الشاعر الفيلسوف عبد اللطيف عقل، التجربة الشعرية الشاقّة والشيّقة
ارث شعري وحضاري كبير ، نبع عطاءٍ ودفق شعري بلا حدود ، قدمه الشاعر الفلسطيني والعربي الكبير الراحل عبد اللطيف عقل ( فيلسوف الأرض المحتلة ) ، شاعر الرفض .. شاعر الوطن والغضب والمواجهة ، الشاعر المسكون بالبراءة والجمالية والطهر الثوري والفلسفة الوجودية والشعور الإنساني النبيل .
نحن أمام شاعر عملاق ، قيمةً وقامة ، له بصمات واضحة في المسيرة الثقافية الفلسطينية ، له أيادي بيضاء في التأسيس لمرحلة متميزة كان فيها نجماً من نجوم الأدب العربي والفلسطيني بكل اقتدار .
مسيرة عقل حافلة بالإبداع والعذاب والقهر والاستبداد في مراحل بغاية الصعوبة مرّ بها شعبنا العربيّ الفلسطينيّ تحت نير وقبضة ووحشية الاحتلال ، حيث أسهم عبد اللطيف عقل في الحفاظ على الذاكرة الجماعية وعلى الهوية الوطنية ، وكانت أشعاره منهلاً للشعراء والمناضلين ومقاليع وقبضات واثقة ومتحدية لجنرالات الحجارة إبان الانتفاضة الكبرى التي خاضها الشعب الفلسطيني حيث كتب شاعرنا " نشيد الانتفاضة " :
" وطن الشمس ومهد الأنبياءْ فرحة الموال في أفراحنا وحياة الروح في أرواحنا وجرى منذ جرت فينا الدماءْ كلما استشهد طفل جاء طفل ندفن الطفل على مهل ونمشي ثم نحكي, ثم نحكي, ثم نحكي بين روح الأرض والأطفال قد تم اللقاء بالحجارهْ نرسم المجد على الزيتون شاره بالحجارهْ نشعل الليل - على الليل - منارهْ بالحجاره نشعل النار, ونار من شراره. نحن لن نرضى بأن يسكن في الروح أو الأرض التعب إننا فيها الشجرْ.. والجذور كلما يأتي المطر. وحياة القمح في القمح تدور. بلّغوا عنا العرب قد تموت الأم والطفل الصغير. ويعاني الكهل في زنزانة السجن الكبير. ويمر الوقت سكينا على الشهم الأسير غير أن الشمس في عز الصباح دائما تشرق من عمق الجراح دائما تشرق من عمق الجراح "
عبد اللطيف عقل ، وجه القضية الفلسطينية ووجع شعبها وضمير أرضها وغضبها في وجه الاحتلال والرجعية والظلامية ، شاعر جريء ، متمترس خلف قناعات ووجهة نظر مستعد للموت من أجلها ، شاعر مختلف ، مميز ، " شاعر السقيفة وناي الأرض المحتلة " ، وباختصار انه عبد اللطيف عقل مبدعا كبيراً فاذهبوا لقراءة أعماله ، كما أتيحت لي هذه الفرصة الذهبية بإعادة قراءة آثاره الشعرية الكاملة .
" سأمضي إلى حيث لا يأكل الأخ لحم أشقائه نيّئاً ، أخلع جلداً تراكم ما فوق جلدي وأنزع أقنعةً من مذلّة أهلي ، سأغسل روحي بأغنيةٍ من أغاني الصّغار ، تطّهر جرحي جراح ملثّمة ٍ أو ملثّم قتلتم حمامات صوتي الجميلات ما عدن يستطن الهديلا عاشق القدس ليس يحسب يوماً إن أتاها أقاتلاً أم قتيلا " .
منذ بواكير أعماله الشعرية وتفتح وعيه الوطني ، عاش عبد اللطيف عقل معاناة وهموم شعبه ووطنه ، وسلك درب الالتزام في معظم ما كتب من أشعار ومقالات ومسرحيات ، وقد وعى دور الكلمة في النضال والثورة مسخراً موهبته وقدراته الإبداعية في سبيل الدفاع عن قضايا شعبه المصيرية .
وفي قصائده المتنوعة الأشكال والمضامين ، يتناول عقل الوطن المعذب السليب بهمومه السياسية وقضاياه الوطنية والثورية وأحداثه اليومية ، وقد حرص كل الحرص على تقديم صورة الفلسطيني من خلال نماذج متعددة تتجسد في شخصية اللاجئ والسجين والشهيد الرافض للذل والمهانة وعار الاحتلال :
" ينامُ المخيّمُ، كان المخيّمُ أمَّ القرى ، عرسها الشهم، عصفورة النخلِ، نسغ العنادِ، وجاءَ الجرادُ المسلّحُ ، وابتدأ الزمنُ الصعبُ هل كان هذا الجرادُ خبيئاً بطِين الجدارِ، وكانت خيامُ اللجوءِ تُعشّش في عرصات الكتابةِ - منذُ الكتابةِ - في الأتربه ؟! "
وفي شعره نجد صوراً سلبية للواقع العربي المتهرئ وتعرية المواقف السياسية المتخاذلة للأنظمة العربية الرسمية إزاء القضية الفلسطينية .
ظل عبد اللطيف عقل يرسم القرية والمدينة الفلسطينية في لوحات فنية لها قيمة تاريخية وتراثية وحضارية ، وتناول عبد اللطيف عقل في شعره موضوع المدينة ، ونظرة على حياته من خلال دواوينه توضح حنينه إلى القرية ، مسقط رأسه ، فالشاعر عاش في جو القرية ثم انتقل إلى المدينة ، ولذلك ظلت القرية حية في ذهنه ، ولا عجب أن رأينا القرية والمدينة تعيشان جنباً إلى جنب في نفس الشاعر ، حيث يقول :
" أنا أبكي على أيّام قريتنا التي رحلت وأبتهل أزقّتها المقوّسة العقود وصبحها الخضل ومغربها الذي برجوع قطعان الرعاة إليه يكتحل وفوق سقوفها البيضاء نفـّض ريشه الحجل وكيف يجيئها المطر فتورق في شفاه الحقل أغنية وتزدهر "
هذه الألفاظ التي يمكن أن تشكل قاموساً خاصاً عند الشاعر عقل عن غيره وبخاصة وأن تجربة الشاعر مع المدينة ، دخلها غريباً وحاول إصلاحها لكنه يئس وعاد يشعر بالغربة من جديد .
إن قصائد عبد اللطيف عقل ذات دلالات متعددة وتعكس بمجملها الجرح الفلسطيني النازف والهم الوطني والسياسي الجماعي وتصور الواقع الفلسطيني المرير ، وهي تمتاز بالنفس الطويل والصور الفلسفية المستقاة من حكايا الأجداد ورحم الأرض ولم يقف نصه محايدا كما فعل شعراء آخرين في ذات المرحلة :
" أعيشك في المحل تينا وزيتا
وحين يهشم رأسي الجنود وأشرب برد السجون لأنساك.. أهواك أكثر أعيشك في المحل تينا وزيتا وألبس عريك ثوبا معطر وأبني خرائب عينيك بيتا وأهواك حيا ، وأهواك ميتا وإن جعت أقتات زعتر "
لذلك أدرك جدل العلاقة المتفجرة بين الروح الإنسانية في اتكاءها على أريحيات الحنان والحب للأنثى- المرأة وبين الأرض تلك العشيقة في بيتها المسحور الذي كلما اقتربت منها ازدادت بعدا ، يعيش لحظات الاغتراب والبعد في المدينة :
" المدينة مدينتُنا يموتُ الحبُ في حَاراتِها الملساء كل مساء. وفيها تدفن الأفكار والكلماتُ والأشياء هنا لا شئ إلا الموتُ حراسُ المقابر يذبحون الحبَّ والأطفال والشعراء. ويحتفلون خلف السور ، حين يهوم الموتى، واقبرُ جثتي في الليل كيف أشاء "
ويضيف عندنا يسمع صدى كلماته وهو يعيش ارتحال الموت وينتظر لحظة الخلاص :
" مدينتُنا ارتحالُ الموت، أصداء بلا كلمات. صباياها يعذبُهن طيفُ الفارس الآتي من الغابات. على شفتيه أغنيةُ الخلاص ، لمسن كيف لمسن في شفتيه وجه الله ذات شتاء. مدينتُنا استراحت بعد مموت الصُبح في الحارات، لم اندم على ما فات. فلستُ أُحب قشر الموز والبطيخِ لم اندم على ما فات " .
وتتوالى إيحاءات البوح الشعري والصوغ متعدد الأشكال في الكتابات الشعرية لتشكل اختزالاً واضحا لتجربة عقل الشعرية ، وترسم كذلك أفاق وسبل انفجارات أخرى سنلحظها فيما بعد خاصة لجهة تكثيف المفارقة والاغتراب كما في مجموعة " الحسن بن زريق مازال يرحل " وفي مجموعة " بيان العار والرجوع " حيث تتكثف المفردة الشعرية وتخرج عن الإطار التقليدي للمعني المحدد لها فإننا نلحظ هذا متجسدا بوضوح جلي في معظم أعمال شاعرنا وهي : " شواطئ القمر 1964، أغاني القمة والقاع 1972، هي أو الموت 1973 ، قصائد عن حب لا يعرف الرحمة 1975، الأطفال يطاردون الجراد 1976، حوارية الحزن الواحد 1985، الحسن بن زريق مازال يرحل 1986، بيان العار والرجوع 1992، التوبة عن التوبة 2006 ، أما بعد رحيله بسنوات فقد قام بيت الشعر الفلسطيني بإصدار الآثار الشعرية الكاملة للشاعر بمجلدين أنيقين يليقان بسيرة ومسيرة هذا الشاعر الفذ .
أحاول في هذه المقاربة / القراءة والمصاحبة للشاعر الفيلسوف عبد اللطيف عقل أن أتلمس خيوط إيقاع روحه في النص ، وبيانات إيقاعات النص في حياته من خلال استبطان ما يكمن وراء الكلم أو الكلمات ، ولكن سوف أتعامل مع الألفاظ اللغوية ، مرورا بالبنية الإيقاعية ، إلى البنية الدلالية ورؤياه الكلية ، من خلال الانتقال باللغة من كونها شيئا محددا قاموسيا وثابتا إلى كونها بؤرة احتمالات وطاقة إيمائية وبؤرة دلالية تشع في جسد النص بإمكانات متعددة ، فمن العسير جداً على الناقد وعلى الشاعر في آن إدراجه في إطار مدرسة أو منهج نقدي محدد ، خاصة في التعامل مع تجربة كبيرة وثرية كنموذج الدكتور عبد اللطيف عقل، لذلك سأحاول تجذير بنية النص معرفيا ونقدياً وشعرياً ، وفتح انغلاقاته وخيوطه ليتسع أكثر فأكثر على مداه الأرحب الذي يكتن في ألوانه صخب الحب وجدل الثورة والتمرد ، في استهلالات عقلنة المعطى التراثي والسمو به وفيه إلى مصاف الفعل الحضاري.
لم يرتكز شاعرنا ، وذلك بالفطرة ، على الإرث الشعري الفلسطيني، الذي تتلمذ عليه وحسب، وإنما استفاد من ثيمات وفنية الشعرية العربية منذ المعلقات وحتى ستينات هذا القرن وهي المرحلة التي شب وصلب عوده فيها ، لذلك نجده في خطابه الشعري أشبه بـ " سباك احترق بنيران اللغة " ، و" موسيقي عارك صخب وحنو النغم " ليخرج إلينا بإرث شعري متميز ومتفرد انعكست من خلاله تجربة الشاعر عبد اللطيف عقل الإنسان والمناضل الفلسطيني الذي عارك الحياة والتجربة وتحمل المرارات في سبيل قصيدته ومواقفه الفكرية والثقافية .
ومنذ بداياته المنشورة انطلق نصه الشعري مؤسسا على هذا الإرث المديد وعلى التحولات التي طرأت على القصيدة الشعرية الحديثة في الستينات ، بعد انطلاقتها الأولى وتجذرها على يد الشعراء الرواد وفي مقدمتهم بدر شاكر السياب ، الذي أبحر ضد التيار وكسر السائد ، وفكك المعطى الموروث وأعاد بناءه على نحو يتساوق مع الذائقة الروحية والنفسية والشعرية والحياتية الحديثة للإنسان العربي الذي يعيش في منتصف القرن العشرين.
لا تُفهم تجربة عقل الشعرية والثقافية دون أن ننتبه إلى مكوناتها الأساسية ، وهي " مفردات الريف " التي ظلت حاضرة في شعره ، إضافة إلى " مشكلات المدينة " ومكوناتها التي عبّر عنها من خلال الخلفية الاجتماعية والبيئة التي تربى وعاش فيها ،وكذلك حياته الفكرية والفلسفية كباحث وأكاديمي في جامعة النجاح الوطنية ، وانحيازه دائما لقضايا وهموم العمال والفقراء والفئات المحرومة والمهمشة كونه انتمى إليها مبكراً عندما عاش حياة اليتم والفقر والعوز ، مترافقاً مع عيشه اليومي للصراع مع الاحتلال.
كل تلك الأشياء شكّلت شعرية عقل الذي لم يكن مشغولاً بتطوير أدواته الشعرية بمقدار ما كان مشغولاً باليومي الفلسطيني ، والتعبير عنه ، فالمخيم والمدينة حاضران بقوّة لديه ، لكنّ الريف ظل يحرك الشاعر فيه ويقود مركبه في الكتابة ، ربما لأنه عرف الأخير قبل أن يطاله زمن الاحتلال وغطرسته.
ومما لا شكَّ فيه أن البيئة التي عاش فيها عبد اللطيف عقل قد أثرت تأثيراً كبيراً في حياته ، حيث بدأ حياته السياسية مناضلاً في صفوف الحزب الشيوعي الأردني آنذاك ، حيث اعتقل ، واقتيد إلى سجن الجفر الصحراوي الرهيب ، وهو ابن السادسة عشرة من عمره ، وقضى حياته مفكراً ماركسياً ، وكاتباً تقدمياً وثورياً ، وقد انعكس ذلك في كتاباته المختلفة ، وفي دواوين الشعرية ونصوصه المسرحية ، ورغم المنطلقات الفكرية والأيديولوجية إلا أن شاعرنا الكبير / الراحل ظّل من الأصوات الشعرية النقية والواثقة ، له نبرته المتأملة والخافتة المحتفية باليوميّ وباللحظة الشعرية التي كان يسجلها بألفة وبحرفية عالية ، وفياً للشعر ودوره التحريضي وقيمه الإنسانية وجمالياته اللغوية والإبداعية حيث ارتقت تجربة ومهارات الشاعر عبد اللطيف عقل على مستوى اللغة والصورة الشعرية والتشكيلات الإيقاعية وعلى مستوى تنوع الموضوعات التي تتناولها قصائده رغم أن تجربته الشعرية الطويلة لم تشهد انزياحات كبرى وملموسة تقيد الانتقال إلى " مستقر شعري جديد " رغم كتابته للشعر العمودي ولقصيدة التفعيلة وقصيدة النثر بعد ذلك وقيامه بالتجريب الشعري بين فترة وأخرى في حياته الشعرية الزاخرة .
يتمتع المستوى الكتابي عند شاعرنا بثراء اللغة الشعرية واتسامها ببذخ معجمي واستثمار كبير للثراث وللموروث الثقافي في إطار حالة من البساطة الآسرة والمحببة ، إلى جانب المستوى الناضج فلسفياً ومتافيزيقيا والذي يبدأ من " السطوع الخام للغة ولا ينتهي عند تمارينه في بواطنها الدلالالية الأعمق ، مجردة أو محسوسة " ومن الأمثلة على توظيف التراث في شعره :
" كثيرون من أهلها
أعلنوا الحب بالقول
لكنهم أضمروا قتلها في السريرة
كثيرون قالوا صباحا:
فداها العيون
وداسوا على رأسها في الظهيرة
كثيرون مثل العجين السمين
يضخمه الوهم للعين
تعمى ، وتنسى فساد الخميرة " .
قصائد عقل طافحة بالقوة الأخلاقية والإبداعية وبروح التحدي والإصرار والتمسك بالحق الفلسطيني في مواجهة الموت والطغيان والقهر وجحيم الاحتلال وإفرازاته ، لذلك وجدنا بعض المباشرة في عديد من القصائد التي لولا مباشرتها لما وصلت بمثل هذا الصدق وقوة التعبير والتأثير الوجداني .
عبد اللطيف عقل ، باقٍ فينا نجمةً عالية ، مارداً وصارخاً وحالماً وشاعراً شاعرا ، رحلت جسداً ضعيفاً يلفظه المرض وبقيت قيمةً وقامةً ونبي قصيدة ، يسكنك الشعر إلى أبد الآبدين . باقٍ فينا أيها الطيّب ، أبا الطيّب .
وسوم: العدد 680