الشاعر الراحل نزار قباني بين السطحية والإبداع
من أين أبدأ :
أخذني الحماس من عبقرية نزار ، عندما كنت في ريعان الشباب حيث كانت بواكير كتبه الرائعة ، التي سرت بين الشباب في تلك الحقبة من التاريخ مسرى النار في الهشيم ، فلقد كنت أقرأ قصائده بشي من الزهو والخيلاء ، وإن كنت أغض الصوت والطرف عن بعض الكلمات المخجلة ، أو بعض اللوثات الإلحادية ، التي كانت تعترض قصائده بين الفينة والفينة ، وحتى لا تقطع مثل هذه الكلمات عليَّ نشوة القراءة والاستمتاع بعذوبة شعر نزار قمت بنفسي باستبدال هذه الكلمات بكلمات أخرى تعدل المعنى نوعاً ما وتلغي فكرة الإلحاد التي لا يمكن لي أتقبلها بشكل من الأشكال وأنا أعيش وأترعرع في كنف أسرة متدينة محافظة ، أجل لقد كانت لدي المقدرة الشعرية ومنذ ذلك التاريخ إلى استبدال كلمة أو جملة أو فقرة بحيث تعتدل الفكرة دون أن يؤثر ذلك على موسيقية القصيدة ، واستمرت رحلة الإعجاب بالشاعر الراحل نزار قباني فترة طويلة من الزمن ، يدفعني في ذلك صلتي بمدرس اللغة العربية في ذلك التاريخ المرحوم الأستاذ ( أحمد حميده ) الذي كان هو الآخر معجباً به فكان يقول (شاعر مبدع ولكنه فاسق ) .
واستمرت رحلة الإعجاب مع الشاعر الراحل نزار فترة أخرى ولكن مع مرور الأيام برزت فكرة أخرى موازية للإعجاب وهي فكرة النقد والنقد الصريح ، فالشاعر نزار مثله مثل كل الأدباء والشعراء والكتاب ، وأدبه في وشعره فيه الغث وفيه السمين ، فيه الجيد وفيه السيئ ، بل باختصار يمكن أن نقول بأن شعر نزار هو كتلة من المتناقضات لا تكاد ترسو لديه على فكرة حتى تجد ما يناقضها ولا تكاد تطلع منه على مبدأ حتى تجد منه ما يغايره لذلك كان الخوض في أدب نزار شعراً كان أم نثراً هو ضرب من المخاطرة الشديدة التي ربما لا توصلك إلى شيء بعد جهد ونصب وإضاعة الأوقات الطويلة ، ولكن برغم هذا فقد اتخذت قراري وبدأت ، وأخذت أجمع المعلومات عن نزار من هنا وهناك ، وأجمع الكتب التي صدرت حوله فكانت هذه الكتب والمقالات والمحاورات والأبحاث النقدية الشي الكثير ، ومن المفيد هنا أن أسوق إلى القارئ الكريم قول نزار عن نفسه في هذا المجال في كتابه " خمسون عاماً من الشعر 7/353 " يقول نزار ( لا تعذبوا أنفسكم في تصنيفي ، إنني شاعر خارج التصنيف ، وخارج الوصف والمواصفات ، فلا أنا تقليدي ، ولا أنا حداثوي ، ولا أنا كلاسيكي ، ولا أنا نيو – كلاسيكي – ولا أنا رومانسي ، ولا أنا رمزي ولا أنا ماضوي ولا أنا مستقبلي ، ولا أنا انطباعي أو تعكيبي أو سريالي ، إنني " خلطه " لا يستطيع أي مختبر أن يحللها ، " إنني خلطة الحرية " .
ومرة أخرى ترددت في الدخول في هذا الخضم الهائل من الكتب والمقاولات والأبحاث والنشرات ، بل ربما أستطيع أن أقول أنني ذهلت لمن أقرأ ولمن أترك ، ومن أين استقي معلوماتي ؟ ومن أين أوثق مقالاتي ؟ وتوقفت فترة من الزمن لا ألوي على شيء ولكنني تذكرت قول الشاعر :
إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة ..... فإن فساد الرأي أن تترددا
فعقدت العزم مرة أخرى ورجعت إلى قراري الأول وبدأت ولكني ومنذ البداية احترت في أمري من أين أبدأ ، وكيف أبدأ ومن خلال تلك الحيرة المطبقة كنت أسمع قصائد نزار على أنغام الموسيقى الحالمة ، تصدح بها الأصوات العذبة الجميلة أمثال فيروز ، وماجدة الرومي ، وأصالة ، و نجاة ، وعبد الوهاب ، وعبد الحليم ، وكاظم الساهر ، وغيرهم ، وغيرهم مما يذكي في نفسي فكرة الاقتحام والعبور إلى هذا الخضم المخيف الخطير ، واتخذت قراري ودخلت ولكن عندما دخلت عباب البحر الهائج وشققت أمواجه تفاجأت بالمتناقضات ، فأمام كل قصيدة رائعة هناك قصيدة باهتة عادية ، وأمام كل فكرة ساطعة ، هناك أفكار سطحية تعجب أنها صدرت عن شاعر عبقري فذ مثل نزار قباني ، وأمام كل لوثة إلحادية هناك لمحات دينية إيمانية تشدك إلى تلك الجذور الطيبة التي عاش فيها نزار وترعرع في طفولته وصباه ، وهناك بين الحداثة والتقليد قصة حب طويلة في شعر نزار لم يستطع نزار طوال حياته أن يفكك عراها رغم محاولاته الكثيرة وتصريحاته الطويلة بأنه ( آن للجدار الذي يفصل بين النثر والشعر أن ينهار كما انهار جدار برلين ) ، أما المرأة التي استحوذت على معظم إنتاجه الأدبي ، فكان لها من متناقضات نزار الشي الكثير ، فأنت لا تكاد تفهم من شعر نزار وأدبه بشكل عام ماذا يريد من المرأة ، هل يريدها جسداً فارغاً من كل القيم والمعايير الإنسانية والحياتية ؟ أم يريدها روحاً تحلق في سماوات أحلامه ؟ أم يريدها فاضلة عفيفة طاهرة كرابعة العدوية أو مريم العذراء ؟ أم يريدها متفلتة حره من الأعراف والتقاليد والقيم ؟ أم يريدها إباحية فاسدة كالمومسات أو العاهرات .
أجل أيها القارئ الكريم إن كل هذه الأفكار السالفة واردة في أدب نزار شعراً كان أم نثراً ، فهو في هذه القضية يقف حائراً مضطرباً متردداً يجذبه تياران عنيفان شديدان ، تيار الحداثة والتغريب بكل ما فيه من حرية وإباحية وتفلت وفساد وقذارة وحقارة فضلاً عن التطور العلمي والفني ، وتيار آخر هو التيار التقليدي الذي يجذبه إلى جذوره الأصيلة بكل ما فيها من جذور دينية فاضلة طاهرة ، إضافة إلى الأعراف والتقاليد الأصيلة التي كثيراً ما يشوبها أعراض الظلم والقسوة والفساد الاجتماعي ، فتراه ينجذب وبكل قوة تارة إلى أقصى اليمين وتارة إلى أقصى الشمال ، وأنا أمام هذا وذاك احترت في أمري من أين أبدأ ، هل أبدأ بعبقرية نزار وإبداعه وأصالته وجذوره التقليدية الطيبة الطاهرة ؟ ويكون الختام على غير ما أحب ، نقداً واضحاً صريحاً لكل سلبيات نزار أم إنني أبدأ من سلبيات نزار وفساده و إفساده ثم انتهي في النهاية إلى تلك الصفحات المشرقة المبدعة في شعره وأدبه ويكون بذلك مسك الختام .
أم أنني أخلط الحابل بالنابل وأتحدث تارة عن هذا المنحنى وتارة عن ذاك وفقاً لكل فكرة من الأفكار التي أود طرحها فأبين سلبياتها وإيجابياتها بكل الأمانة العلمية والنقدية فأنا وإن كنت معجباً بشعر نزار إلا أن الأمانة العلمية والنقدية هي فوق كل اعتبار .
وبعد مد وجذر اخترت أن أسلك الحل الأخير الذي يبين موقفي وبشكل متوازن حيال كل فكرة من الأفكار ، حتى لا يظن من يقرأ الصفحات الأولى من كتابي هذا أنني أسير في ركابه وأتبنى أدبه وأفكاره بكل ما فيها من غث وثمين أو من جهة أخرى يظنني بعضهم أنني أتجنى على نزار وأحمل عليه وأحقد عليه إذا ما تبنيت الأسلوب الثاني وأنا لست من هؤلاء ولا من هؤلاء .
بقيت نقطة هامة في دراستي النقدية لنتاج نزار الأدبي أريد إثباتها في كتابي هذا وهي أنني اعترض اعتراضاً جازماً وقاطعاً على عبارات الكفر والإلحاد التي تتردد هنا وهناك في شعر نزار ، وهنا سمحت لنفسي أن أستبدل كل هذه العبارات بعبارات من عندي وضعتها بين قوسين لأنني أنزه قلمي عن ذكر عبارات الكفر والإلحاد والتجرؤ على الأنبياء والمرسلين بصفات لا تليق ومقامهم القدسي ، وكذلك لا أريد أن أكون واسطة نقل لهذه الأفكار الإلحادية الملوثة أو أن أحذف هذه العبارات كاملة ولا أذكرها إلا كشواهد في دراستي النقدية .
ولقد سمحت لنفسي فقط أن أنقل هذه العبارات بحذافيرها في بحث ( النزعة الإلحادية عند نزار ) وذلك للدلالة على هذه النزعة عند شاعرنا الراحل موضحاً ومبيناً لهذه الأفكار المنحرفة الدخيلة وحرصت أن أضعها بين قوسين للدلالة على ذلك .
هذا وقد اعتمدت في دراستي النقدية هذه على الطبعة الأخيرة من الأعمال الكاملة للشاعر الراحل نزار قباني بمجلداتها الثمانية والتي ضمت في جعبتها كل إنتاجه الأدبي نثراً كان أم شعراً ، وذيلت كل شاهد من الشواهد التي أنقلها من أقوال نزار برقمين الأول يدل على رقم المجلد والرقم الثاني يدل على رقم الصفحة وذلك لسهولة الرجوع إلى أقوال نزار لمن أراد التوسع والإستزاده .
وأنا إذ أسير في خضم هذا البحر الهائج متحدياً الأمواج والزوابع والأعاصير القادمة بعد حين ، أسأل الله أن يعينني على وضع الحق في نصابه دون إفراط أو تفريط .
والله من وراء القصد وهو الهادئ إلى سواء السبيل ..
رحلة من الكيف إلى الكم :
عجيب أمرك يا نزار كيف رضيت بهذه النقلة الغريبة ، وهذه الرحلة الفريدة من الكيف إلى الكم ، كيف رضيت أن تستبدل الفضة والذهب والماس والأحجار الكريمة النادرة ، بالرمال والتراب والصخور والخرسانة المسلحة ، كيف رضيت أن تستبدل الزهور والرياحين وشقشقة العنادل والعصافير بالحشيش والأفيون والأقبية المظلمة العفنة ، كيف رضيت بالهبوط إلى الدركات السفلى ، بعد أن وصلت بفنك وأدبك إلى مستوى رفيع تشرئب إليه الأعناق .
لقد بدأ نزار قباني كتابة الشعر متأثراً بأستاذه الشاعر العبقري الراحل ( خليل مردم بك ) منذ نعومة أظفاره ، ثم أخذ يصقل نفسه وشاعريته وهو على مقاعد الدرس في كلية الحقوق في جامعة دمشق ، وكان منذ بداياته الأولى حريصاً كل الحرص على صياغة الكلمة والفكرة والبيت والقافية والقصيدة صياغة دقيقة رصينة تتجلى فيها كل معاني العبقرية والإبداع وكانت القصيدة الواحدة تستغرق معه في صياغتها شهوراً طويلة يمحو ويعدل ويضيف ويستبدل حتى تصل إلى درجة من الدقة والأناقة والجمال ترضي غروره وإعجابه بنفسه ، أو ترضي نرجسيته كما يحلو له هو أن يصف نفسه في كثير من الأحيان ، وكان ديوان الشعر الواحد في أول عهده بكتابة الشعر يستغرق في كتابته سنوات طويلة حتى يأخذ طريقه إلى دار النشر ومن ثم إلى المطبعة ، وظل هذا الأمر سارياً على هذا النحو حيث يرتقي نزار من بديع إلى أبدع ومن جميل إلى أجمل ومن رائع إلى أروع وذلك من بداية دخوله بوابة الشعر في الأربعينات حيث كان على مقاعد الدراسة حتى بداية السبعينات حيث وصل إلى قمة أدائه الفني في ديوانه الرائع " الرسم بالكلمات 1966 " ثم بعد ذلك بدأت رحلة الانحدار والتحول من الكيف إلى الكم .
ونحن نلاحظ في تلك الحقبة من التاريخ التي تمتد ثلاثين عاماً من حياته الأدبية والشعرية " 1940 – 1970 " أنه استطاع أن يصل إلى قمة نبوغه وإبداعه الأدبي عامه والشعري خاصة وذلك في ديوانه الرائع " الرسم بالكلمات 1966 " وخلال الأعوام الثلاثين هذه لم يصدر إلا الكتب التالية :
1- قالت لي السمراء ................. 1944 2- طفولة نهد ........................ 1948 3- سامبا ............................. 1949 4- أنت لي ........................... 1950 5- قصائد ............................ 1956 6- حبيبتي ........................... 1961 7- الشعر قنديل أخضر ( نثر ) ...... 1963 8- الرسم بالكلمات ................... 1966 9- يوميات امرأة لا مبالية ............ 1968 10- قصائد متوحشة ................... 1970
وبعد ديوانه " قصائد متوحشة 1970 " بدأت رحلة الهبوط والانحدار ، حيث نلاحظ الفارق الكبير والبون الشاسع بين أشعاره في الحقبة السابقة الأولى وبين أشعاره في الحقبة الشعرية التالية حتى يصل في بعض قصائده إلى مستوى :
ربابة ربة البيتتلت الخيل بالزيت
لها تسع دجاجاتوديك حسن الصوت
وذلك بأسلوب هو أقرب إلى الكلام العادي البسيط الذي يمكن أن يقوله أي إنسان ناهيك عن أديب وشاعر ملأ صيته الآفاق وأنا إذ أقول وأقرر هذا الكلام لا أنكر أن نزار شاعر موهوب وصل إلى قمة المجد الشعري ، وأنا كذلك لا أطعن في شاعريته ولا أغض من إمكاناته الأدبية سوى أنه انتقل إلى الكم وترك الكيف ، لقد نظر إلى كتبه وانتشارها الكبير والواردات الهائلة التي تأتيه من هذه الكتب خاصة وأنه افتتح داراً للنشر وأصبح بحاجة ماسة إلى إنتاج غزير يغطي إمكانيات دار النشر هذه فكانت هذه النقلة الكبيرة من الكيف إلى الكم ، ولا أريد أن يفهم من كلامي هذا أن كل نتاج نزار الأدبي والشعري في المرحلة الثانية هو من النوع العادي أو الضعيف ، حيث نجد بين طيات هذه الكتب قصائد من أجمل وأعذب القصائد وإن كانت قليلة بالنسبة للكم الهائل الذي قذف به إلى دار النشر ولكي لا أتجنى على نزار أسوق هنا إحدى القصائد من ديوانه ( أشهد إن لا امرأةً إلا أنت 1979 ) يقول نزار في قصيدته (ألا تجلسين قليلاً 2/799 ) :
ألا تجلسين قليلاً .. ألا تجلسين ؟
فإن القضية أكبر منك وأكبر مني كما تعلمين
وما كان بيني وبينك لم يكن نقشاً على وجه الماء
ولكنه كان شيئاً كبيراً .. كبيراً .. كهذي السماء
فكيف بلحظة ضعف نريد اغتيال السماء
......
ألا تجلسين لخمس دقائق أخرى ؟
ففي القلب شيء كثير وحزن كثير
وليس من السهل قتل العواطف في لحظات
وإلقاء حبك في سلة المهملات
وإن تراثاً من الحب والشعر والحزن والخبز والملح والتبغ والذكريات
يحاصرنا من جميع الجهات
فليتك تفتكرين قليلاً بما تفعلين
فإن القضية أكبر منك وأكبر مني .. كما تعلمين
......
أنا لا أحاول رد القضاء
ولكنني أشعر الآن أن التشنج ليس علاجاً لما نحن فيه
وأن الحماقة ليست طريق اليقين
وأن الشئون الصغيرة بيني وبينك
ليست تموت بتلك السهولة
وأن المشاعر لا تتبدل مثل الثياب الجميلة
.....
أنا لا أحاول تغيير رأيك إن القرار قرارك طبعاً
ولكنني أشعر الآن أن جذورك تمتد في القلب
ذات الشمال .. وذات اليمين
فكيف نفك حصار العصافير
والبحر والصيف والياسمين
وكيف نقص بثانيتين شريطاً غزلناه في عشرات السنين
......
سأسكب كأساً لنفسي
وأنت ؟ تذكرت أنك لا تشربين
أنا لست ضد رحيلك .. لكن
تذكرت أن السماء ملبدة بالغيوم
وأخشى عليك سقوط المطر
فماذا يضيرك لو تجلسين لحين انقطاع المطر ؟
وماذا يضيرك لو تضعين قليلاً من الكحل فوق جفونك
أنت بكيت كثيراً
ومازال وجهك - رغم اختلاط دموعك بالكحل – مثل القمر
....
أنا لست ضد رحيلك لكن
لدي اقتراح بأن نقرأ الآن شيئاً من الشعر
علّ قليلاً من الشعر يكسر هذا الضجر
تقولين أنك لا تعجبين بشعري !!
سأقبل هذا التحدي الجديد بكل برود وكل صفاء
وأذكر كم كنت تحفلين بشعري
وتحتضنين حروفي صباح مساء
وأضحك من نزوات النساء
فليتك سيدتي تجلسين
فإن القضية أكبر منك وأكبر مني كما تعلمين
.....
أمازلت غضبى ؟ إذن سامحيني
فأنت حبيبة قلبي على أي حال
سأفرض أني تصرفت مثل جميع الرجال
ببعض الخشونة
وبعض الغرور
فهل هذا يكفي لقطع جميع الجسور ؟
وإحراق كل الشجر
......
أنا لا أحاول رد القضاء ورد القدر
ولكنني أشعر الآن أن اقتلاعك من عصب القلب صعب
وإعدام حبك صعب
وعشقك صعب وكرهك صعب
وقتلك حلم بعيد المنال
فلا تعلني الحرب .. إن الجميلات لا تحترفن القتال
ولا تطلقي النار ذات اليمين وذات الشمال
ففي آخر الأمر
لن تستطيعي اغتيال جميع الرجال
....
نلاحظ في هذه القصيدة كيف خيم عليها البرود والجمود وكيف يلفها الكلام العادي الفارغ في كثير من الأحيان ، أين الصورة المبتكرة ؟! أين العاطفة الدفاقة ؟! أين الموسيقى العذبة ؟! أين اللفتات الحالمة ؟! أين الرومانسية المحلقة ؟! أين... ؟! أين ... ؟! ... لقد غاب كل شيء ولم يبق إلا فكرة واحدة بسيطة هي أن حبيبته غاضبة منه وأنه يريد مصالحتها كأي رجل من الرجال يريد مصالحة حبيبته بكلام فارغ مكرور وبساطة أقرب ما تكون إلى الكلام العامي العادي ، ولتأصيل الفكرة أكثر نسوق ومن نفس الديوان قصيدته ( هل هذه علامة 2/762 ) :
لم أتأكد بعد يا سيدتي من أنت هل أنت أنثاي التي انتظرتها أم دمية قتلت فيها الوقت لم أتأكد بعد يا سيدتي فأنت في فكري إذا فكرت وأنت في دفاتري الزرقاء إن كتبت وأنت في حقيبتي إذا أنا سافرت وأنت في تأشيرة الدخول في ابتسامة المضيفة الخضراء في الغيم الذي يلتف كالذراع حول الطائرة وأنت في المطاعم التي تقدم النبيذ والجبن بباريس وفي أقبية (المترو) التي يفوح منها الحب و (الغلولواز) وفي أشعار (فرلين) التي تباع عند الضفة اليسرى من السين وفي أشعار بودلير التي تدخل مثل خنجر مفضض في الخاصره .....
ومن ديوانه ( هكذا أكتب تاريخ النساء 1981 ) أنقل لك عزيزي القارئ قصيدته ( هل تجيئين معي إلى البحر 2/865 ) :
هل تجيئين معي إلى البحر ؟
هل تهربين معي من الزمن اليابس إلى زمن الماء ؟
فنحن منذ ثلاث سنين
لم ندخل في احتمالات اللون الأزرق
لم نمسك بأيدينا أفقاً .. أو حلماً .. أو قصيده
لقد جعلتنا الحرب الأهلية حيوانين بريين يتكلمان دون شهيه
ويلتصقان ببعضهما بصمغ العادات المكتسبه
قهوتي التركية عاده مكتسبه
وحمامك الصباحي عادة مكتسبه
ولون مناشفك عادة مكتسبه
فلماذا لا تلبسين قبعة الشمس وتأتين معي
إنني ضجرت من هذه العلاقات الأكاديميه
التي أعطتك شكل النساء المتزوجات دون حب
وأعطتني شكل القصيدة العموديه
....
كل الأشياء بين أيدينا
هشه .. قابله للكسر
كل أيام الأحد
تتشابه كمنشور سياسي
كل أنواع الكحول لها مذاق واحد .. ومفعول واحد
كل الطرقات إلى نهديك تؤدي إلى الانتحار
فلماذا لا نخرج إلى البحر ؟
إن البحر لا يكرر نفسه
ولا يعيد كتابة قصائده القديمه
البحر هو التغير والولاده
وأنا أريدك أن تتغيري وأن تغيريني
أريد أن ألدك وأن تلديني ............................( هكذا !!)
أريد أن تنقشيني بالخط الكوفي على جلدك ...... ( هكذا !!)
كما تنقش المرأة العاشقة اسم رجلها على صدرها
قبل أن يذهب إلى الحرب
أريد أن أمشي معك في شارع الشعر
وأنام معك تحت شجر الشعر
وأضع في يديك الصغيرتين أساور الشعر
أريد أن أطلق سراحك من هذه الزنزانة العربيه
التي أعطتك شكل النساء المتزوجات دون حب
وأعطتني شكل القصيدة العموديه
......
لقد انفجرت بيروت بين أصابعي
كدواة بنفسجية
ودخلت شظاياها في صوتي وأوراقي
فساعديني على ترميم وجهي
وترميم لغتي
فاللغة قطار ليلي بطئ
ينتحر فيه المسافرون من شدة الضجر
فتعالي نطلق النار على الأحرف الأبجدية
ألا يمكنني أن أحبك خارج المخطوطات العربية
وخارج الفرمانات العربية
وخارج أنظمة المرور العربية
وخارج الأوزان العربية
فعولن مفاعلين فعولن مفاعيلن
ألا يمكنني أن أجلس معك في الكافتيريا ؟
دون أن يجلس معنا امرؤ القيس
ألا يمكنني أن أدعوك إلى الرقص
دون أن يرقص معنا البحتري
فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن
ثم ألا يمكنني أن أوصلك إلى منزلك في آخر الليل
إلا بحراسة رجل المخابرات عنترة العبسي
......
ويستمر مسلسل الهبوط والانحدار عند نزار حتى يصل به المقام إلى كلمات مبهمة سطحية ومعان باهته عادية يقولها أي إنسان قاعد على قارعة الطريق لو كان لديه الحد الأدنى من معرفة اللغة العربية بل ربما اللغة العامية ، وذلك مقارنة ببعض شعراء العامية أو الشعر النبطي والذي كثيراً ما يحتوي على صور فنية رائعة رغم عاميته ، وتأكيداً لهذا الكلام وحتى لا يقال أنني أتجنى على نزار أسوق قصيدته التي عنوانها ( فاطمة في الريف البريطاني 4/148 ) :
شهر ديسمبر رائع
شهر ديسمبر في لندن هذا العام رائع
فيه هاجمني الحب
وألقاني جريحاً كمصابيح الشوارع " ما هذا التشبيه المادي الخشن "
هذه فاطمة تلبس بنطالاً من الجلد نبيذياً .................. " هكذا !!! )
وتوصيني بأن أمسكها من يدها كي لا أضيع ............ " !!! "
وهي تدري جيداً أنني من يوم ميلادي ببجر الحب ضائع
فلماذا في (هارودوز) نسيتني ؟
ولماذا غضبت مني لماذا أغضبتني ؟
وهي تدري أنني من دونها لا أقطع الشارع وحدي ..... " ما هذا !! "
لا ولا أدخل في المعطف وحدي ........................ " هكذا !! "
لا ولا أشرب فنجاناً من القهوة وحدي ............... " طفل جاهل !! "
لا ولا أعرف أن أرجع للفندق وحدي
فلماذا في (هاردوز) صلبتني ؟
فوق أكداس هداياها صلبتني
وهي تدري أنني (أعبدها ) .......................... " أعوذ بالله !! "
من رأسها حتى الأصابع
شهر ديسمبر رائع
.....
شهر ديسمبر يبقى ملكاً بين الشهور
فهو أعطاني مفاتيح السماوات ...................... " ما هذا !! "
وأعطاني مفاتيح العصور
ورماني كوكباً مشتعلاً
حول نهديك يدور
سقطت في لندن كل التواريخ
وغابت تحت جفنيك جبال وبحور
شهر ديسمبر ألغاك وألغاني
فنحن الآن ضوء غير مرئي وعطر وبخور
شهر ديسمبر مجنون تعلمت به
أن تثوري .. وتعلمت به كيف أثور
شهر ديسمبر ألغى عقدة الحب التي نحملها
فإذا بي مثل عصفور طليق
وإذا بك يا فاطمة دون جذور
لندن باردة جداً فيا فاطمة
افتحي فوقي مظلات الحنان
لندن قاسية جداً وأني خائف جداً
فردي لي شعوري بالأمان
خبئيني تحت قفطانك يا فاطمة مثل طفل ......... " هكذا !! "
فلقد ضيعت أبعادي وأبعاد المكان
حاولي أن تصبحي أمي كما أنت الحبيبة من زمان
لم أضع رأسي على صدر حنون من زمان
......
لندن حبي .. وفي باركاتها غنيت أحلى أغنياتي ..... " ما هذا الخلط "
لندن مجدي .. ففيها قد تغرغرت بأولى كلماتي
لندن حزني .. على كل رصيف دمعة من دمعاتي
لندن عاصمة القلب وفيها قد تلاقيت بست الملكات
لندن تعرف وجهي جيداً .. فأنا جزء من اللون الرمادي
ومن أعمدة النور .. وأضواء الميادين وصوت القبرات
منذ أن جئت إليها عاشقاً .. أصبحت لندن إحدى المعجزات
لندن تأخذني كالطفل في أحضانها
وطوال الليل تتلو من كتاب الذكريات
لندن صاحبة الفضل .. فقد
علمتني العشق في كل اللغات
....
هذه فاطمة تقتحم التاريخ من كل الجهات
إنها تدخل كالإبرة في كل تفاصيل حياتي
آه كم تعجبني فاطمة
عندما تجلس كالقطة في شعري وتبتل بأمطار دواتي
......
مبحر في زمن الكحل ولا أدري لأين ؟
مبحر فيك ولا أدري لأين ؟
يا صباح الخير يا عصفورتي .. أنا في أحسن حالاتي
فما أطيب القهوة في قربك ما أرشق هاتين اليدين
ثم ما أروع أن يكشف الإنسان في ذات صباح لندني
في مكان ما على ظهر الحبيبة شامتين .......... " اكتشاف خطير !! "
لم تكونا عندما جئت مساء البارحة مولودتين
فاتركيني أضفر الشعر الذي طال في لندن
من فرط حناني بوصتين ............................... " ما هذا !! "
واتركيني أمسك الشمس التي تغطس بين الشفتين
اتركيني أوقف التاريخ يا فاطمة لحظة أو لحظتين
أخذوا كل عناويني ولم يبق أمامي
غير هذا الشارع الضيق بين الناهدين
......
أما قصيدته التالية " فاطمة في ساحة الكونكورد 4/200 " فهي استمرار في الهبوط على كل الأصعدة الفنية والأدبية ، وهي أقرب إلى الكلام العادي الذي يتفوه به أي شخص على قارعة الطريق ، إضافة إلى الخلط وعدم الترابط بين الأفكار ، يقول نزار :
يمطر على كحلك الحجازي
وأنا في وسط ساحة ( الكونكورد )
فأرتبك وترتبك معي باريس ...................... ( ما هذا !! )
تسقط حكومة وتأتي حكومة ........... ( وما دخل الحكومات !! )
وتطير الجرائد الفرنسية من أكشاكها ........ ( و ما دخل الجرائد والأكشاك في الحب !! )
وتطير الشراشف من فوق طاولات المقاهي .. ( وما دخل الشراشف والطاولات !! )
وتطلب العصافير اللجوء السياسي
إلى عينيك العربيتين
.....
أيتها العربية الداخلة كالخنجر في صباحات باريس
يا من ترتشفين القهوة بالحليب ........................ " هكذا !! "
ما كان حسابي أن ألاقيك في محطة الحزن
وأن تلتقطيني بأهداب حنانك
وأنا في ذروة البرد والخوف والانكسار
لكن باريس قادرة على كل شيء
ونبيذ بوردو الأحمر هو الذي سيلغي الفروق ................ " هكذا !! "
بين صقيع أوربا وشموس العالم الثالث
بين حياتك الجميلة وبين جنوني
.....
أيتها العربية التي تتكسر على أرصفة ( المونمارتر )
فتافيت ياقوت .. وغابة سيوف
يا من يتصالح في عينيها الضوء والعتمة
والماء والحرائق
ما كان في حسابي وأنا أتمشى بين (الفاندوم) و (المادلين)
أن أدخل في جدلية اللون الأسود
وإشكالية العيون الواسعة كخواتم الفضة .............. " ما هذا التشبيه ؟ !! "
ما كان في حسابي أن أدخل في تفاصيل التاريخ العربي
فلقد تخانقت مع تاريخي .. وجئت إلى باريس لألغي ذاكرتي
ولكن ما إن نزلت الطائرة
حتى نزلت ذاكرتي معي
ونزل شعرك الغجري معي
ونزلت أثوابك ومعاطفك وأدوات زينتك معي
لتسد مداخل الطرقات من مطار (شارل ديغول) إلى كنيسة (نوتردام)
.....
يا فاطمة ساحة ( الكونكورد )
يا فاطمة الفاطمات
أيها السيف المرصع بأجمل الآيات
أيها الخصر الذي يقول القصائد والأغنيات
أيتها اللغة التي ألغت جميع اللغات
أرحب بك في باريس وأرجو لك إقامة سعيدة فوق أعشاب صدري .." ما هذا !! "
......
وهكذا .. وهكذا نسير مع نزار في مثل هذه التفاهات التي لا تكاد تشم فيها رائحة الشعر ولا تكاد ترن في أذنك موسيقى الشعر ناهيك عن الصور والمعاني والأفكار السطحية العادية التي يتحدث بها أي رجل إلى أي امرأة على قارعة الطريق ، وإضافة إلى هذا وذاك الصور والتشابيه المغلوطة التي لا تنسجم مع جو القصيدة بشكل عام .
ولو راجعنا مؤلفات نزار في الشعر والنثر لوجدنا أنه أنتج خلال الثلاثين سنة الأولى من حياته الأدبية مجلداً واحداً فقط بينما كان نتاجه في الثلاثين سنة الأخيرة من حياته بقيت نتاجه الأدبي والذي يعادل عشرة أضعاف المجلد الأول ، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على طبيعته المادية ، فعندما اطمأن إلى تربعه على سدة الشاعرية وعندما أخذت كتبه ومؤلفاته تنتشر في أصقاع الدول العربية وتترجم إلى لغات عالمية أخرى ، وعندما افتتح داراً للنشر حتى يكون الكسب مضاعفاً وجد نفسه أنه مضطراً للتخلي نوعاً ما عن الكيف ، عن الكلمة الرائعة المؤثرة ، عن الصورة البديعة ، عن الفكرة المحلقة ، عن الموسيقى الحالمة ، عن القصيدة الرصينة ليكتب هذا الكم الهائل من المؤلفات ولكن يا للأسف بأسلوب هابط سطحي بسيط ، ولقد اعتمد نزار على الزخم السابق في تسويق كتبه الأولى ليسوق كتبه التالية ، والناس لابد أن تشتري هذه الكتب مادام مؤلفها ذلك الشاعر اللامع ، وفعلاً انطلت هذه الخديعة على الكثير من الناس ، خاصة في عصر شح فيه الإنتاج الأدبي بعد رحيل العديد من عمالقة الأدب والشعر فكان أن وجدت هذه الكتب الهابطة لها سوقاً رائجة ، لا لقيمتها الأدبية أو الفنية ، ولكن لأنها مختومة بالعلامة التجارية المسجلة ( نزار قباني ) ، ولكن هل تستمر هذه الخديعة مدى الدهر ، وهل تنطلي هذه اللعبة على الناس ، لا والله ، لقد أخذ العديد من الكتاب والأدباء بتعرية هذا الواقع الجديد في نتاج نزار شعراً كان أم نثراً ، وأخذ القراء من الشباب والفتيات الذين هم جمهور نزار وشعبيته على مساحة الوطن العربي يشعرون بخيبة أمل كبرى عندما يقرءون أحد الكتب الجديدة لنزار قباني ، مما أدى إلى العزوف شيئاً فشيئاً عن كتب نزار ومؤلفاته ، وعندما أحس نزار أن البساط أخذ يسحب من تحت رجليه ، بدأ يفكر في اتجاه جديد يستطيع به أن يعيد جمهوره إلى حظيرة شعره وأدبه فكان ما سماه بالشعر السياسي ، ولقد كان نزار في شعره السياسي انتهازياً إلى أبعد الحدود ، حيث كان يتجرأ على الحكام والملوك والرؤساء وعلى أمراء النفط وعلى الأحزاب والجماعات وعلى الحروب وغير ذلك بأسلوب تهجمي بعيد كل البعد عن النقد الموضوعي المهذب الذي يؤدي إلى الإصلاح ، ولكنه آثر سلوك الأسلوب الهجومي الهمجي أحياناً وذلك لأن جمهوره من الشباب والفتيات لا يعترفن بالأساليب الموضوعية الإصلاحية الهادفة ، إنما يعترفون فقط بعنفوان الشباب والتحدي والهجوم حتى لو كان في ذلك إثارة القلاقل والبلابل وحتى لو كان في ذلك دمار للأمة .
وفعلاً وجد هذا الاتجاه طريقه للنشر ومن ثم وجد طريقه أيضاً إلى جمهور نزار بعد الجفوة والقطيعة والابتعاد ، وبذلك تحقق قول نزار " لعبت بإتقان وهذه هي مفاتيحي " حيث أجرى في عام (1990) مقابلة صحفية تحت هذا العنوان فهو وإن لم يفصح عن دخيلة نفسه وأسلوبه في خداع الجماهير إلا أن عنوان الكتاب يكفي لفضح ما يعتلج في نفسه .
وضمن هذا الاتجاه الجديد أخذ يكيل الاتهامات والانتقادات اللاذعة للحكام العرب ، وفقط للحكام العرب ، رغم أن الفساد قد عم حكام العالم بأسره ولكنه بخلفيته التغريبية وحبه للغرب وتطلعه إلى مسيرة الغرب وحضارة الغرب بكل ما فيها من محاسن ومساوئ ، وجعل الغرب مثله الأعلى في الحضارة والتحرر والتقدم والمدنية وكذلك مثله الأعلى في الإباحية والوجودية واللادينية وغيرها من المفاهيم الفاسدة .
ثلاثون عاماً مرت على نزار ولم يفتح عينيه إلا على ساق المرأة ونهدها وخصرها والعيون الخضر وفمها وشفاهها والقبلات واللمسات والجنس ، بل وصل إلى أكثر من ذلك فقد أخذ يصف أتفه الأمور التي تخص المرأة ، جواربها ، أحمر الشفاه ، حاملة النهد ، المانيكور ، الفستان الأصفر والأحمر ، سحب الدخان الصادرة عن تدخينها ، فنجان القهوة ، الصليب الذهبي في عنقها ، لقد شغل حياته الأدبية جلها خلال ثلاثين عاماً من حياته الشعرية في مثل هذه التوافه من المعاني والأفكار ونسي ضمير الأمة المعذب ، نسي المؤامرات التي كانت تحاك ضد شعوب هذه المنطقة نسي وعد بلفور والهجمة الشرسة على شعب فلسطين ، نسي اتفاقيات ( حسين مكماهون ) التي كانت البوابة العريضة التي دخل منها الاستعمار الغربي فيما بعد ، نسي اتفاقات ( فيصل كلمنصو ) التي خدعوا فيها العرب ، نسي الاستعمار الغربي الوحشي الفرنسي منه أو البريطاني أو الإيطالي الذي ذبح من أمتنا الملايين ، أجل لقد نسي نزار ضمير الأمة ، وهل يتذكر ضمير الأمة من يعيش صباه بين أفخاذ النساء ، أو من هبط إلى مستوى العاهرات والشاذات .
وبعد ثلاثين سنة أو ربما أربعين سنة صحا نزار ليجد رصيد مبيعاته من الكتب قد انخفض بشكل كبير فلقد مل الناس قراءة الشعر بعد أن فتحت المسارح أبوابها ومل الناس قراءة الجنس بعد أن أخذت دور السينما هذا الأمر على عاتقها ، ومل الناس التغزل بالجمال التقليدي للمرأة بعد أن دخلت المجلات الإباحية حياة الناس ، ومل الناس أحمر الشفاه والمانيكور الأحمر حيث أصبحت الألوان الأخرى هي رمز التقدم والمدنية و (الموضة) ومل الناس شعر نزار بشكل عام عندما لم يجدوا عنده جديداً غير جسد المرأة ، أجل صحا نزار بعد سبات عميق لينظر إلى المآسي التي خلفتها عجلات الزمن على هذه الأمة المصابره ، صحا ليرى الوحشية والهمجية التي تمارس ضد شعوب هذه المنطقة تحت تأثير الأحقاد والرواسب الصليبية ، صحا ليبدأ رحلة جديدة عبر الكلمة ، وعبر الفكرة ، وعبر القصيدة ، في شعره السياسي الذي أخذ على عاتقه النقد اللاذع للأوضاع السياسية وللحكومات العربية الديكتاتورية وللرؤساء والملوك والأمراء ، وحتى وصل به المطاف إلى الأميرات حيث يشكل هذا الموضوع حساسية كبيرة لدى شعوب منطقة الجزيرة العربية ، وبالفعل وجد شعره السياسي طريقه إلى الناس وأخذ الشباب الثائر يلتقفون شعره السياسي بتلهف وتعطش وذلك في ظل الحكومات المستبدة التي خنقت الحريات وكتمت الأفواه وأجبرت الناس إلى طمس هويتهم وشخصيتهم والسير في طريق واحد لا يوجد غيره هو طريق العبودية والذل والتبعية لهؤلاء الحكام وهكذا تحقق لنزار طموحه في العودة إلى الجماهير والعودة إلى الإنتاج الغزير من كتبه وأشعاره ، ولكنه أخطأ التقدير عندما ظن ، أن التعرض للحكام والقادة والملوك والأمراء والأميرات أمر هين لين سهل المنال كتعرضه بالنقد للمشايخ والخطباء والواعظين أو كتعرضه بالكشف والتحليل لنهد المرأة أو ساقها أو خصرها ونسي أنه بسلوكه لهذا الطريق إنما هو يلعب بالنار أو بأصابع (الديناميت) وبالفعل لقد فتح بسلوكه هذا الطريق إلى المشاكل والعقبات التي لا تحمد عقباها ، لقد وجد أن للسياسة مخالب وأنياب حادة ، لقد وجد أن للسياسة قوى مدمرة لا ترحم ، فأخذ يعد العدة للتراجع والانسحاب والاعتذار ، فلقد كان مهزوماً من داخله وإن كان يظهر الشجاعة والبطولة والتحدي ، فكان اعتذاره لجمال عبد الناصر بهذا الشكل الذليل أول هزيمة سياسية تلتها بعد ذلك هزائم عده على كل الأصعدة خاصة بعد اغتيال زوجته بلقيس ووفاة ابنه توفيق وهو في ريعان الشباب ، وظل نزار بعد ذلك الانتصار الكبير في شعره السياسي ينتقل من هزيمة إلى هزيمة ، ومن تنازلات إلى خضوع واستكانة حتى أعلن توبته في آخر حياته ، فسمح لجثمانه بالعودة إلى سورية وإن لم يسمح له شخصياً بذلك في حياته .. وليت نزار وقف عند هذا الحد واعترف بهبوطه وانحداره أو سكت ولم يقل شيئاً ، فالصمت كثيراً ما يكون أبلغ من الكلام ، ولكنه كان يتبجح ويخترع النظريات تارة في الحداثة ، وتارة بتحطيم القصيدة العمودية ، وتارة بالثورة على القافية ، وتارة بالثورة على اللغة العربية ، وتارة بالثورة على الحدود الفاصلة بين الشعر والنثر وكل ذلك مرده إلى ضعفه وهبوطه وانحداره ، ذلك لأن عبقريته الشعرية قد ذبلت ، وقريحته الشعرية قد جفت ، وأوتاره الموسيقية قد تقطعت أو تهدلت ، فلم تعد تسمع منه تلك الموسيقى العذبة الهادئة أحياناً والصاخبة أحياناً أخرى ، لم تعد تقرأ في شعر نزار تلك الفكرة الحالمة المحلقة لقد هبط بأفكاره إلى الأرض ، إلى التراب إلى المادة الخشنة ، يقول نزار في قصيدته " مع فاطمة في قطار الجنون 1/173 " :
فأنا تطلبني الشرطة للتحقيق في ألوان عينيك
وفيما تحت قمصاني
وفيما تحت وجداني
وأسفاري وأشعاري الأخيرة
وأنا لو أمسكوني أسرق الكحل من عينيك
صادتني بواريد العشيرة
................
وعلى هذا المنوال الخشن يستمر نزار في صياغة كلماته المبعثرة التي لا يكاد يربطها رابط من وزن أو قافية أو فكرة موحدة ، أو لفتة حالمة محلقة ، لقد أصبح الحب في الثمانينات عند نزار شرطة ومخابرات وعسكر وبواريد وسرقه وأسوار وإرهاب واضطهاد وقطارات وجنون ... إلى آخر ما هنالك من كلمات خشنة مقززة ينفر منها كل من لديه الحد الأدنى من الإحساس الفني والأدبي .
وحتى لا أظلم الرجل في المرحلة الثانية من حياته الأدبية فقد يظهر وسط الظلام نجوم تلمع بين فترة وأخرى ، وقد يظهر بين الركام جواهر تبرق ، ولقد تقرأ بين السطور لفتات رائعة تعيدك إلى العصور الأولى من شعر نزار ، تعيدك إلى عاطف جياشة ، وشاعرية متدفقة وموسيقى عذبه خاصة عندما يمر بتجربة شعورية عنيفة مثل مقتل زوجته بلقيس ، وموت ابنه توفيق وغير ذلك ، لنستمع إلى نزار في قصيدته " بلقيس 4/9 " ولنقارن هذه الكلمات مع الشواهد السابقة ، يقول نزار :
شكراً لكم ..
شكراً لكم ..
فحبيبتي قتلت .. وصار بوسعكم
أن تشربوا كأساً على قبر الشهيده
وقصيدتي اغتيلت
وهل من أمة في الأرض
- إلا نحن – نغتال القصيده
بلقيس كانت أجمل الملكات في تاريخ بابل
بلقيس كانت أطول النخلات في أرض العراق
بلقيس إذ تمشي ترافقها طواويس وتتبعها أيائل
بلقيس يا وجع القصيدة حين تلمسها الأنامل
هل يا ترى من بعد شعرك سوف ترتفع السنابل
قتلوك يا بلقيس .. أية أمة عربية ؟
تلك التي تغتال أصوات البلابل
بلقيس لا تتغيبي عني
فإن الشمس بعدك لا تضئ على السواحل
هل تعرفون حبيبتي بلقيس ؟
فهي أهم ما كتبوه في كتب الغرام
كانت مزيجاً رائعاً
بين القطيفة والرخام
كان البنفسج بين عينيها ينام ولا ينام
بلقيس يا عطراً بذاكرتي
ويا قبراً يسافر في الغمام
قتلوك في بيروت مثل أي غزالة
من بعد ما قتلوا الكلام
بلقيس ليست هذه مرثيه
لكن على العرب السلام
بلقيس مطعونون .. مطعونون في الأعماق
والأحداق يسكنها الذهول
بلقيس أخذت أيامي وأحلامي
وألغيت الحدائق والفصول
يا زوجتي .. وحبيبتي .. وقصيدتي وضياء عيني
قد كنت عصفوري الجميل .. فكيف هربت يا بلقيس مني
.....
وهكذا تصعب المقارنة بين هذا وذاك ، ومن هذه المقدمة التي لا بد منها إلى الخوض الصعب المستحيل في شعر نزار وأدب نزار ، فلقد اتخذت قراري في العبور الصعب ، في بحور نزار ، بكل ما فيها من تناقضات ، بكل ما فيها من إبداع ، بكل ما فيها من سطحية ، بكل ما فيها من عاطفة ، بكل ما فيها من كفر وإلحاد ، بكل ما فيه من صوفية وإيمان بكل ما فيها من وصوليه ، بكل ما فيها من أنانية ، بكل ما فيها من نرجسية ، بكل ما فيها من شاعرية موسيقية ، أجل لقد اتخذت قراري ، فهل أصل مع نزار سالماً إلى شاطئ الأمان ؟! لست أدري فالأيام القادمة هي الحكم الفصل في هذه القضية .
وقبل أن أختم هذا الفصل أريد أن أنوه إلى نقطة أخرى هامة تثبت منهج نزار المادي الذي نقله من الكيف إلى الكم ذلك أننا نلاحظ في دواوينه الأولى أن الصفحة الواحدة مليئة بأبيات الشعر المتعددة والتي قد تصل إلى ثمانية عشرة سطراً ، وكثير من هذه الصفحات تبدو مليئة مكتظة بأبيات الشعر ، أما في دواوينه المتأخرة ، فنجد أنه قد إلتزم أسلوب الشعر الحديث فأخذ يقطع البيت إلى شطرين ، ويقطع الشطر لاى كلمات كل كلمة في سطر والصفحة بمجملها قد لا تحتوي أكثر من عشرة كلمات موزعة على أربعة أسطر لنأخذ مثلاً الصفحة 5/405 ، يقول نزار :
لقطات في متحف الشمع
كلام يديك الحضاريتين
كلام طويل طويل
فهل تسمحين لعيني
بتسجيل هذا الكلام الجميل ؟
وانتهت الصفحة على هذا الشكل أما الصفحة التالية 5/408 فهي ليست أكثر حظاً من سابقتها ، يقول نزار :
يداك
حصانان يغتسلان بدمعي
فهل تسمحين لأذني
بشرب دموع الصهيل ؟
وانتهت الصفحة هذه ، أما الصفحة التالية 5/409 ، يقول نزار :
يداك تراث من الشعر
يمتد عشرين قرناً
فهل تسمحين بتدوين هذا التراث الأصيل ؟
وانتهت هذه الصفحة على هذه الشاكلة ، أما الصفحة التالية 5/410 ، يقول نزار :
يداك كتابا صلاة أمامي
وشمع
وزيت
وسقف
وبيت
وظل ظليل ..
أرأيت أخي القارئ الكريم كيف يقطع أوصال القصيدة لا لهدف معين وإنما لزيادة عدد الصفحات ، ولو أنه ملأ الصفحات بشكل صحيح على غرار المجلد الأول لا ختصر ثلاثة أرباع هذا المجلد على أقل تقدير ، هكذا أصبحت تجارة الكلمة عند نزار سلعة تباع وتشترى وبأسلوب بعيد كل البعد عن الأمانة العلمية والأدبية ، وأخلاقيات الكتابة والنشر .
وسوم: العدد 716