الروائي السوري أديب نحوي....مؤرخ المجتمع المعذب ..

... ولقد بدا جليًّا أنّ أديب نحوي كان ـ إلى فهمه العميق للعلاقات بين الناس الذين في القاع ـ محبًّا لهم, عطوفًا عليهم, ووفيًّا أمينا. فكان يقف إلى جانبهم, كتفًا إلى كتف, في تلقّيهم مصاعب الحياة اليوميّة ومصائب القدر.

وكان أن افتقد عندهم البسمة على الشفاه, وتورّدَ الخدود! ولم يكن بدّ من أن يرى, بدلا من ذلك, ألوانًا من المعاناة والقهر والعذاب... فكانت قصص كتابه "حكايا للحزن" (دار الآداب بيروت 1967) حكايات حزينة, كتبها على مدى أشهر كان فيها ـ حسب علمي ـ متواريًا عن الانتظار!

حكى لنا كيف أنّ ”ياسين قطّة“ (انظر إلى هذا الاسم المغرق في الشعبية!) استطاع, في قصة ”عنزات الحلاّب“ بيّاع الحليب، أن يمتلك إحدى وعشرين عنزة, وحمارًا أسود, ومئة ذراع من الأرض جنب ”جبّانة السفيري“, و«عَمّرتُ عليها ـ يقول ـ أربع حيطان, والمغارة للعنزات, وغرفة واحدة للأولاد, بسقف, والمطبخ بدون سقف....».

ويوم سَرَحت عنزاته, التي غفل عنها ولدُه ”أحمد“ بينا هي ترعى أمامه في الجبّانة, ثمّ عاد بها ابنه الأكبر ”حسين“ وقد عثر عليها في ”كرم بيت الحمصي“ في "الصالحين", بكى ياسين من الفرح, وصلّى, وانحنى يُقبّل الأرض؛ والناس هنّؤوه برجعتها إليه, ثمّ إنه جمع حوله ”الأحباب“ كلّهم: «العنزات والأولاد, مختلطين بعضهم بالبعض الآخر: عنزة ثمّ ولد, بنت ثمّ عنزة...»: ابنته ”بهيّة“ الصغيرة السمراء, وإلى جانبها ”عفريتة“ التي هي أنشط العنزات, ثمّ ”حسن“ أحلى أولاده, وإلى جانبه ”صبيّة“ أصغر العنزات عمرًا, وبعدها ”علي“, يمسك بيده اليمنى ذيل ثوب أخته الكبرى ”خديجة“ ويلفّ يده اليسرى على رقبة ”البيضا“ العنزة البيضاء الوحيدة بين عنزاته السود... ثمّ ابنته ”أسّوم“... و”نعسانة“ العنزة التي تحبّ النوم..... .

ولكنّ هذه العنزات الغاليات, التي هي بمنزلة أولاده كما نرى, يفتقدها في يوم من الأيام, وإلى الأبد, وهو في ”زقاق الطلعة الفوقانيّة“ في "حارة باب المقام"!

تفصيل ذلك أنّ ابنه صالح دفع [دفش] عن العنزات ولدًا من أبناء وجهاء الحارة, هو ”خليل عبد القادر العلبي“, بعد أن شاهده يعضّ إحداها من أذنها وهي تصيح من الألم! هل ضرب الولد صالح الولد المعتدي حتى نادى هذا: «يابو! ابن الحلاب ضربني!؟»، فقد اندفع, في إثر هذا النداء, الأب عبد القادر, ولحق به أبناؤه وإخوته ورجال بيت العلبي كلّهم, وانهالوا على صالح, وعلى الأب نفسه, بالضرب المبرّح, وهم يسبّونه: «يا جردون! ما بقي علينا غير وسخ رجلينا!»... ولحظة أفاق من غيبوبته لم يجد عنزاته في الزقاق, وتبيّن أن آل العلبي قد سحبوها إلى داخل بيتهم!

مجلة "المعرفة" (وزارة الثقافة، دمشق)، العدد 637 تشرين الأول/ اكتوبر 2016

أقول: هذا القهر يعانيه الحلاب وهذه الغطرسة يمارسها أقوياء الحارة، أليس لهما مثيل، اليوم، بين مواطنين مقهورين وبين رجال ينتمون إلى أنظمة حكم عربية؟

وسوم: العدد 692