كتاب - "الإنسانيات الرقمية" لغسان مراد
العلوم الإنسانية أخطر من تركها للمعلوماتيين دون سواهم
يشدّني استخدام المصطلحات الصائبة والمتينة في مجال تخصصها. كثيراً ما أحاول مع الزملاء والطلاب البحث والتوافق على المصطلح الأفضل الذي يمكن اعتماده للتعبير بالعربية عن المفاهيم الأجنبية الجديدة الداخلة في نطاق دراسات المعلومات والمكتبات وتكنولوجيا الإعلام عموما. آخر هذه المناقشات معهم أدى الى التوافق على تبني مصطلح "الإعلام الرقمي" للتعبير عن الإعلام الحديث. لأن "الرقمية" توحي بإمكان تخزين البيانات والمعلومات واسترجاعها وإعادة صوغها ونشرها وبثها. ذلك بخلاف التعابير الأخرى مثل "الإعلام الجديد" و"الإعلام الإلكتروني" و"الإعلام الشبكي" وغيرها من التعريفات المتداولة في وصف الإعلام الحديث. من هنا جاء استخدام الدكتور غسان مراد لمصطلح "الإنسانيات الرقمية" صائباً للتعبير عن التداخل والتزاوج بين المعلوماتية والاختصاصات الأخرى في العلوم الإنسانية. كما المصطلح الإعلامي أعلاه، فإن مصطلح "الإنسانيات الرقمية" له مقابل أجنبي هو "Digital Humanities". استخدم مراد هذا المصطلح سابقاً في مقالة منشورة في صحيفة "الحياة" في 24 كانون الأول 2012. أما المصطلح الأجنبي فإنه موضوع في التداول منذ العام 2004 عندما استخدمه الباحثان جون أونسوورث الأميركي وريموند سيمنز الكندي، كمصطلح ضمن عنوان كتاب أعدّاه عن "حوسبة الإنسانيات"، وهو مصطلح يعود الى نهاية أربعينات القرن الماضي، أُطلق مع الإنجازات العلمية في المجال للباحث الإيطالي روبرتو بوسا.
عموماً، يتميز كتاب "الإنسانيات الرقمية"، الصادر حديثا عن "شركة المطبوعات للتوزيع والنشر"، بتناوله مجموعة كبيرة من الموضوعات على شكل مداخلات أو مقالات مطوّلة ومبسطة علمياً في آن واحد، وهي تشبه التغيرات الحاصلة في عادات القراءة الراهنة. تتماشى مع الدعوة التي يطلقها الكاتب الى تبسيط العلوم "بما يؤدي الى خلق ثقافة علمية تشرك الناس في أمور البحث". امتازت عناوين هذه المداخلات بتضمينها استعارات لغوية شيقة تدعو الى قراءتها من دون ملل. من هذه العناوين التي غلب عليها طابع العنوان الصحافي، نشير الى "الذكاء الجمعي: مملكة النمل"؛ "التقنيات المرتقبة: زحف ثعبان التقنية نحو سحاب الشبكات"؛ "أبعد من هوية ملتبسة: رقاقات تُغرس في الجسد وتغيّر هوية الإنسان"؛ "الإنسان البيونيقي: صورة أولية لجسد الكومبيوتر"؛ "المواطن يكسر التلقي ويرمي قفاز التحدي في وجه الإعلام العام"؛ "فريميوم: تزاوج المعلومات ومجانيتها"؛ "رموز القراءة الرقمية: الإصبع النقاف"؛ "التحول من الكبس الى اللمس"؛ "الانتقال من زمن البداوة الرقمية الى عصر الترحال التواصلي"؛ وأخيرا كان لا بد من الإضاءة على "الاتجاه الى تكنولوجيا خضراء".
تناولت هذه المداخلات بعناوينها المتعددة مجموعة من الموضوعات تشترك في قضايا مرتبطة بالمعالجة الآلية للغات ودخولها معترك الحياة العملية للناس، بدءا من رصدها والبحث عنها والوصول إليها وانتهاء بتركيبها وفهم دلالاتها واستخدامها في الروبوت الذي دخل المنازل والمؤسسات وبدأ الاعتماد عليه في الأعمال البيتية وبعض أعمال الشركات. طالت هذه القضايا شؤوناً أكاديمية ومناهج تعليمية، وهي دعت الى الاندماج التام للمعلوماتية وشؤونها في شؤون العلوم الإنسانية وتفريعاتها، وركزت بشكل خاص على المناهج المرتبطة بتحليل النصوص واستخدام المعلومات وإنتاجها، ومن ضمنها الاختصاصات المعنية بالصحافة والاعلام والترجمة والألسنية والعلوم الإدراكية.
يشكل هذا الكتاب بتناوله الشيّق للمصطلحات، فرصة للمبادرة في انتاج لوائح وأدلة تعريفية علمية تساعد في تثبيت المصطلح العلمي المعرّب وتعزز مجالات استخدامه في الإنتاج الفكري العربي المرتبطة بالعلوم الإنسانية الحديثة التي لن تستطيع الإفلات من التكنولوجيا في سير تطورها وتقدمها، سواء في الصفوف الأكاديمية أو المراكز البحثية. يشار في هذا الصدد، الى الاستخدام الدقيق للمصطلح في مقالات الكتاب ومداخلاته، على رغم عدم خلوّه من تقصير في قليل من الأحيان واستسلامه الى النقل الحرفي (النقحرة) عوضا من الترجمة. مثل اعتماده مصطلح "ملتي ميديا" على رغم الاستخدام الشائع لمقابله في اللغة العربية، وهو مصطلح "الوسائط المتعددة".
نشير أخيراً الى أهمية الإلتفات الى "الإنسانيات الرقمية" بمعناها الأكاديمي في جامعاتنا ومراكز أبحاثنا، والتحفيز على إجراء البحوث والدراسات في هذا المجال والعمل على جعل المعلوماتية جزءاً لا يتجزأ من الاختصاصات المنضوية تحت العلوم الإنسانية. يجب تأسيس تجمعات أكاديمية تهتم بهذا الموضوع وتعمل على إصدار مجلات ودوريات متخصصه فيه. في البحث عن دوريات أكاديمية كهذه، نلاحظ الغياب العربي التام، بينما الوجود الغربي واضح من خلال مجموعة من الدوريات الأكاديمية. ومثلما اعتبر الرئيس الاميركي دوايت ايزنهاور ان الحرب مسألة اكثر خطورة من ان نتركها للعسكريين، كذلك العلوم الانسانية والاجتماعية بمختلف مجالاتها وتفريعاتها أخطر من تركها للمعلوماتيين دون سواهم!
وسوم: العدد 711