دياليكتيّات سيّابية
دراسة لقصيدتين عن السياب،قامت بها الدكتورة المبدعة (أسماء الغريب ) من المغرب..ممتنة لعينيك الجميلتين وهما تلاحقان العبارات.
بين نجاح إبراهيم وعبد الجبّار الفيّاض
(دراسة مقارنة)
1) نجاح في حضرة السّيّاب
وأيّةُ حضرةٍ تكونُ هذه الّتي يسعى إليها الأدباءُ من كلّ صوبٍ وحدبٍ؟ وأيّهم أقْدَرُ على شروط الوصالِ والولوجِ فيها وبِها؟ بل من ذا الّذي إذا وصلَ السّيابَ رأىَ، وأصبحَ قابَ قوسين أو أدنى مِنْ سِرِّ الشِّعْرِ، وشُموعِ القصيدِ؟!
قلّةٌ هُمُ مَنْ وقَفُوا عندَ سؤال العِشقِ هذا بقلبٍ يفيضُ يقيناً وإيماناً ومحبّةً، قلّةٌ هُمُ ومَعهُمُ الأديبةُ والنّاقدةُ السّوريّة د. نجاح إبراهيم الّتي حينما طرقتِ البابَ، خرجَ إليها السّيابُ بكلّ ما فيه من خصبٍ ومطرٍ، وأعطاها مفتاحَ الحرفِ، وألقى بين يديها بسرِّ القصيدة، فما كان منها سوى أن رأتهُ لا كما يراهُ النّاسُ، ولكن كما يراهُ المُتَوَّجُونَ بإكليلِ شَوْكِ البصيرةِ، وشَوْقِ النّور والرّؤيا.
وحينمَا حانتْ ساعةُ قبضِ المعانِي، وشارفتْ نجاحُ على مُغادرة سجّادةِ البَسْطِ، أرسلَ إليها بدرُ يراعةً صغيرةً، أشرقتْ بفكرِها وهمستْ في قلبِهَا قائلةً لها: [القيامةُ لا تتحقّقُ إلّا بالموتِ، والموتُ الحقُّ لا يكونُ إلّا فوقَ الخشبة، وهذه خشبةُ السّيّابِ، وهذا ألمُهُ الدّفينُ، وتلك أوجاعُه القاتلة، فانظري بأيِّ دواء ستُسَكّنِينَ باءَ البلاءِ والبُكَاءِ، وبأيِّ إكسيرٍ أو قُبْلةٍ حُروفيّة ستعيدينَ إلى هذا الصّبي النّحيل الحياة؟!]، وما هي إلّا بضعة أيّام حتّى فكّتْ نجاحُ رُموزَ اليراعةِ ونِقاطَها، وبدأتْ في كتابةِ مُؤَلَّفِهَا (أصابعُ السّرطانِ) الّذي خصّصتُه لإشكاليّةِ المرضِ والوجعِ والموت البطيء في حياة شعراء وكُتّاب ما قاوموا الدّاء العُضالَ، وأصرّوا على العطاء سوى لأنّهم يحملُون بدواخلهِم رسالةً كونيّةً ظلّتْ خالدةً وإنِ وُوريتْ جثامينُهم الثَّرَى. ولمْ يكُنْ كِتابُ الدّكتورة نجاح هذا ليكتملَ لوْ لَمْ تُخاطِبْ فيه بنونِ الرّوحِ بوْحَ السّيّابِ وهُو تحتَ نير المرضِ، وعلى فِراش الاحتضارِ داخلَ وخَارجَ العراق.
وإذْ هِيَ فِي حضْرَتِهِ تقرأُ سيرتَه وأعمالهُ، اكْتَوَتْ بأوَارِ حَرفهِ، واتّحدَتْ بسرِّهِ الشِّعرّي، وكَشفتْ لهَا القصيدةُ لآلئَها ومرجانَها، فكانَ أنِ احتدمَ الشّوقُ في القلبِ، وباتتِ الشّاعرة تتوقُ إلى الوصال الفعليّ والرّؤيا الحقّة، اللّذانِ لمْ يتحقّقا لها واقعاً وعياناً إلّا حينما سافرتْ على بساط القصيدِ في شهر كانون الثاني من سنة 2017، إلى أرضِ المحبّة والعزّة والعطاء والخير والنّماء؛ عراقَ الكَرمِ والقلم، عراقَ الحضارة والكتابة الأولى، عراق المربد وأنشودة المطر.
وحينمَا كان اللّقاءُ وجدتْ نجاحُ بدراً يلبسُ بهاءَ العراق، وفي سماء صدرِه يُحَلّقُ نسْرُ العزّة والكرامَة، فحيّاها بكلّ ما في أرض العطاء من نخيلٍ، وحملها إلى سادة البلاد وأشرافِها، وحينما قدّم حرفَها إلى جمهورها العريض، أخذَها إلى حيثُ نصب الذّكرى، وهناك باح لها وهي عند قدميْه بقصيدتهَا (السيّابُ يشقُّ قميص الولادة). وعادتْ نجاحُ، وفي القلب شمسُ الشّعر الّتي أشرقت حبراً دافقاً فوق ورق القصيدة، وزغردَ القلمُ، وغرّدتِ الأشعارُ كالعنادل فوقَ شجرةِ الحُروفِ.
2) السّيّابُ يشقُّ قميصَ الولادة
في قصيدتها هذه تضعُ الدكتورة نجاح بينها وبين السيّاب حاجزاً أثيريّاً، أسمّيه بحجابِ الاتّصال، أيْ ذاك الّذي لمْ يتحقّقْ إلّا بعد أنْ خلعتِ الشّاعرةُ نَعْلَيِ البُعدِ، وجلستْ عند قدميْ بدرٍ لتكونَ المُقاربةُ من أسفل إلى أعلى، ويَظْهَرَ التّجلّيُّ العملاقيُّ للسّيّابِ مُتجسّداً في قولِ الشّاعرة: ((نظري يرتفعُ إليكَ / مارداً تبدو)). وهذه المسافةُ المُتَحَقِّقَةُ بين قُطبَيْ منظومةِ الوِصال هي مسافةٌ زمكانيّةٌ، يتّحِدُ فيها الزّمانُ بالمَكانِ، وإذ أقول هذا فإنّي أعني زمنَ جرد السّيرة الذّاتية الّذي حقّقتهُ الشّاعرة من خلال التوقّف أوّلاً عند أهمّ الصّفات والعناصرِ الّتِي ميّزتْ ووسَمَتْ حياةَ السّيابِ وأجردُ بعضَهَا كما يلي:
- عنصر الغربة: ((بدأتَ حياتكَ غريباً / وغريباً انتصبتَ هنا))
فعلُ الانتصابِ الّذي استخدمتْهُ الشّاعرة في البيت الثاني من قصيدتها يقودُ إلى حَقْلَيْنِ سيميائِيَيْنِ، يدلُّ الأوّلُ منهُمَا على زيارةِ الشّاعرة لنصب بدر شاكر السّياب بكورنيش شطّ العرب في البصرة، حيثُ يقفُ التمثالُ شامخاً والسّيّاب بيديْه كالرّمحِ يشيرُ بواحدة إلى الأمام والأخرى إلى الأسفل، وهي الحركةُ التي ظهرت جليّةً في البيتيْنِ الثّالثِ والرّابع حينما قالت نجاح: ((أعياكَ الوقُوفُ المُرُّ، ويداك الرّامحتان بالشّوق نحو الخلاص، ولا خلاص!))، وهذا الحقل السيميائي يعزّزُ أكثر فأكثر ما ذهبتُ إليه حينما قلتُ إنّه ثمة مسافة زمكانية تفصل بين الاثنين، وتتمسكُّ نجاحُ بالحفاظ عليها وهي واقفة أمام النّصب حتّى تتمكّنَ من تكبير بؤرة الرّؤيا والنفوذ إلى أعماق التجربة السيّابيّة.
أمّا الثاني من الحقلين فهو يُستنْبَطُ من سابقهِ، لأنه رديفُه الكامنُ، إذ الانتصابُ والوقوف دلالة على قامَة السّياب الأدبية السّامقة بما خلّفَ من نتاجاتٍ، وبما أحدَثَهُ في الشّعر من ثورة وتجديدٍ رغما عن المرض والخيباتِ والخياناتِ.
وإذ أؤوبُ القهقرى نحو ثيمَةِ الغُربة، فإنّي أجدُها في قصيدة نجاح على أوجهٍ؛ وأعني بأولاهَا؛ الغربةَ الإبداعيّة التي جعلتْ منَ الشّاعر المُجَدِّدِ غريباً بين شعراء زمانه، لأنّه جاءهم بأسئلة جديدةٍ لا قِبَلَ لهُم بها، وألقى لهم بصخرةِ الشّعر في جُبِّ المعنى فما أخذوا من الجُبّ والصّخرة سوى صدى السّقوط في ماءِ الحرف: ((آهٍ ما أكبرَ حجم الأسئلة! / والصّخر الوضعتَ إشارة عليه / كان ثقيلاً ثقيلاً!)).
أمّا الغربةُ الثّانية فهي غُربة الرّوح التي كثيراً ما أشار إليها السّيّابُ في أكثر من قصيدة وهو القائل:
[يا غربةَ الروح في دنيا من الحَجَر
والثلج والقار والفولاذ والضجر،
يا غربة الروح ... لا شمس فأأتلقُ
فيها ولا أفقُ]،
وتردُّ عليه نجاح إبراهيم فتقول:
((أتّفقُ وإيّاكَ يا سياب / أنّ الحزنَ الكبيرَ ضاق به الكون / والجيوبَ الفارغةَ يعششُ فيها السّراب / والخشبة الخرافية الأصداء / لا تليقُ إلاّ بالأنبياء)).
نعم، إنّ جيوبَ الشّعراء اليوم فارغة، لا معنى فيها، ولا ياقوت ولا زمرّد، إنها مجرّد قواقع خاوية لا شيء فيها سوى هديرِ وثرثرة الموجِ.
- عنصر المرض
كانَ المرضُ العُضالُ هو الخشبةُ التي صُلِبَ عليها السّيّابُ وقد قاربَها وتحدّثَ عنها في العديد من قصائده، إلّا أنَّ (سِفر أيّوب) تظلُّ أشدّها عمقا وصوفية وإشراقاً ويفتتحُها قائلاً:
[لك الحمد مهما استطال البلاء
ومهما استبدّ الألم،
لك الحمد، إن الرزايا عطاء
وإن المصيبات بعض الكرم.
ألم تُعطني أنت هذا الظلام
وأعطيتني أنت هذا السّحر]
وتردّ عليه نجاح قائلة:
((وتسألني: عن مرضى أعياهم الدّاء / ونهشتهم الغربةُ دونما مأوى / ولا مال ولا قلبٍ يقوى / عن بلادٍ كان حلمها الصّعود إلى الجلجلة))، وتُعمّقُ جوابَها هذا أكثر فأكثرَ في كتابها (أصابع السّرطان) الذي تتحدثُ فيه عن هؤلاء المرضى من المُبدعين الّذين أعياهم الدّاء ونهشتهم الغربة أمثال سنية صالح، ونعمات البحيري، ثم أمل دنقل وسعد الله ونوس، وممدوح عدوان.
- عنصر المرآة والصّورة
وأعني به عنصرَ التماثُل الدياليكتيكي بين الشّاعرة والسّياب، فهي كمن يقف أمام مرآة تقرأُ فوقها ملامحَ صورتها من خلال انعكاسات مُغرقة في التعقيد والعمق: فالسّيابُ غدا مرآتَها وهي ترى في حياتِه وتجربتِه حياتَها وتجاربَها، وانتكاساتِها وآلامها وأوجاعها، ولا أدلّ على ذلك من المقطع الّذي تقول فيه: ((وأنا من حملتُ الصليبَ، ومشيتُ بين رئتيك / في صمتِ مدىً رهيبْ / لأقطفَ الأنجمَ والأوسمةَ / ويسري فجرٌ في عروقِ الشجر / يا أيها اليشبهني! / يا عميقَ الجرحِ والاحتراقْ / يا من يسافرُ الوجعُ فيكَ / حتى منتهاه!)).
3) نجاح وعبد الجّبار
وإذ بي أمام أبياتِ نجاح التي تقول فيها: ((و"جيكور" الذي عشقناه / يناورُ القصبَ وسكناه / و"عبد الجبّار" يتوسّل لينامَ / لا، لا تنمْ يا جيكور / أخشى ألّا تفيق / وبعدها تصعقك بيادرُ النّدم!))، لا يحضُرني التّساؤلُ عن جيكور، وإنّما عنْ عبد الجبّار، وتُجيبُنِي الشّاعرةُ عبر نقطة هامشية قائلة: [إنّه الشّاعرُ العراقي عبد الجبّار الفيّاض الّذي طلب في قصيدته أن ينام جيكور]، ومنْ هُنا تبدأ رحلةُ البحثِ والتّنقيبِ عن هذَا الشّاعرِ، وعن قصيدته الّتي من خلالها ساجلتْهُ شعريّاً الدكتورةُ نجاح إبراهيم، فكان أن وجدتُ قصيدتَها وقصيدتُه حافلتَيْنِ بدياليكتيّات سيّابيّة في غاية العمق والإبداع، وهي الدّياليكتيّات التي سأتوقف عندها مليّا.
عُرِفَ عنِ الشّاعر عبد الجبّار الفيّاض، استخدامُه لعنصر الميثولوجيا في العديد من قصائده، والقصيدة التي بين يديّ وأعني بها (السّيّاب يموت غداً))، لا تخلو هي الأخرى من هذه الإحالات، لكنّ الّذي يشدُّ الانتباهَ أكثرَ هُو هذا التّناغمُ والاتّساقُ الجَدليّيْنِ بين نصّهِ ونصّ نجاح إبراهيم عبر مجموعة من المحاور الدياليكتكية ألخّص أهمّها في ما يلي:
- محور الالتزام:
ويضمُّ الالتزامَ بقضيةِ التّجْدِيدِ الشّعري، والالتزامَ بقضيّة الوطن العربيّ، ثمّ الالتزام بقضايا الإنسان بشكل فيه نوع من الإحالات ذات الطّابع الاشتراكي والشّيوعيّ الكثير. وأمّا فيما يهمُّ قضيّة التّجديد الشّعري فإن كلا الشّاعِريْنِ سارَا على منوالِ ما تركَهُ السّيّابُ من أثرٍ مُضِيفَيْنِ إليه الشّيء الكثير، وبغضِّ النّظرِ عنْ إشكالية الشّعر الحُرّ، وأهمّية شكل النّص وجوهره على ضوء ما حدثَ فيه من تغييرات شاملة، فقد ظهرَ في قصيدتَيِ الشّاعريْن قاموس لغويّ غنيّ وجديدٌ يزاوجُ بين الأسطورة والتّاريخ، وبين السّياسة والجغرافيا جامعاً بين المكان والزّمان، وقارئاً الحاضرَ على ضوء أحداث الماضي. ففي الوقت الّذي تتحدّثُ فيه نجاحُ عن سرّ اليمامِ والرّذاذ وتعني بهِ سرَّ القصيدة، يتحدّثُ عبد الجبّار عن بلاغة الحرفِ السّيّابي وهو يلبسُ غلالة التّجديد غير مبالٍ بعتاب صديقه القديم الخليل بن أحمد الفراهيدي كما هُو واضح في أبياته التي يقول فيها: ((عادَ عارياً / ليتوسّدَ ذراعَ الحسنِ البصريّ / يقبّلهُ الخليلُ معاتباً))، وماذا يعني هذا العُري الذي قال به عبد الجبّار، إذا لم يكن هو ذاتُه ذاكَ الذي ذكرتهُ نجاحُ في نصّها حينمَا عَنْوَنَتْهُ قائلةً: ((السيّابُ يشقُّ قميص الولادة))؟
وأمّا فيما يخصُّ الالتزامَ بقضيّة الوطن العربيّ، فإنّني أعني بها تجسُّدَ الأوطان عبر شعرائها، ونحنُ اليوم هاهُنا أمام العراق وسورية، وأمام شاعريْنِ يربطان ماضي السيّاب بحاضرهما، ويجدان ألّا شيء قد تغيّرَ، فإذا كان السيّابُ قد فتح عينيْه ووجدَ بلادَه تعاني الأمرّين من نير المُستعمر البريطانيّ، وقسوةِ الحرب العالمية الثانية، فإنّ نجاحاً وعبدَ الجبّار اليومَ يُقاسيان ويعانيانِ مِمّا يشيبُ لهُ الولدان، وكيف لا يكون الأمر كذلك وأعداءُ المحبّة والحقّ ينهشون ويفترسون جسد العراق وسورية من كلّ جانبٍ وجهة، ويقرعونَ أجراسَ حربٍ عالمية ثالثة بدون شفقة ولا رحمة: ما أشبه الأمس باليوم وما أشدّ وجعَ الشّاعِريْنِ، وهُما يضعانِ معاً في نصّيهما الإصبع على الدّمل فيقولُ هُو، أيْ عبد الجبّار ((آلامُ بروموثيوس / أيوب النّبيّ/ فارتر / مثلثٌ / صارَ معي مُربّعاً مُغلقَ الجّهات / حدَّ الاختناق / تابوتاً / أودعتهُ أنا / وآخرَ القصائد / لستُ محسنَ السعدون / همنغواي/ رصاصتي / لم أزلْ أحشو بها ثُقباً في رئتي))، وتردُّ عليهِ نجاحُ في إطار التزامها بقضايا الإنسان أوّلا وأخيراً قائلةً: ((ومتى لا نضيعُ في زحمةِ الحروب/ ومن دفءِ الأمانِ لا نعرى؟ /// كم أنت يا صديقي مُتعبُ ؟! / كي تظلّ مثل منارةٍ تتراعفُ بالأضواء / تسألني مقلتان روّجت زمناً لبيعهما / عن حلمِ الجائعِ بالرّغيف / وبحفنةِ حبّ من ابنة الجلبي؛ / ونافذتها الموغلة بالشناشيل / تمدُّ ضفائرَ أنوثتها، والأعين الرّامقة / يملؤها السهادُ والمواويلُ)).
- محور الإشارة والعبارة
إذا كانتْ نجاحُ تُشيرُ وتختصرُ، فعبدُ الجبّار يُفيضُ ويشرحُ، وما من فراغ أسميتُ كلامَهَا بالإشارة، وكلامَهُ بالعبارة، فحينما قالت نجاح: ((فلا تمت اليوم / ولا غدا / وعشْ يا سيابُ مُمزِّقاً / قمصانَ الولادة))، فإنّها وضعتْ سرّ القصيدة كلّه في كلمتَيِ القميص والولادة، لذا فإنّي سأقف عندهما بشكل مُسهب:
القميص كلمة لاهوتيةٌ إلهاميّةٌ وَحْيَوِيَّةٌ، وهي تحيلُ على قميص النّبوة؛ والشّعراءُ إخوة الأنبياء من حيثُ علاقتهم الروحية الوثيقة بالسرّ، والقميصُ هنا في نصّ نجاح يعني قميصَ الحرف، الّذي هو بمثابة مشيمةٍ للقصيدةِ الّتي لا يمكنُها أن تخرجَ من رحِم الخَلْقِ والتّخليق ما لم تُلْقَ في بئرِ الألم، والمعاناة، وتَذُقْ ألمَ المخاض والطّلق، لتَخْرُجَ وليداً جديداً يرمِي تبعات الماضي، ويغسلُ عن نفسه صدأَ السّنينِ وثِقلَ الموروث. وعليه فإنّ الشّاعرةَ وهي تخاطبُ السَّيّابَ بصيغة الأمر، إنّما تخاطبُ كلّ الشّعراء وتدعُوهم إلى الاستمرار في تجديدِ الحرف الشّعري، بسرّ الإبداع اليوسفيّ النَّفَسِ، والأيّوبِيِّ الرُّوح، والبروميثيّ القلبِ.
أمّا عبد الجبّار الفيّاض، الّذي قال ((السيّابُ يموت غداً))، فإنّه لم يعنِ الموتَ بمفهومه الحسّيّ المعتاد لدى عامّة النّاس، وإنّما قصدَ قيامةَ السّيّاب، أي عودتُه مَلِكاً عارياً بين الشّعراء، ليلقّنَهُم درسَ الخلود الّذي لم يتحقّق إلّا بعد أن رَمِيَ وراءَ ظهره ((آلامه / جيوبه الخاوية / وألقاباً لم تأته بشروى نقير))، أمّا من يكونُ السيّابُ في نصّ عبد الجبّار، فهُمْ كلّ الشّعراء بما فيهُمُ عبد الجبّار نفسه، والدّليلُ يوجدُ في نونِ الجماعة التي استخدمَهَا الشّاعر في هذا المقطع: ((أوّاه / ما زالَ منزلُـنا الكبيرُ يغرقُ بالظّلام / أرى النّوافذَ مُغلقة / لكنَّما الأبوابُ مُشرعة / بلا أقفال))، وهو ذاته المنزل الّذي تحدّتثْ عنه نجاحُ في نصّها قائلةً ((أنا من زارَ داركَ، وصوتَ الموتِ فيها)): إنّه منزل الأقنان، بيتُ جدّ السيّاب الكبير، صاحبَ النّوافذ المغلقة والأبواب المشرعة بلا أقفال، حيث يعمُّ الفراغ، ويسود الصّمتُ والخراب، كأنّما لم يسكنهُ منْ قبلُ أحد.
إنّنا هنا أمام منظومة: ((كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ))، نعم فالكلُّ يفنَى، لكن اللهَ باقٍ لا يموت أبداً، إنّه الحيّ القيّوم، صاحبَ حرفِ الخَلْقِ بسرِّ كُنْ فيكونُ، والشِّعْرُ سرٌّ من أسرار هذه المنظومة الحُروفيّة، فإذا ماتَ بيتُ الأقنانِ، فإنَّ بيتَ الشِّعْر والشّعراء لم يمتْ أبدا، والعراقُ بِجيكورهِ مازالَ حيّاً، ولليومِ يسقيهُ المطرُ فيهتزُّ ويربو، ويُنجِبُ الشِّعْرَ من بين فرث ودم لبناً سائغا لأهل الحرفِ وأصحاب المعنى مصداقاً لقول عبد الجبّار نفسه: ((احتفظتُ باسمٍ تدورُ به الأسطوانة / عراق / وإذا روحي تعود / تشربُ عينُهُ عَتمةَ قبري / فيشرقُ من محاق/ أنْ أرضي ولود/ سيضاجعُها المطرُ ذاتَ يوم / يهزُّ نخلتَها))، بالضّبطِ كما قالت نجاحُ في خاتمة قصيدتها: ((طمئن قلبك اللهفان
سنطوي فجيعةَ الأحزان
وتضعُ في كفي
الخرزَ الملوّن، كلّما تشرّب من الضّوء
ازدهى وتألّق
والشّعرُ مهما تاهَ، غرّبَ وشرّق
على أصابعنا كاللّبلاب يشتعلُ ويتسلّق)).