز العبور، وأتوا من أجفانهم بما لا يحصى عدداً، … ولكن … حاولنا إمداد تلكم البلاد بحسب الجهد، وأصرخناهم بما أمكننا من الجند، … وأمرنا لصاحب الأندلس من المال بما يجهز به حركته لمداناة حزب الضلال، وأجرينا له ولجيشه العطاء الجزل … وجعلت أجفاننا تتردد من يمشي السواحل، ويلج أبواب الخوف العاجل لإحراز الأمن الآجل، مشحونة بالعُدد الموفورة، والأبطال المشهورة، والخيل المسمومة والأقوات المقومة … حتى تلف منهم سبع وستون قطعة غزوية أجرها عند الله يدخر… فبعثنا أحد أولادنا أسعدهم مساهمة لأهل تلك البلاد فلقي من هول البحر وارتجاجه، وإلحاح العدو ولجاجه ما به الأمثال تضرب، … نزل بإزاء الكافر الجاحد، حتى كان منه بفرسخين أو أدنى … وقويت في الحرب إرادته، إلا أن المطاولة بحصرها في البحر مدة ثلاثة أعوام ونصف … أدى إلى فناء الأقوات بالبلد حتى لم يبق لأهله قوت نصف شهر مع انقطاع المدد، وبه من الخلق ما يربي على عشرة آلاف دون الحرم والولد، فكتب إلينا سلطان الأندلس يرغب في الإذن له في عقد الصلح، فأذنا له الإذن العام، إذ في إصراخه وإصراخ مَنْ في قُطْره من المسلمين توخينا ذلك المرام، هنالك دعا النصارى إلى السلم فاستجابوا لداعيه، وقد كانوا علموا فناء القوت، وما استرابوا الصلح إلى عشر سنين وخرج من بها من فرسان ورجال وأهل وبنين لم يرزؤوا مالاً ولا عدة … ووصلوا إلينا فأجزلنا لهم العطاء … وقد أمرنا لذلك الثغر بمزيد المدد، وتخيرنا له ولسائر تلك البلاد من العَدد والعُدَد، وعدنا لحضرتنا (فاس) لتستريح الجيوش من وعثاء السفر، … وتكون على أهبة الجهاد، وعلى مَرْقَب الفرصة عند تمكنها في الأعاد([80])، وعند عودنا من تلك المحاولة، فأصدرنا إليكم هذا الخطاب إصدار الود الخالص والحُبّ اللباب… والبلاد باتحاد الود متحدة، والقلوب والأيدي على ما فيه من مرضاة الله تعالى معتضده، جعل الله لكم ذلكم خالصاً لرب العباد، مذخوراً ليوم التناد([81])، مسطوراً في الأعمال الصالحة يوم المعاد بمنه، وفضله وهو سبحانه يصل إليكم سعداً تتفاخر به سعود الكواكب، وتتضفّر على الانقياد له صدور المواكب وتتقاصر عن نيل مجده متطاولات المناكب، والسلام الأتم يخصكم كثيراً أثيراً، ورحمة الله وبركاته.
وكتب في يوم الخميس السادس والعشرين لشهر صفر المبارك من عام خمسة وأربعين وسبعمئة.
صورة خط أبي الحسن المريني صاحب فاس .
وكتب في التاريخ المؤرخ ([82]) .
دراسة الرسالة:
هذه الرسالة صدرت من سلطان إلى آخر، ولذلك اتجهت في مجملها وجهة رسمية موضوعية، وخلت من التأملات، والقضايا الذاتية، ومن الأخيلة واهتمت بعرض الفكرة بإيضاح، مع احتوائها على عاطفة الأخوة الإسلامية بسبب ظروف التعزية والجهاد في سبيل الله.
بدأت الرسالة بتوجيه الخطاب من المرسِل وعددت صفات كثيرة له، وبالغت فيها مبالغة شديدة، ثم انتقلت إلى المرسَل إليه وذكرت له أيضاً صفات عديدة ثم انتقلت إلى غرض الرسالة وهو التعزية وتأبين الميت، ثم التهنئة والثناء على ابنه الذي تسلم منصبه، وعرضت أسباب تأخر التعزية والتهنئة وهي الحروب التي كانت بين المسلمين والنصارى في الأندلس، وما قدمه المغاربة لأهلها من مساعدات عسكرية ومن مجاهدين راغبين في قمع الكفر، وإبقاء الديار للمسلمين، ثم خلص من هذا كله إلى طلب المساعدة من ابن قلاوون، وذكر له ولوالده جهودهما في حفظ الإسلام ورعاية كتابه الكريم.
ثم جاءت الخاتمة لتبين التأريخ وكاتب النص.
وكان هذا العرض المتعدد الأفكار يؤدى بأسلوب منطقي محكم كانت فيه الأفكار تعرض مسلسلة، وفي وحدة عضوية تامة وإن حوى التعزية والتهنئة والحديث عن الحرب في آن واحد ، ذلك لأن الحرب كانت قد شغلت المرسِل عن تعزية المرسَل إليه بوالده ، وتهنئته باستخلافه من بعده.
وهذه الرسالة تحمل في طياتها عدة قضايا، لعل أهمها القضايا السياسية والعسكرية.
فالعلاقات بين المسلمين على المستوى الرسمي والشعبي كانت علاقات مودة ومحبة، فهم يهنئون بعضهم ويعزّون، ويساند بعضهم بعضاً في أيام المحن لدرء الخطر عن المسلمين. وقد يرسل السلطان ابنه مع المجاهدين لرفع الروح المعنوية لهم، كما استقبل الشمال الإفريقي مهاجري الأندلس كأحسن ما يكون الاستقبال.
وقد دام الحصار ثلاث سنوات ونصف السنة ثم عقد صلح بين الطرفين وكان المسلمون قد استردوا جبل طارق مما ساعد في فتح البلاد ثانية بعد أن سد الكفرة مسالك العبور بمراكبهم الكثيرة.
ومن الأوضاع العسكرية التي عرفناها من هذه الرسالة وجود الأساطيل في البحار.
وهناك أمور اجتماعية أيضاً، فكاتب المريني أبو المجد بن أبي مدين وكلّ إليه أمر الإشراف على أحوال الوقف بعد موافقة سلطان البلاد، وأن أمواله ستصرف على نسخ المصاحف.
كما أوضحت الرسالة الواقع الثقافي. فالأسلوب الرسمي للرسائل كان مسجعاً متكلفاً، وكان السلاطين آنذاك يعجبون بهذا الأسلوب الذي يبدو فيه التصنع، وكثرة الألقاب، ولهذا اتخذه الكتاب وسيلتهم للبقاء في مناصبهم .
وقد تميز هذا الأسلوب بالمبالغة في ألقاب المرسِل والمرسَل إليه على السواء، فالسلطان المنصور أبو الحسن المريني على لسان كاتبه أبي مدين هو (أمير المسلمين المجاهدين في سبيل رب العالمين سلطان البرين، حامي العدوتين، مؤثر المرابطة والمثاغرة، مؤازر حرب الإسلام، مظاهر دين الملك العلام … محط الرجال، مبلغ الآمال، حسنة الأيام، حسام الإسلام، شجى أهل العناد والإشراك.
والمرسَل إليه السلطان الملك الصالح إسماعيل بن محمد بن قلاوون "حامي القبلتين بعدله وحسامه، هازم أحزاب المعاندين وجيوشها، هادم الكنائس والبيع "فهي خاوية على عروشها" السلطان الأجل الهمام، الأحفل، الأفخم، الأضخم …" إلى غيرها من الصفات التي كثر فيها التبجيل والتعظيم، ولاسيما ما يتعلق منها برعاية الإسلام ودولته.
وفي الأسلوب أيضاً تكرار للمعاني والصفات، من ذلك ما جاء في وصف السلطان "فبعد لأي وقعنا منها على الخبير، وجاءنا بوقاية حرم الله لكم البشير، وتعرفنا أن المُلك استقر منكم في نصابه، وتداركه الله منكم بفاتح الخير من أبوابه، فأطفأ بكم نار الفتنة وأخمدها، وأبرأ من أدواء النفاق ما أعل البلاد وأفسدها… "
وفيه أيضاً اقتباس من القرآن الكريم على نحو قوله: "هازم أحزاب المعاندين، هادم الكنائس والبيع فهي خاوية على عروشها" و "وأوت بهما الرغبة من الحرمين الشريفين إلى قرار مكين".
والتكلف في السجع بادٍ للعيان، وجاء بعضه في أحسن موقع من ذلك قوله: "أمير المسلمين المجاهدين في سبيل رب العالمين، فخر السلاطين، حامي حوزة الدين، ملك البرين، إمام العدوتين" فحرف النون جاء بنغمة طربة في جمل متساوقة منسجمة، وكذلك في قوله: "زاد الله سلطانكم تمكينا وأفاد مقامكم تحصيناً وتحسيناً، وسلك بكم من سنن من خلفتموه سبيلاً مبيناً"، ولكن من السجع ما تكلف به كقوله: "والصلاة والسلام على نبينا محمد ورسوله، الذي محا بأنوار الهدى ظلم الشرك، ونبيه الذي ختم به الأنبياء، وهو واسطة ذلك السلك، ودحا به حجة الحق فمادت بالكفرة محمولة الأفلاك، وماجت بهم حاملة الفلك".
فقوله "وهو واسطة ذلك السلك" جاء به للسجعة، وكذلك "وماجت بهم حاملة الفلك" لأن المعنى لا يزيد عما سبق، وأرى أنه أساء به إلى العبارة.
وبعض العبارات جاء فيها توازن وازدواج أضفيا على النص نغمة موسيقية عذبة من ذلك قوله: "ومكانكم العتيد سلطانه، وسلطانكم المجيد مكانه، وولاؤكم الصحيح برهانه".
ومن الازدواج الجميل لولا كثرة عباراته، قوله: "محط الرحال، مبلغ الآمال … حسنة الأيام، حسام الإسلام،… السلطان الجليل، الرفيع الأصيل، الحافل العادل، الفاضل الكامل، المؤيد المظفر، الملك الصالح … السلطان الأجل، الهمام الأحفل، الأفخم الأضخم، الفاضل العادل، الشهير الكبير، الرفيع الخطير، المجاهد المرابط".
وفيه جناس مقبول قوّى المعنى، وأضفى على الرسالة نغمة من تكرار الحروف وذلك كقوله: "ومن قمتم بأمره فما زال بل زاد فخره".
ولكن بعض المصطلحات التي وردت فيها أساءت إلى المعنى وبدا فيها التعمّل واضحاً كقوله في التعزية: "وفي ذات الله الإيراد والإصدار، وفي مرضاته سبحانه الإضمار والإظهار".
ولعل كثرة هذه الصنعة كانت لإثبات مقدرة الكاتب على الإتيان بالسجع وغيره من صنوف البديع ليرضي أذواق المسؤولين، وكان معظمهم من غير العرب.
2- كتب العهود :
وهي كتب يسند بها الأمر إلى سلطان جديد وقد تأتي قصيرةً لا تتعدى بضعة أسطر، وقد تطول حتى تتجاوز سبع صفحات.
فمن العـهود القصيرة ما كتبه محيي الدين بن عبد الظاهر([83]) باسم الخليفة المستكفي سليمان([84]) يعهد فيه بالسلطنة إلى محمد بن قلاوون سنة (717هـ) .
ومن العهود الطويلة ما كتب محيي الدين بن عبد الظاهر عن المنصور قلاوون، ليعهد بالسلطنة إلى ابنه الملك الأشرف صلاح الدين خليل([85]) ، فقد استهله بحمد الله سبحانه الذي جعل السلطان ثابت الأركان، وذكر أن الموت حق على الإنسان، وذكر الخلفاء الراشدين الذين عملوا الصالحات فأرضوا الله ورسوله ثم قال (وبعد) ثم تحدث عن أهمية السلطنة إذ هي ركن شديد يرهب الله به الأعداء، وذكر تفويض أمر الملك إلى السلطان الجديد، ثم راح يعدد ألقابه تعظيما لقدره، ومنها قوله: "أن نفوض إليه ولاية العهد الشريف بالسلطنة الشريفة المعظمة، المكرمة المفخمة، وأن يبسط يده المنيفة لمصافحتها بالعهود، وتحكمها في العساكر والجنود، وفي البحور والثغور، وفي التهائم والنجود… " ثم بين أن الغاية هي مرضاة الله سبحانه ثم راح يوصيه الوصايا التي يقوم عليها الأمر، ومنها قوله: "وأما الوصايا فأنت يا ولدنا الملك الأشرف – أعزك الله- بها الدَّرِب … فعليك بتقوى الله عز وجل فإنها مِلاك سدادك، وهلاك أضدادك … والشرعِ الشريف فهو قانون الحق المتبع، ومأمون الأمر المستَمع، وعليه مدار إيعاء كل إيعاز، وبه يتمسّك من أشار وامتاز، وهو جَنّة، والباطل نار، (فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز) فلا تخرج في كل حال عن لوازمه وشروطه، ولا تَنْكب عن معلَّقه ومنوطه. والعدلَ فهو مُثَمِّرُ غُروس الأموال، ومعمر بيوت الرجاء والرجال، وبه تزكو الأعمار والأعمال … واقرنه بالفضل (إن الله يأمر بالعدل والإحسان) … وكثّر لمن حولك التموين والتمويل… والثغور فهي للممالك مباسمها، وللمسالك مناسمها، فاجعل نواجذها تفتر عن حسن ثنايا الصون،... وأعنها بما يدفع المكاره عنها فإنها للنصر مقاعد، وبها حفظ البلاد من كل مارٍّ من الأعداء مارد …"
كما أوصاه ودعاه إلى رعاية دور العبادة، وأن يلزم الدعاء، وأن يحافظ على بيوت المال وفيها يقول بعد الحديث عن دور العبادة "وأخواتها من بيوت الأموال الواجدات الواجبات، من حيث إنها كلها بيوت الله عز وجل: هذه للصلاة، وهذه للِّصلات، وهذه كهذه في رفع المنار وجمع المَبارّ، وإذا كانت تلك مما أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، فهذه ترفع ويذكر فيها اسمه حتى على الدرهم والدينار. فاصرف إليها اجتهادك فيما يعود بالتثمير، كما يعود على تلك بالتنوير … فإنها إذا أصبحت مصونة أجملت بحمد الله المعونة، وكفلت بالمؤونة، وبالزيادة على المَؤُونة، فتكمِّل هذه لكل ولي دنياه، كما كمَّلتْ تلك لكل ولي دينه، وحدود الله فلا يتعداها أحد، ولا يرأف فيها ولد بوالد، ولا والد بولد، فأقمها وقم في أمرها حتى تنضبط أتم انضباط …) .
ثم بين أهمية الجهاد في سبيل الله، وضرورة مواصلة نشر الدين به، ورجا الله سبحانه أن يفتح على يديه البلدان، وأن ينصر به جيوش الإسلام، ثم أوصاه بالاهتمام ببيت الله الحرام وبرعاية أهله وأوصاه بالرعايا فقال : (والرعايا، فهم للعدل زروع، وللاستثمار فروع، ولاستلزام العمارة شروع، فمتى جادهم غيث أعجب الزراع نباتهم، ونمت بالصلاح أقواتهم، وصلحت بالنماء أوقاتهم، وكثرت للجنود مستغلاّتهم، وتوفرت زكواتهم، وتنورت مشكاتهم، والله يضاعف لمن يشاء) .
ثم قال: هذا عهدنا للسيد الأجل الملك الأشرف صلاح الدنيا والدين، فخر الملوك والسلاطين، خليل أمير المؤمنين ، أعز الله تعالى ببقائه الدين، فليكن بعروته مستمسكاً، وبنفحته متمسّكاً، وليتقلد سيف هذا التقليد، ويفتح مغلق كل فتح منه بخير إقليد، وها نحن قد كثرنا لديه جواهره ، فدونه ما يشاء تحليته من تتويج مَفْرِق، وتختيم أنامل وتسوير زند وتطويق جيد، ففي كل ذلك تبجيل وتمجيد، والله تعالى يجعل استخلافه هذا للمتقين إماماً ، وللدين قواماً، وللمجاهدين اعتصاماً، وللمعتدين انفصاماً، ويطفئ بمياه سيوفه نار كل خطب حتى يصبح كما أصبحتْ نار سميِّه برداً وسلاماً إن شاء الله تعالى" ([86]) .
منهج هذه الرسالة لا يكاد يختلف عن منهج الرسائل الديوانية الأخرى، استهلال بحمد الله سبحانه، والصلاة على الرسول المصطفى r، ودخول بالغرض الرئيس بعد كلمة (وبعد)، وفي هذا العهد يسند المنصب إلى سلطان جديد ويوصى وصية الوالد لولده المحب، ولهذا بدأ الكاتب بقوله (وأما الوصايا فأنت يا ولدنا الملك الأشرف، أعزك الله بها، الدَّرِبُ… فعليك بتقوى الله") . فقد تودد إليه حين جعل نفسه بمنزلة والده الناصح، كما أكرمه بوصفه الخبير بهذه النصائح ودعا له بالعزة، وهذا مما يجعل الملك الأشرف خليل بن قلاوون يستجيب للنصح ويتقبله، ثم بين له ما يجب عليه اتباعه من التقوى وتنفيذ شرع الله، والعدل، والجهاد في سبيل الله، والاهتمام بالاقتصاد والأموال و … وكان عندما يذكر كل قضية يبين أهميتها الدينية والدنيوية، وفي ذلك ربط بين الدين والدنيا، وبين المال والعبادة، فالإسلام يرى دور العبادة كدور المال، كلاهما لرفع اسم الله عالياً، فالأولى للصلاة، والثانية للصِلات كما يقول، واسم الله تعالى يذكر في هذه كما يذكر على الدرهم والدينار، ثم أوصاه خيراً بالرعايا.
وختم العهد بتأكيده، ونعَت السلطان الأشرف بصفات متعددة، ودعا له أن يجعل استخلافه للمتقين إماماً، وللدين قواماً، وأن يطفئ به نار الفتن كما أطفئت نار الشرك فكانت برداً وسلاماً على إبراهيم.
في هذا العهد نرى اعتماد الكاتب على السجع، والاقتباس من القرآن الكريم وهذه سمة النثر ولاسيما الرسمي فمن الأول قوله: "فكن لجنودهم متحبباً، ولمرابعهم مخصباً، ولمصالحهم مرتباً،ولآرائهم مستصوباً، ولاعتضادهم مستصحباً، وفي حمدهم مطنباً، وفي شكرهم مسهباً".
ومن الثاني "الاقتباس" قوله تعالى: )إن الله يأمر بالعدل والإحسان(.
وكان في عباراته ازدواج وتوازن يضفيان على النص جرساً موسيقياً عذباً كقوله "فمتى جادهم غيث أعجب الزراع نباتهم، ونمت بالصلاح أقواتهم، وصلحت بالنماء أوقاتهم، وكثرت للجنود مستغلاّتهم، وتوفرت زكواتهم، وتنورت مشكاتهم" والتوازن والازدواج مستساغان بسبب اعتماد الكاتب على حرف الهاء والميم في أواخر العبارات.
ولكن في قوله "وقد كثرنا لديه جواهره، فدونه ما يشاء من تتويج مَفْرِق، وتختيم أنامل، وتسوير زند، وتطويق جيد، ففي كل ذلك بتبجيل وتمجيد" نرى التكلف واضحاً، إذ لا حاجة لذكر التاج والخاتم والسوار والطوق.
وفي النص بعض كلمات غريبة كقوله: "عليه مدار إيعاء([87]) كل إيعاز" .
وفي النص تشبيهات تقوي المعنى وتوضحه، فالتقوى جَنة، والباطل نار، والسيف ماء تقضي عليها حتى تصبح برداً وسلاماً، كما صارت على إبراهيم الخليل سمية، والثغور بسمة الممالك إن حميت، وأمراء الجند سور مطوق.
واستخدم أسلوب الإغراء حين حذف الفعل قبل كل نصح يقدم إليه "فعليك بتقوى الله عز وجل… والشرعَ الشريف… والعدلَ … والثغورَ … والرعايا … " وكأنه يقول له "عليك بتقوى الله، الزمها، والزم الشرع الشريف، والعدل، والثغور، والرعايا، وكل واحدة مفعول به لفعل محذوف جاء في بداية كل فقرة، تقديره "الزم" ، وفي هذا مبالغة في التوكيد، ثم يأتي بعد ذلك تبيان فضائل كل نوع وأهميته في الدارين، مما يحث السلطان على مراعاته فيتحقق الغرض من النصيحة.
وهكذا كان هذا العهد دستوراً يسير عليه السلطان لينفذ شرع الله وفق ما أراده المولى تعالى، وقد عرض بطريقة علمية منطقية جاء فيها بالدلائل ، وأوضح أهمية ما يذكره في الدنيا والآخرة ، كما اعتمد على إثارة العاطفة بربط الأمور بمرضاة الله سبحانه، وفي جعله بمنزلة ولده الذي ينصحه ، وحرك مشاعره تجاه العدو الذي يحاول إيقاع الفتن، وإن الاعتماد على المنطق والأدلة وعلى تحريك المشاعر الإيمانية والمشاعر الجماعية مما يرسخ الفكرة في العقل والقلب ولا سيما أن النص جاء بأسلوب سهل لطيف الوقع .
3- التقاليد ([88]) :
وهي من أنواع الرسائل الديوانية أيضاً، وتوجه لأرباب السيوف، ولنواب السلاطين وولوزراء والقضاة، ولولاية الحسبة، وللإمارة كإمارة المدينة المنورة إلى أحد الشرفاء، وتشتمل التقاليد على طرة ومتن:
وتعني الأولى (الطرة): قول الكاتب في عنوان الرسالة: (تقليد شريف لفلان بكذا) وصورتها أن يكتب فيها تقليد شريف بأن يفوض إلى المقر الكريم أو إلى الجناب الكريم، أو الجناب العالي الأميري الكبيري الكافلي ([89]) الفلاني أعز الله تعالى أنصاره أو نصرته، أو ضاعف الله تعالى نعمته نيابة السلطنة الشريفة بالشام المحروس أو بحلب المحروسة أو نحو ذلك.
أما المتن: فلا يفتتح إلا بحمد الله سبحانه والحمدلة والبسملة على العادة ثم يقال (أما بعد) ثم يذكر ما سنح من حال الولاية وحال المولَّى، وأنه أحق من يتسنم هذا المنصب ويدعى له، ثم يقال: "اقتضى حسن رأينا الشريف [ويذكر ما يقتضي تكريمه وتعظيمه]"، فلذلك رسم بالأمر الشريف العالي المولدي السلطاني الملكي الفلاني [ويدعى له بما يناسب الحال ثلاث دعوات أو أربعاً] أن يفوض إلى المشار إليه [كذا]، فلْيتقلّد ذلك [أو فلْيتلَقّ هذا التفويض أو نحو هذا]، ثم يوصى بما يناسب تلك الولاية مما لابد منه، ويحرص أن ينبه إلى التقوى، ويختم بالدعاء للمولّى بالإعانة والتأييد ونحو ذلك ثلاث دعوات، وأكثرها أربع وأقلهـا اثنتان، ثم يكتب التأريخ ([90]) .
ومن تقاليد الوظائف الدينية نسخة تقليد بولاية الحسبة([91]) من إنشاء الوزير ضياء الدين بن الأثير وقد استهله بقوله تعالى: )ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون( [آل عمران/104]. ثم قال: "هذا أمر يشتمل على معنى الخصوص دون العموم، ولا يختص به إلا ذوو الأوامر المطاعة، أو ذوو العلوم، وقد منحنا الله هذين الوصفين كليهما، وجعلنا من المستخلفين عليهما. فلنبدأ أولاً بحمده الذي هو سبب للمزيد … ولا ريب أن إصلاح العباد يسري إلى الأرض حتى تزكو بطونها، وتنمو عيونها، والأمر بذلك حِمْلٌ -إن لم تتوزعه الأكف - ثقُل على الرقاب، وإذا انتشرت أطراف البلاد فإنها تفتقر إلى مساعدة من مستنيب ومستناب، وقد اخترنا لمدينة (كذا) رجلاً لم نأل في اختياره جهداً، وقدمنا فيه خيرة الله التي إذا صدقت نيتها صادفت رشداً، وهو أنت أيها الشيخ (فلان) فابسط يدك بقوة إلى أخذ هذا الكتاب، وكن حسنة من حسناتنا التي ثمَّ يرجح بها ميزان الثواب…
واعلم أن أمر الشريعة مبني على التيسير لا على التعسير … وفي سنة رسول الله r مندوحة لمن لزمها، وهي هدى لمن عمل بها ونور لمن علِمها }وضرب لذلك مثلاً قصة الأعرابي الذي قضى حاجته في المسجد فسارع الناس إليه، فنهاهم الرسول r وقال إنما بعثتم ميسِّرين ولم تبعثوا معسِّرين، ثم نصحه r برفق {، ودعا الكاتبُ واليَ الحسبة إلى هذا الرفق، وطلب منه ألا يتكبر على مخلوقات الله سبحانه وبذلك ينزل الله سبحانه السكينة على لسانه ويده. ثم قال له: (والله ينظر إلى قلب ابن آدم لا إلى عمله ولا إلى جسده)، ثم أوصاه بالمجاهدين خيراً، وكذلك بالمستترين من المعاصي (ومن اختفى منك بالاستتار فلا تكشف عن حاله الخافيَة، وأما ذوو الهيئات فإن عثراتهم تقال، وأعراضهم لا تُذال، ولربما كان التجاوز عنهم داعياً إلى الانتقال، وفي قصة أبي محجن وسعد ما ينبئك أن الحياة أغنى في الازدجار…) ثم أوصاه بالمعاملات وأيسرها إماطة الأذى عن الطريق ثم قال له: (وهذه الوصايا كلها لا تفتقر فيها إلى التوقيف، وأنت عالم بوضع كلمها مواضعه، وغيرك الذي يتعدى إلى التحريف، فامضِ على السنن، وأْتِ بالحسن، وسوّ بين حالتيك في السر والعلن، وكن من خوف الله ورجائه بين رحلة سفر وقرارة وطن، وهذا عهدنا إليك تتقمّص اليوم منه رداء جميلاً، وستحمل غداً منه عبثاً ثقيلاً، وقد فرضنا لك عن حق سعيك فريضة تجد بها كفافاً، وتمنعك أن تمد عينيك إلى غيرها استِشْرافاً، فإن العمل الذي توليته يستغرق أوقاتك… وأنت فيه بمنزلة الباني وقواعده، وكل بناء على قدر بانيه وما شاد، ونحن نأمر ولاتنا على اختلاف مراتبهم أن يرفعوا من قدرك، ويسّدوا من أمرك، وإذا استوعر عليك أمر من الجوانب سهّلوا من وعْرك والله أمر أهل طاعته بأن يكون بعضهم لبعض من الأعوان، فقال جل وتعالى: ) وتعاونوا على البـر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان( ([92])
هذا النص يتألف من طرة ومتن. فأما الطرة فاستهلها بآية تحض على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ثم بين أهمية هذا الأمر، وجاء المتن بعد ذلك بادئاً بالحمد مبيناً أهمية القيام بأوامر الله سبحانه، ثم ذكر تقليد المحتسب بمهمته ، وطلب أداءها على خير وجه، وجاء بآيات وأحاديث وقصص تؤيد رأيه كقصة الأعرابي الذي قضى حاجته في المسجد ورفق به الرسول r، وقصة أبي محجن الثقفي، ثم نبهه إلى خطر العجب، وأوصاه بحسن المعاملة، والخوف من الله سبحانه الذي سيحاسب العبد على ما في قلبه، وأوصاه بفئات المجاهدين، وبالمستتر من المعاصي ألا يفضح ستره، ثم إلى عدم تحريف أقوال الشرع.
ثم ذكر له العهد وخوفه من حسابه يوم الحشر، ودعا إلى احترامه، وبين له أن عمله سيستغرق وقته ولذا فقد خصص له مالاً يكفي معيشته، ولهذه الأمور أهميتها في حفظ كرامة المفوَّض مادياً ومعنوياً، كما طلب من الشعب أن يعينه، وأنهى التقليد بآية عن التعاون على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان.
وبهذا الأسلوب المنطقي المؤيد بالأدلة من القرآن الكريم والسنة، وبهذا الحديث الإيماني الذي يربط عمل الدنيا بالآخرة، وبحساب الله سبحانه، مع احترامه لكرامة الإنسان يصل الكاتب إلى بغيته، وهي إسناد مهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى عالم جليل ذي مكانة اجتماعية سامية.
وقد جاء هذا كله بأسلوب سهل هيّن لين، وإن كان لا يخلو من السجع والازدواج والتوازن، مما كان يعجب العصر وكتّابه .
ومن تقاليد العهد العثماني ماجاء في تعيين نقيب الأشراف وهو السيد عبد المحسن العجلاني([93]) :
" إلى قدوة الأماجد والسادات الكرام السيد عبد المحسن العجلاني دام شرفه :
غب التحية الوفية ننهي إليكم أنه بسبب عدم رغبة السيد الحاج خليل صديقي بالبقاء في وظيفة نقيب الأشراف على قضاءي دمشق وبعلبك تم إسناد هذه الوظيفة إليكم تقديرا لكم ، واعتمادا على حسن إدارتكم ومعرفتكم طالبين إليكم أداء وظيفتكم هذه بعفة واستقامة ، منزهين عن كل ما يسيء إلى سمعتكم من قبول الرشاوي أو ترك الغير بقبولها ، والعمل على استجلاب الدعوات الخيرية لجلالة السلطان ، واتباع الشرع الحنيف بجميع أعمالكم .
والسلام عليكم .
قيد 16 رجب 1240
المخلص محمد صديق الحسيني
النقيب على الأشراف "([94])
هذا النص جاء بأسلوب وجيز أحكم تارة ولا سيما في ( إسناد هذه الوظيفة إليكم تقديرا لكم ، واعتمادا على حسن إدارتكم ومعرفتكم ) ولان أخرى كما في آخر النص ، وهو أقرب إلى العلم منه إلى الفن فقد أسند العمل إلى العجلاني ، وبرر ترك عمل من سبقه ، وأشار إلى واجب الموظف فيه ، وإلى علاقته بالسلطان ، وختم بتاريخ التعيين .
وبذلك يبدو الفرق بين أسلوبي العهد المملوكي و العثماني في الرسائل الرسمية ، فالأول أكثر تأنقا وزخرفا وإبداعا أيضا ، والثاني أكثر واقعية وأداء للعمل بأقرب طريق ، فضلا عن أنه تخلى عن الألقاب إلا ما ندر ، بينما أكثر منها كتاب العهد المملوكي .
4- التوقيعات :
والتوقيع لغة: التأثير الخفيف، واصطلاحاً اسم لما يكتب في حواشي القصص بخط الخليفة أو الوزير أو كاتب السر([95]).
وكانت توقيعات العصر العباسي عبارات موجزة تشير إلى المطلوب وتسجل في أسفل الرسالة الرسمية، من ذلك توقيع الخليفة أبي جعفر المنصور لعامل ظالم (لا ينال عهدي الظالمون)، وتوقيع المهدي إلى صاحب خراسان (أنا ساهر وأنت نائم)، ولكنها صارت في عصر الدول المتتابعة رسائل ديوانية تصدر عن السلطان أو من ينوب منابه في دواوين الدولة، وتكون لعامة أهل الوظائف جليلها ووضيعها، وبعضهم خصها لغير أرباب السيوف إلا ما ندر والفرق بينها وبين التقاليد أن التقاليد تخص أرباب السيوف، ونواب السلطان والوزراء والقضاة وولاة الحسبة، والتواقيع لعامة الوظائف.
ويكتب التوقيع في آخر القصة المرسلة إلى الديوان أو على ظهرها، "فلْيَعتمِد هذا المرسوم الشريف كلُّ واقف عليه، ويعملْ بحسبه ومقتضاه بعد الخط الشريف أعلاه" ([96]) وهذا يشبه ما عليه الدوائر الرسمية في زماننا إذ يذيّل الطلب الرسمي بعبارة مثل "يعتمد حسب الأصول".
وقد تطول التوقيعات حتى تجاوز عشر صفحات، وقد تقصر حتى لا تتجاوز الواحدة.
وقد تفتتح التوقيعات بحمد الله سبحانه أو بكلمة أما بعد حمد الله، أو بـ (رسم بالأمر الشريف) ([97]) وتختلف أحوال التواقيع التي تكتب لمهام التدريس باختلاف موضوعاتها، إذ يراعى فيها التخصص الذي يقوم بتدريسه من تفسير وفقه وحديث ولغة ([98]) .
ويعد منصب الموقع من المناصب الهامة في الدولة ويسمى أصحابها جماعة الموقعين، وتحتاج إلى مهارة كتابية كبرى لا يستطيعها إلا متمكن من اللغة وصناعة الإنشاء، ولهذا قيل لأحدهم:
يوسف الشاعر من نقصه يروم جهلاً رتبة الفاضل ([99])
تطلّب التوقيع فـي جلّق فجاءه التوقيع في الساحل ([100])
ومن تواقيع العصر ما خطه خليل بن أيبك الصفدي نيابة عن القاضي شهاب الدين بن فضل الله العمري، وفيه تسند مهمة الخطابة إلى جمال الدين يوسف بن سليمان([101]) في المدرسة البدرية، وكانت قد عمرت وجعل فيها مسجد، وكان أول خطبة له فيه في يوم مشهود اجتمع فيه القضاة والعلماء ووجوه الناس والأعيان وخلعت فيه الخلع السنية، وقدمت فيه الأطعمة، ومما جاء في توقيعه له قوله:
"رسم بالأمر العالي،لازال يكسو المنابر جمالاً، ويكسب أقمار الوجوه من الخطباء كمالاً ، أن يرتب المجلس السامي جمالَ الدين في كذا، ثقة ببلاغته التي يرُفُّ على مياهها ريحان القلوب، وفصاحتِه التي يكاد لفظها لمن يذوب يذوب، وبراعته التي إذا قال :أيها الناس" فقد غزا الأسماع بجيش غير مغلوب، وعظاته التي إذا فاه بها بكى الناس ليوسف بأجفان يعقوب، … لأنه في هذا العصر بحمد الله تعالى أفضل من عفّ ومن برّ، وأفصح خطيب، لو كلف مشتاق فوق ما في وسعه لسعى إليه المنبر. فلْيباشر ذلك مباشرة يعقد على فخرها الإجماع، وتُشَنَّف بدرها الأسماع، ويثق من إحسان هذه الدولة ببلوغ مناه، وإزالة عناه، وإزاحة ما يحجب غناه، فطالما خلت وظيفة كان يظنها له ملاذاً، وشغر منصب استسقى منه رذاذاً … وهذه الولاية تقول "يوسف أعرض عن هذا" إلى أن لمع به شهاب تألق، وأغدق وابل جوده الذي فاض وترقرق، فرقاه خطيباً، وهز بلطفه المنبر غصناً رطيباً، وضوَّع أرجاءه بأرجه حتى قيل إنه ضمّخ طيباً، فليُجْر بعظاتها الزاجرة سحب المدامع، ويوقظ البصائر بإرشاده من كل ذي طرف هاجع، ويميل عطف من يسمعه فإنه على غصن منبره بليل حُلّته بلبل ساجع، وليستدرج القلوب الطائرة إلى لقط حب التوبة، ويستخرج خبايا الندم على ما فات، فكم للنفوس من أوبة بعد عظيم الحوبة؛ ويغسل درن الذنوب بذكر الممات، فكم لصخر القساوة به من لين وذَوْبة؛ وإذا وعظ فلا يعظ إلا نفسه التي يمحضها النصيحة، وإذا ذكّر فليذكر في ذلك الجمع انفراده إذا سكن ضريحه، فإن ذلك أوقع في نفس السامع، وأجلب لسحّ الجفن الهامي بالدمع الهامع، وليأخذ لذلك طيبَه العاطر وزينته، ويرقى درج منبره بوقاره الذي لا تزعزع الرياح سكينته، وليبلغ السامعين بإفهام واقتصاد، ويذكرهم بتقوى الله تعالى والموت والمعاد، وليأت بأدب الخطيب على ما يعلمه، ويحذر من تقعير اللفظ الذي يكاد أن يعربه فيعجمه، وتقوى الله تعالى جُنة واقية، وجَنة راقية، وسنة باقية ، فلْيلبس حلة شعارها ويُعلي منازه منارها، والله يلين لمقاله جامد القلوب، ويمنح بعظاته ما سود الصحف من الذنوب.
والخط الكريم أعلاه حجة بمقتضاه، والله الموفق بمنه وكرمه إن شاء الله تعالى" ([102]) .
بدأ هذا التوقيع بقرار التعيين "رسم بالأمر العالي …" ثم جاء الدعاء: لولي الأمر الذي صدر عنه الأمر بجملتين، ثم انتقل إلى ذكر من أُسند إليه ، وأهليته لهذا المنصب ، وتكمن في ثلاثة تهم كل خطيب وواعظ ، وهي الفصاحة ، والقدرة على تحريك القلوب والمشاعرلتتعظ، والخلق الكريم لأن الواعظ قدوة ، وقد تمتع هذا بفصاحة تخلب الأسماع والألباب، وكانت مواعظه تذرف الدموع فضلاً عن خلقه السامي. ثم طلب منه أن يباشر العمل، ثم بين واجب الموظفين تجاه الدولة ، وواجبها تجاههم ، ولذلك فعليهم أن يؤدوا واجباتهم على خير وجه، ثم بين له ما يساعده على أداء هذه المهمة الجليلة حين عرض عليه خطة العمل، وهي وعظ الناس وتذكيرهم بالتوبة إلى الله سبحانه من غير إفراط دفعاً للملل، وبين أن الواعظ حينما ينصح الآخرين يستفيد هو أيضا، لأن من يعظ الناس يعظ نفسه أولاً، ثم بين متطلبات هذه المهنة وهي أن يعنى بزينته وطيبه، وأن يتسم بالوقار، وأن يعرف كيف يفهم من يسمع، كما حذره من التقعر في الألفاظ، وأنهى حديثه بضرورة التقوى.
وبين له أن هذا التوقيع حجة له تلزمه العمل بمقتضاه، والله الموفق بمنه وكرمه إن شاء.
وهذا النص كما نرى صورة للإداري الناجح الذي يتمتع بما يؤهله لمنصبه من صفات مادية ومعنوية ، إذ عليه أن يكون ذا تقوى وفصاحة وخلق رفيع، ومظهر حسن، ووقار، وأن يحسن جذب السامعين، وبذلك جمع كاتبه بين الصفات الجسدية والنفسية والمهنية ، كما بين العلاقة التبادلية بين الدولة وموظفيها ، فهي ترعاهم ، وعليهم أن يؤدوا واجباتهم تجاهها على خير وه .
وجاء هذا الوصف بأسلوب مسجوع فيه مسحة من الجمال الأدبي، فهو على تكلف سجعه أحياناً يؤدي معناه بجمل متناغمة وذلك على نحو قوله: "وتقوى الله جُنة واقية، وجَنة راقية، وسنة باقية، فلْيلبس حلة شعارها، ويعلي منازه منارها، والله يلين لمقاله جامد القلوب، ويمنح بعظاته ما سود الصحف من الذنوب" فقد حوت هذه العبارات ازدواجاً مستساغاً، وتوازناً لطيفاً، وإن كانت العبارتان الأخيرتان قد طالتا نوعاً ما.
كما حوى النص صوراً جميلة كما في : " وأغدق وابل جوده الذي فاض وترقرق" (استعارة مكنية)، "فرقاه خطيباً، وهز بلطفه المنبر غصناً رطيباً، وضوّع أرجاءه بأَرَجِه (استعارة تصريحية) حتى قيل إنه ضمّخ طيباً" (استعارة تصريحية) و"فلْيُجْرِ بعظاتها الزاجرة سثحُب المدامع، ويوقظ البصائر بإرشاده من كل ذي طرفٍ هاجع" (كناية عن تأثيره) ، "فإنه على غصن منبره ... بلبل ساجع ( تشبيه) .
فالخطيب في هذه العبارات غيث متدفق، وطير صادح يجذب بألحانه القلوب، وهو بلبل ساجع وعطر يفوح شذاه، ومواعظه الشجية تذرف فتوقظ القلوب اللاهية وفي هذا التقابل بين الطرف الهاجع والقلب اللاهي، وبين العيون الدامعة جمال وإيضاح للمعنى، و(الضد يظهر حسنه الضد).
وقد وشى التوقيع أيضاً بالاقتباس من القرآن الكريم كما في قوله "وهذه الولاية تقول: )يوسف أعرض عن هذا(" مشيراً به إلى أفضليته على من تقدمه. كما حوى تضميناً لقول الشاعر البحتري أيضاً:
فلوَان مشتاقاً تكلف فوق ما في وسعه لسعى إليك المنبر ([103])
5 - ومن التواقيع ما يسمى بالطرخانيات، وهي رسالة يسمح فيها لفلان من الناس بخدمة السلطان بحيث يقيم حيث يشاء، ويرتحل أنى شاء، وتكتب للأمراء والجنود، أو لمن كبرت سنه وعجز عن المعاش، ليكون له به راتب يصرف له.
وقد جرت العادة أن يسمى ما يكتب فيها مراسيم، ويفتتح بالحمد أو بكلمة أما بعد، ثم: حمداً لله على نعمه، أو بعبارة (رسم بالأمر الشريف).
من ذلك ما أورده القلقشندي من نسخة طرخانية كتبت عن الملك الناصر محمد بن قلاوون يسمح فيها للقاضي قطب الدين بن المكرم بالإقامة في الحجاز، وأن يتقاضى نصف راتبه الذي كان له، يقول فيها كاتبها ولم يذكر اسمه: "رسم بالأمر الشريف، لازال يأمر فيطاع، ويصل فيعين على الانقطاع … أن يستقر للمجلس السامي القضائي فلان بن المكرّم نفع الله به من معلومه … النصف من كل شهر على الأدعية الصالحة لهذه الدولة القاهرة، ويقيم حيث شاء، ثم يستقر ذلك لأولاده من بعده، ثم لأولاد أولاده بالسوية إعانة له على بلوغ قصده ورغائبه … وإكراماً لجانبه، وطالبُ وجه الله تعالى يعان على الفوز بمطلوبه.
وما كنا لنسمح ببعده عن أبوابنا الشريفة، ولا نجيبه لمفارقة ما بيده من وظيفة لأنه ما يُدرِك أحد من أبناء عصره مُدّه ولا نَصِيْفَه، ولديوان إنشائنا جمال بعقود كتابته النظيمة، ومعاني ألفاظه اللطيفة، وإنما لإقباله على الآجلة، وإعراضه عن العاجلة، واستيعاب أوقاته بأداء الفريضة والنافلة أسعفنا سؤاله بالإجابة، وأعنّاه على الإنابة … ومن أحسن سبيلاً ممن أخذ لنفسه قبل الحَيْن، ونفض يديه من الدنيا فراح بالخير مملوء اليدين، فنظر إلى معاده فأقبل على الله قرير العين، وها نحن قد كرمناه في وقت واحد بإنشاء ولدَيْن، فليشكر لصدقاتنا هذه النعم المتزايدة والصلات العائدة، والإحسان إليه وإلى بنيه جملة واحدة وليدع لدولتنا القاهرة حين يقوم لله قانتاً، وحين يقول ناطقاً، وحيث يفكر صامتاً، وعند فطره من صومه، وفي أعقاب الصلوات في ليلته ويومه، وليُوصَّل إلى هذا المرَتَّب مُيسراً لا يكدر مورده بتأخير، ولْيصرف إليه مُهنَّأً لا يشان طوله بتقصير، ولا يُحْوَج إلى عناء وطلب، ولا يلجأ في تناوله إلى كد وتعب، بل يُرفّه خاطره عما فاز به من حسن المنقلب والله تعالى يمده بعونه وفضله، وينجب فرعَه ببركة أصله.
والخط الشريف أعلاه حجة فيه إن شاء الله تعالى" ([104]) .
في هذا المرسوم الطرخاني، جاء التوقيع للقاضي ابن المكرم ليأخذ مبلغا من المال راتب معاش له، مع السماح له بالإقامة حيث يشاء ، وفيه نرى الكاتب يثني على السلطان محمد بن قلاوون لجوده، كما يثني على القاضي الذي كان يلازمه، لفضله على الدولة حين كان يكتب لها، ولتقواه وزهده ورغبته في الآخرة، ولهذا طلب الكاتب من القاضي أن يشكر السلطان على هذا الجود، وأن يدعو للدولة في سره وجهره.
وأنهى المرسوم الطرخاني بلزوم تنفيذ ما فيه، والدعاء لصاحبه أن يعينه المولى لتقواه.
وأسلوب هذه الطرخانية كغيرها من أساليب الرسائل الديوانية، قائم على السجع والتأثر بالقرآن الكريم والسنة الشريفة لفظاً ومعنى، وتضمين الشعر، والإكثار من الترادف والتوازن والأدعية، وهذا كله من سمات أسلوب العصر.
6- ويبدو أن هذه التسميات وأعني بها التوقيعات والتفاويض، والمراسيم والطرخانيات، والإطلاقات وغيرها لم تعد كلها مستعملة في العهد العثماني وإنما سميت باسم الرسائل الرسمية، كما تغير منهجها وصيغتها نوعاً ما عن رسائل العهد المملوكي، إذ لم تعد تستهل بحمد الله وبالدعاء ولا بكلمة أما بعد، وإنما غدا الكاتب يبسمل ثم ينتقل إلى صيغة الإرسال، وينهي الرسالة بالسلام. كما أن الألقاب لم تكثر في هذا العصر ولم يذكر منها إجمالا إلا ما تدعو الحاجة إليه، لكن الاقتباس والتضمين ظلا سمة الرسائل الرسمية، وذلك بسبب الثقافة الدينية المنتشرة في أرجاء الدولة العثمانية.
ومن رسائل هذا العهد واحدة كتبها السلطان سليمان القانوني إلى إمام اليمن المطهَّر بن شرف الدين الحسني، وذكر عبد الملك العصامي أنه نقلها "لحسن تنميقها، وكثرة تحقيقها، ومتانة ألفاظها وإيراقها، ورصانة إرعادها وإبراقها"([105]) كما يقول، وهذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم: هذا مثالنا الشريف السلطاني، وخطابنا المنيف العالي الخاقاني، لا زال نافذاً مطاعاً بالعون الرباني، واليمن الصمداني، أرسلناه إلى الأميري الكبيري، العوني النصيري، الهمامي المُطَهَّري، الشريفي الحسيبي النسبي، فرع الشجرة الزكية، طراز العصابة النبوية العلوية، ونسل السلالة الهاشمية السنية المطهر بن شرف الدين نخصه بسلام أتم، وثناء أعم.
ونبدي لعلمه الكريم أنه لا يزال يتصل بمسامعنا الشريفة إخلاصه لدينا، وقيامه بقلبه وقالبه بمرضاة سلطاننا وانقياده إلى جانبنا، وبمقتضى ذلك حصل شكرنا التام، والثناء العام، على مناصحته ومكاتبته.
ولما برز أمراؤنا الشريفة مسابقين مع وزيرنا المعظم سليمان باشا إلى البلاد الهندية لفتح تلك الجهات السنية، إحياء لسنة الجهاد، وقطع دابر الفساد وأهل العناد. فاستبشر بذلك كل مسلم وصار مسروراً، فوقع قدر الله وكان أمر الله قدرّاً مقدورا.
فرجع وزيرنا المشار إليه فوجد طائفة من اللوند قد تملكوا "زبيد" من المملكة اليمنية، وحصل منهم غاية المشاق بأذى الرعية، وزاد ظلمهم على العباد والبلاد، وعم ضررهم كل حاضر وباد، فتتبع آثارهم وقطع دابرهم، واستنقذ الرعايا من أيديهم وصارت مملكة زبيد من ممالكنا الشريفة، وعاد إلى أعتابنا المنيفة، وأبرز من يديه مكتوبكم ومكتوب والدكم يتضمن الإخلاص لطاعة سلطاننا، وأنهما صارا من أتباعنا، اللائذين بأعتابنا، وبموجب ذلك حصل عندنا لكم زيادة المحبة الصادقة وحسن المودة، وتحققنا ما كان يبلغنا عنه على ألسنة الناس السفار، المترددين على أعتابنا الشريفة من تلك الديار، وبلغنا الآن عنهما خلاف ذلك وتغير ما كاتبنا به في السابق، مثل غير مطابق. وأنه وقع بينهما وبين أمرائنا وعساكر دولتنا بتلك البلاد خُلف كبير، ووقائع عم ضررها المأمور والأمير، وهذا عين الخطأ المحض الذي يترتب عليه ذهاب الروح لمن عقل وفهم )إنَّ اللهَ لا يُغيّرُ ما بِقَومٍ حتَّى يُغَيِّرُوا ما بأنفُسِهم( [الرعد:11]، فالآن مَلِكُنا الشريف السامي قد ملك بعون الله تعالى بساط الأرض شرقاً وغرباً، وصارت سلطنتنا القاهرة كالإبريز المصفى، بعون النبي المصطفى، ورقم سجل سعادتنا بآيات النصر، على أهل العصر، وعلى سائر الملوك بإحياء سنة الجهاد إلى يوم العرض )ذَلكَ فضلُ اللهِ يُؤتِيهِ مَنْ يشاءُ( [الجمعة:4]، )وأمَّا ما يَنفَعُ النَّاسَ فَيمكُثُ في الأرضِ( [الرعد:17]، وعساكرنا المنصورة أينما انخرطت خرطت، وأينما سقطت التقطت، وحيثما سلكت ملكت، وأين حلت فتكت، لا يعجزهم صغير ولا كبير، ولا جليل ولا حقير، ولو شئنا لعينا من عساكرنا المنصورة شرذمة قليلون. نحو مئة ألف أو يزيدون، مشاة وركباناً من البر والبحر، لأمرائنا ولأمرنا ممتثلون، ونقوي عددهم بالاستعداد، ونشدهم بالقوة والآلة والزاد، ونتبع العسكر بالعسكر، ونملأ البر والبحر، ونلحق الجيش بالجيش من كل أسود وأحمر، حتى يتصل أول عساكرنا بآخرهم، وواردهم بصادرهم، ويكون أولهم في البلاد اليمانية، وآخرهم في بلادنا المحمية.
ولا نحتاج نعرفكم بقدرة وتشييد أركان دولتنا وتشديد عزمتنا. فإن الملوك ذوي التيجان، وأصحاب القوة والإمكان، لا يزالون خاضعين لهيبتنا الشريفة قهرا عليهم، مطأطئين رؤوسهم خشية مما يلحق بهم عند المخالفة ويصير إليهم، وذلك مشهور ومعلوم، وظاهر ليس بمكتوم، لكن غلب حلمنا عليه من تعجيل النكاية إليه كونه من سلالة سيد المرسلين، ومن أهل بيت النبوة الطاهرين، ولازم على ناموس سلطتنا الشريفة أن ننبه قبل اتساع الخرق عليه، ونعرفه بما يحل به ويصير إليه، وكونه آوى إلى الجبال يتحصن بها عن الزوال، ويزعم أن ذلك ينجيه فهذا عين المحال، وتدبيره تدميره على كل حال، جهل ذلك أم علم (لا عاصِمَ اليومَ من أمرِ اللهِ إلا مَن رَحِمَ( [هود:43]، )أينَ المفَرُّ كلا لا وَزَر( [القيامة:10،11] ولا لهارب من سلطتنا مفر.
وقد اقتضت أوامرنا الشريفة تعيين افتخار الأمراء الكرام، صاحب العز والاحتشام، المختص بعناية الملك العلام مصطفى باشا، دامت معدلته، ونفدت كلمته باشا على العساكر المنصورة، وصحبته ثلاثة آلاف من الجند المؤيدة بالله مشاة ورماة، حماة كفاة، إعانة لأمير الأمراء الكرام، ذوي القدر والاحترام، المخصوص بمزيد عناية الملك العلام، أزدمر باشا دامت معدلته وحرست نعمته، وعينا من البر ألفي فارس، وهيأنا مثلها بعددها وعليقتها من البحر، فعرض على مسمعنا الشريف مصطفى باشا أن يؤخر تجهيز الجيش المذكور من البحر إلى حين يتوجه إلى تلك الجهات وينظر في الأحوال، وما عليه أهل تلك الأقطار من الحال، وإذا وقع من أحد خلاف، واحتاج إلى الخيول المذكورة فيجهز إلينا لطلبهم فتصل إليه على ما يحب، فأخرنا ذلك إلى حين يعود الجوال بتحقيق الأخبار عن الإمام وولده. فحال وصول مصطفى باشا المشار إليه إلى تلك الديار، واستقراره بتلك الأقطار، ولابد أن تحضر إلى خدمته، ممتثلاً لكلمته، وتقابله بقلب منشرح، وصدر منفسح، وتمشي تحت صناجقنا الشريفة، وتدخل تحت طاعتنا المنيفة، وتكون مع عساكرنا منضما لأوامرنا المذكورة على قلب رجل واحد، غير متقاعس ولا متقاعد. فإن مصطفى باشا المشار إليه، باشا عساكرنا وخليفة أمرنا، وكلامه من كلامنا. وأمره من أمرنا، ونهيه من نهينا، ومن أطاعه فقد أطاعنا ومن خالفه فقد خالفنا، ونعوذ بالله من المخالفة، وعدم الانقياد والمؤالفة، فليتفكر المطهَّر في نفسه، قبل حلول رمسه، وليتنبه من رقدته، ويصحو من غفلته، ويفيق من سكرته. فإن فعل ذلك وانضم إلى سلطنتنا الشريفة، فقد رحم نفسه وصان مهجته ويرى من دولتنا العادلة غاية الرعاية، وبلوغ الأمنية مع الزيادة إلى حد النهاية.
وأنه إذا دخل تحت طاعتنا ومشى على الاستقامة لدينا، وانضم إلى عساكرنا فننعم عليه بأمرنا الشريف بما يستحق به في مملكته مستقلاً به من غير معارض له في ذلك، ولا منازع له فيما هنالك، فحيث فعلت فأنت من الفائزين، لا تخف ولا تحزن، إنك اليوم لدينا مكين أمين، وإن حصل والعياذ بالله مخالفة، واستمر على العناد والمجانفة، وانهمك في الضلال، والمكابرة والخيال، فيصبح ذنبه في رقبته، ويهلك نفسه بيده )وما ظَلمنَاهم ولكن كانوا أنفسهم يَظلِمون( [النحل:118]، ويدخل في قول أصدق القائلين: )يُخرِبُون بُيوتَهم بأيديهم وأيدي المؤمنين( [الحشر:2] ويصير بعد الوجود إلى العدم، ويندم حيث لا ينفعه الندم، وقد حذرنا رأفة به وتحننا عليه، بإصدار هذا الكتاب إليه، فإن خالف أتيناه بجنود لا قبل له بها، وأخرجناه منها ذليلا حقيراً، لا ملجأ له من سلطنتنا إلا إليها التي هي لمن سالمها ظلا ظليلا، وعلى من خالفها عذابا وبيلا([106])، ومثله لايدل على الصواب فليعتمد على ذلك وعلامتنا الشريفة حجة عليه والسلام عليه ([107]) .
دراسة الرسالة:
هذه الرسالة الرسمية صدرت عن السلطان سليمان القانوني إلى حاكم اليمن المطهـَّر بن شرف الدين الذي كان قد أعلن عصيانه على الدولة، واستقل باليمن في الوقت الذي كانت فيه الجيوش العثمانية تفتح أراضي الهند إحياء لسنة الجهاد في سبيل الله، وقطعاً لدابر الفساد كما يقول، وهذا ما دعا السلطان العثماني أن يتخذ معه أسلوبين هما الترغيب والترهيب وهما الأسلوب الذي استخدمه القرآن الكريم في دعوته، ولهذا نراه يلقبه بألقاب كريمة على نحو "الأميري الكبيري، العوني، النصيري، فرع الشجرة الزكية، وطراز العصابة النبوية العلوية، ثم يذكّره بطاعته له فيما سلف، ويبين له أن الدولة تكرمه وتمهله وترحمه لأنه ينتسب إلى الرسول r، كما يعده بمنصب كبير إن أعلن الطاعة.
لكنه في الطرف الآخر نراه يهدد – بوصفه السلطان – بقدرة الدولة العثمانية فهي واسعة الأرجاء، وبمكنتها أن تقدم جيوشاً لا حصر لها، أولها في اليمن، وآخرها في مركز الدولة، وهذه الجيوش وقوادها تحت إمرته، وتستطيع الدولة أن تقضي على ثورته عاجلاً ، وقبل أن يتسع الخرق إن لم يتوقف عن شغبه، ويعلن طاعته بالمجيء إلى الوالي العثماني المرسل من قبل السلطان، وسيكون جزاؤه حينذاك القتل، ليس ظلماً له، وإنما لأته يستحق ذلك، فهو ممن "يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين" وعليه أن يتعظ ويرتدع، ولا ملجأ له في سلطانه إلا إليه، فإن سالمها كانت له ظلاً ظليلاً، وإلا فالعذاب الوبيل لمن خالف وعصى.
وهذه الرسالة تضم بين ثناياها جوانب متعددة، أهمها الحديث عن قوة الدولة العسكرية وكثرة جيوشها، وقياداتها المطيعة، وهي جيوش تستخدم للجهاد في سبيل الله، وفتح بلدان الكفر، وقمع ثورات المناوئين المعارضين.
وقد تميز أسلوبها بكثير من السمات التي كنا نراها في العصر المملوكي:
1- وجود الألقاب، وإن كانت قد خفت حدتها بالإقلال منها إلى حد كبير. ولعل السبب في تعداد ألقاب الثائر هو محاولة استمالة قلبه ليعود إلى رشده قبل استفحال أمره.
2- كثرة الاقتباس من القرآن الكريم مشاراً إليه أو ضمن الحديث كما في "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم".
3- إشارة إلى المثل العربي "اتسع الخرق على الراقع" المقتبس من قول الشاعر
لا نسب اليوم ولا خلة اتسع الخرق على الراقع([108])
4- تراوح أسلوبها بين القوة والضعف، فعلى الرغم من أن العاصي اختار هذه الرسالة لكتابه لحسن تنميقها ومتانة ألفاظها فإن أسلوبها عامة يتأرجح بين القوة والضعف، فهو مثلاً يوازن في عباراته، ويطابق بين ألفاظه ليكسبها نغمة محببة ويوضح بها فكره في مثل (وعساكرنا المنصورة أينما انخرطت خرطت، وأينما سقطت لقطت، وحيثما سلكت ملكت، وأينما حلت فتكت، لا يعجزهم صغير ولا كبير، ولا جليل ولا حقير" ولكن في هذه الموسيقى تكلف وفيها ثقل على الأذن، وإن كان الكاتب قد وفق في العبارتين الأخيرتين.
وفي قوله" وحصل منهم غاية المشاق بأذى الرعية، وزاد ظلمهم على العباد والبلاد، وعمَّ ضررهم كل حاضر وباد، فتتبع آثارهم، وقطع دابرهم، واستنقذ الرعايا من أيديهم وصارت مملكة زبيد من ممالكنا الشريفة، وعاد إلى أعتابنا المنيفة، وأبرز من يديه مكتوبكم ومكتوب والدكم يتضمن الإخلاص لطاعة سلطاننا، وأنهما صارا من أتباعنا، اللائذين بأعتابنا" في هذا القول نراه يتأرجح بين القوة والضعف، فقد حقق نغمة عذبة في الازدواج والسجع في : فتتبع آثارهم، وقطع دابرهم، واستنقذ الرعايا من أيديهم" لكنه ضعف في "وأبرز من يديه مكتوبكم ومكتوب والدكم".
لكن أسلوب الرسالة بدا محكماً في قوله عن مصطفى باشا "وأمره من أمرنا، ونهيه من نهنينا، ومن أطاعه فقد أطاعنا، ومن خالفه فقد خالفنا، ونعوذ بالله من المخالفة وعدم الانقياد والمؤالفة، فليتفكر المطهر في نفسه قبل حلول رمسه، وليتنبه من رقدته، ويصحو من غفلته، ويفيق من سكرته، فإن فعل ذلك وانضم إلى سلطنتنا الشريفة فقد رحم نفسه وصان مهجته، ويرى في دولتنا العادلة غاية الرعاية وبلوغ الأمنية".
ولعل مثل هذا الأسلوب الذي أحكمت فيه العبارة وسلسلت، وتوفر لها جرس موسيقي متوائم بالتوازن والسجع هو الذي دعا العصامي أن يشيد بالنص وينقله، ويجعله نموذجا لرسائل العصر التي سطرت في أرض غير عربية غالباً في أرض غير عربية، وقد ورد فيها ألفاظ أعجمية كانت معهودة في المجتمع العربي مثل خاقان، وباشا، وهناك خطأ في ظل ظليل وقد اشرت إليه في الهامش .
أما الرسائل العربية التي يسطرها عرب وفي أرض عربية فإن أسلوبها إجمالاً يبدو أقوى ، من ذلك رسالة خطها الشاعر عبد الجليل الطباطبائي([109]) إلى الأمير تركي بن عبد الله آل سعود في 1248 جواباً على كتاب ورد إليه منه وهي :
إن أَطْرَبَ ما أسفرت به وجوه الصحائف، وأطيب ما شنفت به الأسماع من لطائف الطرائف – بعد حمد الله الذي توالت آلاؤه، وجل سلطانه وكبرياؤه، والصلاة والسلام على أحسنِ العالمين خُلقُاً وخَلْقا، وأفصحِهم براعة ونطقاً، نبيّنا محمدٍ المبعوثِ رحمة لجميع الأمم، الماحي ظَلال([110]) الضلال بآيتي السيف والقلم – سلامٌ نظمت فرائدَ عقوده يد الإخلاص، وأوثقت عرا عقود عهوده ألسن الاختصاص. وثناءٌ يعطر أريج عبيره محافل الأمجاد، وتتحلى بمفصلات قلائد يواقيته الأجياد، من كل حاضر وباد إلى حضرة من بزغت شموسُ سعودِه فأضاءت الآفاق، واستمرت نجوم حسودِه ملازمةَ المحاق. الإمامِ الذي جادت غوادي أياديه بوابل معروفه؛ فأزهرت رياض محبيه بأنواع إحسانه وصنوفه. وأرهف شبا عزَماته، فانفصمت عُرامكايد عداتِه. والهمامِ الذي أعد لكل أمر هو رائمه أناة، فإن لم تُغْنِ عقَّبَ بعدها وعيدا، فإن لم يُغْنِ أغنتْ عزائمه. نَشَرَ جناحَ الرفق على أرجاء البسيطة، فغدَتْ مودتُه بدوائر القلوب محيطة. وقبض جماح الاعتساف ببسطه العدل والمنن، وطوى بنشره الصفح بواعث الجرائر والإحَن. ذي الآراء التي تفتح مغلفات الأمور، ويستضيء بها من فوادح الخطوب كل ريجور، وتنصلح بتوفيق الله تعالى شئون الجمهور :
أحرزتَ بالهمة العلياء منفردا
ما يعجز الجَحْفَلُ الجرّار مجتمعا
ونلت بالحزم ما لم يجرِ في خَلَدٍ
وأن يمد إليه طالبٌ طمعا
وأتعبُ الناسِ من جَلَّت مطالبه
وجهدُه قاصرٌ عن درْك ما اتَّبعا
صبرْتَ محتسباً تحت المكاره لا
مِنْ مُسْعِدٍ مُنجِد إن تدعُه سمعا
في قفرة ليس فيها للطريد حِمى
ولم تجدْ موئلاً مهما تكن فزعا
ولست تصحب إلا صارماً ذكرا
يجري الفِرَنْدُ به كالماء إن نبعا
لم يثنِك الهول عما رُمْتَ غايته
ولم تكن في الذي كابدْتَه جزعا
حتى امتطيت ذرى العلياء لا أشِرا
ولا فخوراً ولا مستكبراً قذعا
ومن أناط الرجا بالله عن ثقة
وصدق عزم، يُنِلْه ما إليه سعى
فأصبحت وأنت الذي أعاد به الله ما عفا من معالم الدين، ولمَّ به بعد الشتات شَعْث المسلمين. وجبر به قلوباً أناخ عليها بكلكله الانكسار واكتست به أعطاف حبرات العز بعد أسمال الصَّغار، وأنست به ديار بعد طول وحشة الانتقال عنها من دار إلى دار جناب من ثبت الله دعائم الإسلام بنافع وجوده، وأشرق في الآفاق طوالع سعوده، وأناله من الخيرات غاية سؤله ومقصوده، وأعلى منار وليه وأخبى نجم حسوده، آمين
وبعده فالداعي لتحرير نميقة الوداد، ووشم وجنة طرسها بمسك المداد. هو أن في أسعد قران وأيمن الأوقات، ورد المثال الشريف مقرونة به المسرات. لكونه مفصحا عن صحة تلك الذات العلية الهمم، التي هي منبع الإفضال والكرم، ومطالع بدور محاسن الشيم. فكان أجلَّ وارد حظي المخلص منه بالإنعام، وقابله بما يليق به من الإجلال والإعظام، وحَمَدنا الله الذي لا إله سواه، على ما من به من فضله الذي طاب حلاه وجاد به جماع الأمر. وأحسن انتظامه. وجميع ما تضمنه من عجائب الأخبار، قد قرط أسماع أهل هذه الدار، لا سيما ما وقع في مكة المشرفة وسائر الحرم، من ارتكاب المحرمات وانتهاك الحُرم.
وصدور ذلك من أولئك الطغام، الذين هم أهدى إلى الغواية من القطا، وعن الاستقامة أضل من الأنعام، حيث حسبوا ما صنعوه من العجرفة غنم، ولم يحجزهم وعيد )ومن يرد فيه بإلحاد بظلم( فصيروا رعب القاطن وانتهابه، عوض الأمن والمنابة، أما علموا أن البيت قبلة الأحياء والأموات، وأن الحرم تتضاعف فيه السيئات مضاعفة الحسنات، وأن الملحدين فيه يمسخون بالقلوب والأديان والهيئات. وذلك أشد من مسخ صورتي أساف ونائلة، وأين الفلاح لفرقة عن الحق عادلة. وقد كان لها في بناء فسطاط ابن عمر، أوضح اعتبار للحرمة ومزدجر. ولكن من أعمى الله منه عين البصيرة، أتبع الجريرة بالجريرة، ولا يرى الحق ولو كان كشمس الظهيرة. أعاذنا الله وإياكم من محبطات العمل، ونور بصائرنا عند ظلمات الزلل.
وما أشار إليه الجناب السامي من استيلاء إبراهيم على قطر الشام، فغير بعيد روعة الرعية إذا كان الراعي ينام. ولا تفيد شدة العزم، بعد إضاعة الحزم. ولا يؤثر إدراك الفهم، بعد الغفلة عن مروق السهم، ولم يثن أبا مسلم عن عظيم المرام، قول نصر "أأيقاظ أمية أم نيام" حيث ظنت بروقه خلبا وسحُبه جَهامٌ، ولم تحتفل بما أعده الخراساني من مزيد الاهتمام. ولم يرُعْها إلا والسيل قد طم على القرى، وبلغ الزُّبا، وجاوز الحِزام الطبْيَيْنِ، فراحوا من الملك بخفي حنين. وقد تحقق وصول حمل من حلب إلى بغداد وحمل من الشام، وذلك أوضح دليل على نظام الأمر في سلك الانتظام.
وورد إلي كتاب من محمد بن أحمد الصميط في 22 من جمادى الأولى، ومضمون خبره الذي عليه عول أن إبراهيم توجه من حلب بعسكره الجرار إلى ناحية إسلامبول طامعاً في تلك الديار، وآخر العهد به انتهى دونها باثني عشر يوما، وأن السلطان أعد له من العساكر ما يندفع به اللوم. وأن الموسقوف أمدوه حتى رضى بهم بما أعدوه، فإن صح ذلك فالقياس يقتضي أن السلطان متهم قومه بالخيانة، وإلا فلم يعلم لإبراهيم من القوة ما يبلغ بها هذه المكانة. ولا حيلة حيث يتسع الخرق على الراقع، ولا دفاعَ إذا وهَن المُدافِع. وسعادة طالع المرء تؤذن بوفور قسمه، والله يحكم لا معقب لحكمه، والملك لله الواحد القهار، يتصرف فيه كيف يشاء ويختار. وعلى فرض صحته فإن الغالب مغلوب إذا فقد ناصرَه، وحيل بين بجيلة وناضره
إذا لم يكن عون من الله للفتى
فأول ما يجنى عليه اجتهاده
وإذا أمعن المتأمل النظر في كل فج، عاين فيه ترادف الهرج والمرج، هذا أولاد شاه العجم قد انشقت عصاهم، والشر فيهم نجَم، وطمع قويهم بضعف أخيه، وحاول في قصر يده وأخذ مقره الذي يؤويه. وهذا تركي يلمز بنصرة عسير، قد صار استيلاؤهم على بعض بنادر اليمن غير عسير. وهكذا كل ناحية إسلامية وكافرة، تجد أسباب الاضطراب فيها متوافرة. ولا شك أن ذلك من أشراط الساعة لقربها، نجانا الله وإياكم من هولها وكربها. فالحازم من أخذ أهبة السفر، وعرف ظل المقيل قبل المقر. قال امرؤ القيس حيث وعى:
دمِّث لنفسك قبل النوم مضطجعا
وأراني أطلت لسان الهذر على تلك المسامع الشريفة، وطغى جواد يراعي بجريه في مضمار هذه الصحيفة، وثوقاً مني بما أنت مجبول عليه من كرم الأخلاق، واعتداداً بما أنت صادر إليه من كرم الأخلاق، وشرف الأعراف. فإن لوحظ هذري بعين الرضا، قيل إن المقام اقتضى([111]) .
دراسة الرسالة :
يشيد الكاتب عبد الجليل الطباطبائي بهمة الأمير تركي بن عبد الله الذي تمكن من إعادة المجد السعودي والدولة الوهابية بعد أن قضى عليها إبراهيم باشا بن محمد علي باشا، ولهذا نراه يثني عليه ويشيد بعزيمته نثراً وشعراً فهو (الهمام الذي أعد لكل أمر رائمه أناة، فإن لم تغن عقب بعدها وعيداً، فإن لم يغن أغنت عزائمه) وهو يستعمل الأناة مع العدو، ثم الشدة حين لا تنفع إلا الشدة، وقد نال بهمته وحزمه، وصبره على المكاره، وسيره في الفيافي إبان هربه من مصر ليعيد الأمجاد السعودية، يقول له:
ونلْتَ بالحزم ما لم يجْرِ في خَلَد
وأم يمدَّ إليه طالبٌ طمعا
صبرتَ محتسباً تحت المكاره لا
من مُسْعدٍ مُنجِد إن تدعُه سمِعا
في قفرةٍ ليس فيها للطريد حِمًى
ولم تجد موئلاً مهما تكن فزِعا
حتى امتطيْتَ ذُرا العلياء لا أشِراً
ولا فخوراً ولا مستكبراً قذعا
ثم أشار إلى ما ارتُكِب في مكة وسائر الحرم من جرائر في عهد أشراف الحجاز، وتوعد مرتكبي هذه الجرائم بوعيدٍ من عند الله سبحانه، وذكر حوادث تاريخية سالفة مسخ فيها بشر بفظائع ارتكبوها، ثم ذكر هجوم إبراهيم باشا على حلب لغفلة الراعي العثماني وخيانة إبراهيم باشا مع الموسقوف "الروس" وذكر أن هذا الهرج والمرج بالحروب الكثيرة في مصر والشام واليمن من علامات الساعة، واستعاذ من أهوالها، ثم اعتذر عن طول حديثه لأن المقام قد اقتضى هذا، وهو يعتمد على حسن خلق الأمير الممدوح.
ولم يسر الكاتب في رسالته الرسمية هذه على غرار ما عرف من نهج الرسائل لأنه لم يبدأ بالحمدلة ولا بالصلاة على الرسول r، وإنما بجملة اسمية أطال فيها المضاف إلى الاسم بالعطف عليه، وجاء بأوصاف متعددة ثم جاء الخبر بعد حين وهو كلمة (سلام).
ومزج الكاتب الشعر بالنثر بقصيدة مدحية من تسعة أبيات، ثم كان ثناء نثري ثم جاءت كلمة (بعد) التي كانت ترد عادة بعد الحمدلة والبسملة. ثم تناثر الشعر بعد ذلك هنا وهناك.
ولم يختم الرسالة بما عهد فيها من سلام ودعاء، وإنما اعتذر عن الإطالة، وربطه بالمديح حين ذكر سعة صدر ممدوحه.
وجاء بالفعل المبني للمجهول، وبالتفات من المخاطب إلى الغائب مشيراً إلى الأدب في التعامل مع المسؤولين وذلك في قوله: "فإن لوحظ هذري بعين الرضا قيل إن المقام اقتضى" وقد أكثر من الصنعة والسجع في قوله: "وجميع ما تضمنه من عجائب الأخبار قد قرط أسماع أهل هذه الدار، لاسيما ما وقع في مكة المشرفة وسائر الحرم من ارتكاب المحرمات، وانتهاك الحرم".
وبعض السجع كان موفقاً كما في "ولكن من أعمى الله منه عين البصيرة أتبع الجريرة بالجريرة، ولا يرى الحق ولو كان كشمس الظهيرة" .
وفي الرسالة اقتباس من القرآن الكريم وإشارة إلى حديث الرسول r في مضاعفة الحسنات والسيئات في المسجد الحرام، كما أن فيها إشارة إلى المثل العربي بقوله: "لا حيلة حين يتسع الخرق على الراقع" اقتبسه من قول الشاعر :
لا نسب اليوم ولا خلة
" اتسع الخرق على الراقع "
كما ضمن المثل " جاوز الحزام الطبيين" وأشار إلى آخر بقوله: "فراحوا من الملك بخفي حنين" وهو مأخوذ من المثل المعروف "رجع بخفي حنين".
وفي الرسالة استشهاد بحوادث تاريخية قديمة ومعاصرة كالحديث عن مسخ أساف ونائلة، وبناء فسطاط ابن عمر، وغفلة الراعي "السلطان" عن رعيته والإشارة إلى بني أمية الذين لم يستجيبوا لتحذير نصر بن سيار فأسقط الخراساني دولتهم.
وفي الرسالة لهجات محلية بقلب الضاد ظاء مثل (ظلال الضُلاّل) ولكن هذا لم يطرد في الرسائل كلها، وهناك تخفيف همزة في "مكايد" .
وأسلوب الطباطبائي تصويري، فالصحائف وجوه تسفر عن سلام (استعارة مكنية تشخيصية) والأمجاد يعطر ثناؤها المحافل، والأمير تركي بزغت شموس سعوده فأضاءت الآفاق، ومحقت نجوم حساده (استعارتان) وأياديه تجود بوابل معروفِه، وقد انفصمت عرا مكايد أعدائه "كناية عن بطلان كيدهم" وآراؤه تفتِّح مغلفات الأمور "تجسيم" وقد جبر الله بالأمير قلوباً منكسرة "كناية عن الضعفاء"وطغام الناس أهدى من القطا إلى الغواية "مقتبس من المثل "أهدى من قطاة" وهم أضل من الأنعام تشبيه مأخوذ من الآية الكريمة )أولئك كالأنعام بل هم أضل( ، وهو يعبر عن خطر أبي مسلم الخراساني عن طريق التصوير أيضاً، فهم ظنوا (بروقه خلباً) مع أن (سحبه جهام)، وهو يكني بها عن الخطر الشديد غير المتوقع، ويكني عن الخطر بـ (السيل قد طم على القرى وبلغ الزبى) وعن كثرة الفتن (بالهرج والمرج) وهي صورة مقتبسة من حديث الرسول r عن علامات الساعة … إضافة إلى صور أخرى كثيرة لا حاجة للحديث عنها جميعها.
سمات الرسائل الديوانية:
على تعدد أنواعها فإن الفارق بين كل نوع وآخر لا يكاد يذكر، إلا في كثرة الألقاب وعددها، فهي في مجملها تبدأ بالحمد والثناء على الله سبحانه، وقد تضيف ثناء على الرسول صلى اله عليه وسلم ، وتثني على المرسِل والمرسَل إليه كائناً من كان حتى إنها لتذكرنا بقصائد المديح ، وتوصف المهمة وقابلية صاحبها لها، ويكلف المرسَل إليه بالمهمة، وتبين له متطلباتها، ويحث على أداء واجبه، وتنتهي الرسالة بالدعاء، أو بآية قرآنية ويؤرخ زمن كتابتها، وهذا النهج هو النهج التقليدي للخطبة والرسالة في الأعصر السابقة.
ولهذه الرسائل أهميتها الكبرى من حيث:
1- تعد مصدراً هاماً لمن أراد أن يدرس المدائح النثرية ويطلع على القيم الرفيعة التي يجب أن يتحلى بها المسؤولون أويمدحون بها سواء أكانت رسائل للتهنئة أو التعزية أو كانت تقاليد وسواها، فهي جميعاً ملئت بالثناء على المرسل إليه، وتبيان الصفات التي يجب أن يتحلى بها الإداري الناجح والحاكم والولاة في الدولة.
2- وفي المجال الثقافي والأدبي: نرى أنها حفظت لنا كثيراً من النصوص الأدبية ذات الأساليب البليغة والصور الرائقة، التي عني بها أصحابها ليقدموها على أحسن وجه، كما بينت لنا ثقافات العصر وسمات علمائه.
3- كشفت عن الأوضاع السياسية والعسكرية في ذلك الوقت، إذ تحدثت عن علاقات الدول بعضها مع بعض، سواء أكانت من المسلمين أم من غيرهم، وتآزر الأصقاع الإسلامية ضد أعدائهم ولاسيما الصليبيين، وعهود الصلح والهدنة ووسائل الحرب وطرقها في ذلك العهد، والمناصب الرسمية وأنواعها العديدة، والثورات والفتن وتحالف بعض المناطق مع الأعداء.
4- كما أوضحت أطرافاً من الحياة الاجتماعية كأساليب تعيين الموظفين والرتب التي يحوزونها، وإعالة الدولة لمن لم يعد قادراً على العمل بما يشابه المعاش التقاعدي اليوم.
5- كشفت عن الروح الدينية في العصر ولاسيما ما يتعلق منها بنشر الإسلام والجهاد لإعلاء كلمة الله سبحانه.
6- تكثر فيها الصنعة البديعية، وفي بعضها تكلف ظاهر، ولكنها إجمالاً لا تخلو من جمال
7 - رسائل العصر العثماني قللت من الألقاب وكان أسلوبها يقوى إن سطرت بأيد عربية ويضعف نوعاً ما في الرسائل التي خطها أتراك تعلموا العربية . ولم تلتزم جميعها بالنهج المملوكي إذ تخلى بعضها عن الحمدلة والبسملة في مستهلها وعن الدعاء والسلام في ختامها.
8- رسائل المناطق التي اتصلت بالغرب ركيكة الأسلوب، لإهمال أبنائها اللغة العربية، كما في لبنان والمغرب كرسالة الأمير بشير الشهابي التي أرسها سنة (1238هـ/1822م) إلى أمراء في البقاع يخبرهم فيها بقدومه إلى عكا، ومما جاء فيها:
"صدر مرسومنا المطاع، الواجب القبول والاتباع إعلام إلى أمراء ومقدمين ومشايخ، ومشايخ عقل وعقال، وأرباب التكلم…. إنه من حمد الله وتوفيقه حضر لهذا الطرف جناب ولدنا سليمان آغا سلحدار سعادة الدستور الوقور الأكرم، والمشير الخطير المفخم، ذو القدر والاحترام، والعز والاحتشام، ولدنا الأمير بشير الشهابي زيد مجده، وعن يدهم أوامر سلطانية، ومناشير خاقانية، يتضمن فحواها الشريف السامي بما فاضت به أبحار القريحة الصحيحة الملوكية….. " ([112]) .
فهنا نرى الكاتب يتأسى خطا أسلافه في تصنعه للسجع، وذكره ألفاظ التفخيم والتعظيم، وإيراده لكلمات أعجمية ،فضلا عن ركاكة واضحة في الأسلوب .
9- امتزج الشعر بالنثر، وكان الشعر في بعضها قصيدة كاملة.
[1]) ) محمد بن مكرم بن علي جمال الدين بن منظور (ت711هـ) إمام لغوي من مصر ، وهو مؤلف معجم لسان العرب ، كان يعمل في ديوان الإنشاء في القاهرة ، له حوالي خمسمئة مجلد ، وكان مغرى باختصار كتب الأدب ، وله شعر رقيق : الأعلام 7/108 .
([2] ) أحمد بن عبد الوهاب النويري (ت 733) عالم مصري خدم في مناصب ديوانية ، له نثر جيد ونظم يسير وكتابه نهاية الأرب أشبه بدائرة معارف لما توصل إليه العلم عند العرب ، توفي في القاهرة : الأعلام 1/165 .
([3] ) أحمد بن يحيى شهاب الدين العمري (700-749هـ) المعروف بابن فضل الله العمري ، عالم من دمشق، ومؤرخ حجة في معرفة الأقاليم والبلدان ، وإمام في الترسل والإنشاء ، غزير المعرفة بالتاريخ ، وله شعر رقيق : الأعلام 1/268
([4] يوسف بن تغري بردي ( 813-874هـ) عالم القاهرة برع في التأريخ والفروسية والإيقاع ، وله مؤلفات كثيرة : الأعلام 8/222.
([5] ) أحمد بن علي الفزاري القلقشندي (756-821هـ) مصري له مؤلفات كثيرة في الأدب والتاريخ : الأعلام 1/177هـ .
([6] ) أحمد بن القاسم بن خليفة الخزرجي المعروف بابن أبي أصيبعة (ت 668هـ) عالم من دمشق له مؤلفات طبية ، وشعر كثير : الأعلام 1/197
([7] ) أحمد بن محمد المعروف بابن خلكان ( 608-681هـ) مؤرخ وأديب من العراق كان قاضيا في دمشق مبها توفي : الأعلام 1/220 .
([8] ) خليل بن أيبك الصفدي (696-764هـ) مؤرخ وأديب من صفد في فلسطين ، تولى ديوان الإنشاء في صفد ومصر وحلب ، وتوفي بدمشق ، له زهاء مئتي كتاب منها الوافي بالوفيات ودمعة الباكي ، وله شعر فيه رقة وصنعة : الأعلام 2/315
([9] ) محمد بن أحمد شمس الدين الذهبي الحافظ (748هـ) تركماني أصله من ميافارقين ، ولد وتوفي في دمشق ،وهو علامة محقق،له مؤلفات كثيرة تقارب المئة منها تاريخ الإسلام في (36 مجلدا) ، وسير أعلام النبلاء والطب النبوي : الأعلام 5/326
([10] ) محمد بن علي الشوكاني (1173-1250هـ) فقيه من كبار علماء اليمن ، ولي قضاء صنعاء ومات حاكما بها ، له 114 كتابا منها الدرر البهية في المسائل الفقهية والبدر الطالع : الأعلام 6/298.
([11] ) عبد الرحمن بن أبي بكر جلال الدين السيوطي (849-911هـ) إمام حافظ ومؤرخ وأديب ، له حوالي ستمئة مؤلف ، ومن كتبه الأشباه والنظائر في العربية، والأشباه والنظائر في فروع الشافعية ، وألفية في النحو اسمها الفريدة، وله شر ح عليها ، وتفسير الجلالين : الأعلام 3/301.
([12] ) علي بن موسى المغربي المعروف بابن سعيد الأندلسي (610-685هـ) ، له مؤلفات منها المغرب في حلى المغرب وديوان شعر : الأعلام 5/26 .
([13] ) محمد بن علي السَّبْتي (ت 733هـ) عالم بالأدب من الأندلس ، له عدة مؤلفات ، وله نظم وليس بشاعر ، الأعلام 6/282.
([14] ) أحمد بن علي شهاب الدين المعروف بابن حجر العسقلاني (773-852 هـ) عالم من فلسطين، ولد في القاهرة، له كتب في الفقه والحديث الشريف والتاريخ ، وله ديوان شعر : الأعلام 1/178.
([15] ) لسان الدين بن الخطيب ( ت 776هـ) ، ولد ونشأ في غرناطة وكان وزيرا فيها ، وهو مؤرخ وأديب ، لقب بذي الرياستين السيف والقلم ، قتل في السجن بعد أن وجهت إليه تهمة الزندقة: الأعلام 6/235.
([16] ) محمد بن عبد الرحمن شمس الدين السخاوي (831-892هـ) فقيه حافظ ومؤرخ : الضوء اللامع 1/2
([17] ) عبد القادر العَيْدروس ( 978-1038هـ) ، مؤرخ يمني توفي في الهند ، له مؤلفات كثيرة : الأعلام 4/39.
([18] ) محمد بن أبي بكر جمال الدين الشلي الحضرمي (1030-1093هـ) مؤرخ فلكي رياضي ، ولد في تريم في حضرموت ، وتوفي في مكة ، له مؤلفات في التراجم وعلم الفلك : الأعلام 6/59.
([19] ) محمد بن محمد نجم الدين الغزي ( ت1061هـ) عالم ومؤرخ وأديب من دمشق ، له مؤلفات عديدة : الأعلام 7/ 63
([20] ) محمد الأمين بن فضل الله المحبي ( ت1111هـ) عالم ومؤرخ وأديب ، له ديوان شعر ، وله مؤلفات عديدة منها نفحة الريحانة ، وذيل النفحة : سلك الدرر 4/86.
([21] ) محمد خليل بن علي المرادي ( ت 1206هـ) شاعر وعالم من دمشق ينظر له في مقدمة كتابه سلك الدرر .
([22] ) علي بن نعمان علاء الدين الألوسي (ت 1340هـ ) قاض من بغداد له ديوان شعر ورسائل كثيرة .الأعلام 5/29 .
([23] ) عبد الرزاق البيطار (ت1335هـ) شاعر وعالم من دمشق : تاريخ علماء دمشق في القرن الرابع عشر الهجري 1/341.
([24] ) أحمد بن أحمد الغبريني (ت704هـ) مؤرخ وعالم من بجاية في الجزائر : الأعلام 1/90 .
([25] ) محمد عبد الرؤوف المناوي (ت1031هـ) عالم من القاهرة له حوالي ثمانين مؤلفا منها الكواكب الدرية في التراجم الصوفية ، وتاريخ الخلفاء : الأعلام 6/204.
([26] ) محمد بن يعقوب الفيروزآبادي (729-817هـ) ولد بكارزين بفارس ، قاض حافظ ، تنقل في البلدان من أجل العلم ، : مقدمة القاموس المحيط 1/3 .
([27] ) محمد بن محمد المعروف بمرتضى الزبيدي (1145-1205هـ) علامة باللغة والحديث ، ولد في الهند ، ونشأ في اليمن ، وتوفي في القاهرة ، ، له مؤلفات متعددة منها مختصر العين ، وتاج العروس ، والتكملة والصلة والذيل للقاموس : الأعلام 7/70 .
([28] ) عبد الله بن محمد حجازي قضيب البان ( ت 1096هـ) شاعر من حلب كان نقيب الأشراف ، خلاصة الأثر 3/70 .
([29] ) محمد بن الحسن الكواكبي ( ت 1096هـ) شاعر من حلب له مؤلفات فقهية في المذهب الحنفي : الأعلام 3/437 .
([30] ) محمد بن أحمد شمس الدين بن الملا الحصكفي ( 967-1010هـ) عالم وشاعر من حلب له كتب في الحديث الشريف : الأعلام 6/8 .
([31] ) فتح الله بن محمود البيلوني (977- 1042هـ) شاعر من حلب كثير التآليف : ريحانة الألبا 1/203 .
([32] ) محيي الدين بن عربي (560-638هـ) شاعر متصوف أصله من الأندلس درس الفلسفة اليونانية والديانات النصرانية واليهودية والهندوسية والطاوية ومزج بينها وبين الإسلام مزجا إلحاديا ، له مؤلفات متعددة في التصوف منها الفتوحات المكية : الموسوعة العربية الميسرة /359
([33] ) أبو الوفاء بن عمر العرضي ( 993-1071هـ) شاعر من حلب أكثر شعره في التصوف والإخوانيات ، له معادن الذهب في الأعيان المشرفة بهم حلب ، وينظر لترجمته في مقدمته ص 27 .
([34] )إبراهيم بن أحمد بن الملا الحصكفي (ت1032هـ) شاعر من حلب ،له أرجوزة في عشرة آلاف بيت : إعلام النبلاء /1/235 .
([35] ) محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي المعروف بابن بطوطة (ت779هـ) فقيه من المغرب ، ورحالة شهر برحلته المشار إليها ،والتي ترجمت إلى لغات متعددة : الأعلام 6/ 235 .
([36] ) أحمد بن ماجد السعدي (837- 904هـ) شاعر من جلفار ( وهي إمارة رأس الخيمة في دولة الإمارات العربية المتحدة حاليا )، ملاح كان يلقب بأسد البحر الهائج ، وله أراجيز في علم الملاحة والبحار : الأعلام 1/200 .
([37] ) عبد الغني النابلسي (1050-1143هـ) شاعر متصوف من دمشق له مؤلفات كثيرة في التصوف ، وثلاث رحلات : سلك الدرر 3/30 ، والموسوعة الصوفية /389 .
([38] ) إبراهيم الخياري (ت1083هـ) شاعر أصله من مصر وسكن المدينة المنورة ، وبها توفي ك الأعلام 1/46 .
([39] ) عبد الله السويدي (1104-1174هـ) عالم من العراق كتب رحلته يحكي فيها رحلته إلى الحج ، وترجم لنفسه فيها ص 5-19 .
([40] ) يوسف البديعي (ت1073هـ) شاعر من دمشق تولى قضاء الموصل ، له مؤلفات كثيرة منها تراجم الأعيان : علماء دمشق وأعيانها في القرن الحادي عشر الهجري 2/269 .
([41] ) صلاح الدين الكوراني (ت1049هـ) شاعر من حلب له شعر مطبوع ومؤلفات متعددة : تراجم الأعيان 2/243 .
([42]) ابن نباتة شاعر العصر المملوكي /131 .
([43]) القاسم بن علي بن محمد الحريري (446-516هـ) كاتب من العصر العباسي ، كان شديد الذكاء، له شعر ومقامات ورسائل ومؤلفات ، وترجمت مقاماته إلى اللاتينية والإنكليزية والألمانية : الأعلام 5/177
([44]) يحيى بن سلامة الحصكفي (460-551هـ) من حصن كيفا ، مفتي وخطيب ميافارقين، استن بطريقة المعري في تعقيد آثاره، وبذّ الحريري بقوة سجعه ، له قصيدة تحوي على الكلمات التي تقرأ بالضاد: الأعلام 8/148 .
([45] ( المقامة السينية تحوي كل كلمة فيها على حرف السين ، والشينية على حرف الشين ، والمهملة لانقط في كلماتها ،وهي مقامته الواسطية : الفن ومذاهبه في النثر العربي /295-303 .
([46])المرجع نفسه 307-309 .
([47] ) ذكر عبد القاهر الجرجاني (ت 471هـ ) بعد ما رأى الإفراط في الصنعة على يد الحريري وأمثاله أن البلاغة ليست في الإكثار من السجع ، وأن الألفاظ خدم للمعاني ، والمعاني مالكة لسياستها ، فمن نصر اللفظ على المعنى كان كمن زال الشيء عن جهته ، وفيه فتح أبواب العيب والتعرض للشين ، كما بين أن المتقدمين لزموا سجية الطبع ، وأن المتأخرين مالوا إلى البديع ، وتخيلوا أن جمع أقسام البديع في بيت يسبب الجودة مع أن صاحبه يخبط خبط عشواء ، وربما أفسد بكثرة ما تكلفه : أسرار البلاغة / 26 و 217 .
([48]) الفن ومذاهبه / 298 - 310 .
([49]) نصر الله بن محمد المعروف بضياء الدين بن الأثير، وبابن الأثير الكاتب (558-637هـ) ، وزير في عهد صلاح الدين الأيوبي ، له كتاب المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، وديوان رسائل : الأعلام 8/31
([50]) صبح الأعشى 2/224-225 .
([51]) صبح الأعشى 2/228-229 .
([52] ) جرس الألفاظ /230-231 .
([53]) صبح الأعشى 2/202-203 .
([54]) الخطب النباتية نسبة إلى الكاتب والشاعر محمد بن محمد المعروف بجمال الدين بن نباتة (686-768هـ) ، عرف بخطبه ذات الأسلوب المصنوع ، وله ديوان شعر ورسائل كثيرة : الأعلام 7/38.
([55]) المثل السائر 1/25-26 .
([56]) شهاب الدين محمود بن سليمان أبو الثناء (ت 725) كاتب إنشاء في دمشق ، اتصل بالمنصور قلاوون وصار صاحب ديوان الإنشاء عند الظاهر بيبرس : فوات الوفيات 4/82، وأعيان العصر 5/392 ..
([57]) أبو بكر بن علي تقي الدين المعروف بابن حجة الحموي ( 767-837هـ) شاعر من حماة ، و إمام أهل الأدب في عصره ، ولد ونشأ في حماة ، له خزانة الأدب وكتب كثيرة أخرى : الأعلام 2/67 .
([58]) صبح الأعشى 2/202 .
([59]) رفاعة رافع الطهطاوي (1216-1290هـ) أديب مصري، درس في فرنسا ، أصدر جريدة الوقائع المصرية ونشر فيها آراءه في مقالاته : الأعلام 3/29 .
([60]) كتب البيعات، وهي عقد الإمامة لمن يقوم بها من الأمة: صبح الأعشى 2/5 .
([61]) التقاليد: كتب لأرباب السيوف، ولنواب السلاطين والوزراء، وكتاب السر، ولولاية الحسبة: صبح الأعشى 11/ 101
([62]) التفاويض كتب لعامة القضاة، أو لمن هم دون أرباب التقاليد، وهي من نمط التقاليد إلا أنه يقال في تقديمها: تفويض شريف لفلان بكذا: صبح الأعشى 11/112 .
([63]) التواقيع كتب لأرباب الوظائف جليلها وحقيرها: صبح الأعشى 11/ 107
([65]) الطرخانيات: كتب يسمح بها لصاحبها بخدمة السلطان، وأن يقيم ويرتحل متى يشاء بمعلوم أو بغير معلوم. وله معنى آخر وهو كتاب معاش للأمير البطال، ويشبه الراتب التقاعدي لمن انتهت مدة خدمته، وقد يكتب للجنود ولغيرهم كحملة الأقلام المرسلين إلى منطقة ما، أي لكل من توفر لخدمة الدولة: صبح الأعشى 13/51 .
([66]) المسامحات: وهي كتب تسمح بإبطال المكوس، أو بما بقي من جهة معينة للحكومة، أو يسامح ناحية معينة بكذا، فهي إذاً جود من المسؤول، كمسامحة السلطان الناصر محمد بن قلاوون بما تبقى في ذمة الجند والرعايا بالشام: صبح الأعشى 13/24-25 .
([67]) المنشورات : كتب بإقطاع فلان مبلغاً أو أي شيء، أو بزيادة راتب له، أو تعويضات أو برّ حسن، أو مضاعفة نعمة، ويراعى فيها حال المكتوب: صبح الأعشى 13/164-166 .
([68]) الإطلاقات: هي تقرير لما قرر سلطان سابق، أو ابتداء لتقرير ما لم يكن مقرراً من قبل ، أو زيادة على ما هو مقرر: صبح الأعشى 13/43 .
([69]) التصدير هو تعيين مفسر في الجامع، ويقدم له متكلم أمامه كأنه يقرأ عليه: صبح الأعشى 11/247 .
([70]) مقدم الألف أي: هو قائد لألف من الجنود : صبح الأعشى 12/279 .
([71]) ينظر للألقاب في: صبح الأعشى 12/279-287 .
([72]) نفسه 11/73-84 و 89-100 .
([73]) نفسه 7/74-109 .
([74]) هو أبو الحسن علي بن أبي سعيد بن أبي يوسف يعقوب المَريني (ت755هـ) صاحب مراكش وفاس وغيرهما، تسلم الحكم في (731هـ) وكان سلطاناً فاضلاً يناظر الفقهاء، ومجاهداً مع أرباب السيوف. ينظر له في أعيان العصر 3/387 .
[75]) إسماعيل بن محمد بن قلاوون الملك الصالح (ت746هـ) من ملوك الدولة القلاوونية في مصر والشام ك الأعلام1/324.
([76]) هكذا وردت لمناسبة السجعة.
([77] ) محمد بن قلاوون (684-741هـ) الملك الناصر من كبار ملوك الدولة القلاوونية : الأعلام 7/11
([78]) الططار هم التتار وكان قلاوون ممن يحارب التتر، وكذلك ابن محمد.
([79] ) سيف الدين أبو المعالي قلاوون الألفي (620-689هـ) أول ملوك الدولة القلاوونية ، وهو من مماليك نجم الدين أيوب : الأعلام 5/203.
([80]) هكذا وردت بحذف ياء (الأعادي) للسجعة .
([81]) هكذا وردت بحذف ياء (التنادي) للسجعة.
([82]) النص كله في أعيان العصر 1/389-398 وينظر لمثله في صبح الأعشى 7/265: جواب لكتاب السلطان محمود غازان بقلم علي بن فتح الله محمد بن محيي الدين بن عبد الظاهر، وص332 جواب لتيمورلنك بقلم فضل الله العمري.
([83] ) عبد الله بن عبد الظاهر الملقب بمحيي الدين كاتب إنشاء في مصر : الأعلام 4/98
([84]) ينظر صبح الأعشى 9/428. والخليفة المستكفي هو أبو الربيع سليمان ولد 683هـ وبويع بالخلافة في مصر يوم موت أبيه (701هـ) ففوض الأمر إلى السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون، ولكن خلافاً جرى بينهما جعل ابن قلاوون يرسله إلى قوص وبقي فيها حتى مات (740هـ): البداية والنهاية 14/187 .
([85] ) الملك الأشرف صلاح الدين خليل بن قلاوون (666-693هـ) كان شجاعا وقاتل الصليبيين : الأعلام 2/321 .
([86]) النص كله في صبح الأعشى 10/170-177 .
([87]) إيعاء كل إيعاز : من وعى يعي .
([88]) التقاليد : جمع تقليد، يقال قلدته أمر كذا: إذا وليته إياه، وهو مأخوذ من القلادة في العنق: صبح الأعشى 11/101 .
([89]) الكافلي: نسبة إلى الكافل، وهو الذي يحكم فيما يحكم فيه السلطان، وجميع نواب المملكة تكاتبه فيما تكاتب فيه السلطان: صبح الأعشى 11/106 .
([90]) صبح الأعشى 11/106 .
([91]) وهي وظيفة من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
([92]) النص كله في صبح الأعشى 11/67-70 .
([93] ) عبد المحسن بن حمزة العجلاني نقيب الأشراف ، كان ذا تقوى وصلاح : علماء دمشق وأعيانها في القرن الثالث عشر الهجري 2/500 .
([94] ) نفسه 2/501
([95] ) صبح الأعشى 11/114 .
([96]) صبح الأعشى 11/125 .
([97]) نفسه 11/115-122 .
([98]) نفسه 11/242 .
([99]) أي طلب أن يكون كاتباً للإنشاء كالقاضي الفاضل.
([100]) جاءه التوقيع في الساحل: كناية عن صفعه على قفاه سخرية بطلبه.
([101] ) يوسف بن سليمان النابلسي ( ت 750هـ) فقيه وواعظ وشاعر من دمشق : أعيان العصر 5/ 625
([102]) أعيان العصر 5/626-628، وينظر مثلها للصفدي أيضاً في المرجع نفسه 1/262 و 4/258-261 و 4/294 و 4/308 .
([103]) ديوان البحتري 1/523 ، والرواية هي :
فلوَان مشتاقا تكلف فوق ما في وسعه لسعى إليك المنبر
([104]) صبح الأعشى 11/56، وذكر أن هذا النوع الذي يفتتح بكلمة رسم يسمى تواقيع.
([105]) سمط النجوم العوالي 4/84 .
([106] ) الصحيح : ظل ظليل ، وعلى من خالفها عذاب وبيل .
([107]) سمط النجوم العوالي 4/86-89 .
([108]) هو من شواهد مغني اللبيب النحوية : 1/228 ورقم الشاهد 411 .
([109]) عبد الجليل بن ياسين الطباطبائي ( 1190-1270هـ ) شاعر من البصرة ولد بها، ورحل إلى الزبارة في قطر ،فلما استولى عليها آل سعود رحل إلى البحرين ثم استوطن الكويت : عنوان المجد في بيان أحوال بغداد والبصرة ونجد /167 ، والأعلام 3/276 .
([110]) ظلال أي ضلال، وقلب الضاد ظاء لهجة في مشرق الجزيرة العربية لازالت موجودة إلى يومنا هذا.
([111]) ديوان عبد الجليل الطباطبائي /15-18 .
([112]) لبنان في عهد الأمراء 1/742 .
وسوم: العدد 672