ليلة تسليم جلجامش لليهود؛ فضح مغالطات التناص بين الفكر العراقي القديم والفكر التوراتي (22)
# إختلافات مُضافة بين حكاية الأخوين وقصة يوسف
-(وتعرض "بايتي" للموت اكثر من مرة وعرف يوسف موتا رمزيا – ص 221) (138).
وهنا يقع ناجح في سقطة كبرى . فالموت تجربة وجودية لا "تُجرّب" أبداً . إذا مات ناجح ومتّ أنا ، فلن نستطيع العودة ووصف تجربة موتنا مطلقاً ، وسنغادر بلا رجعة . وإذا عدنا من الموت – وهذا من اختصاص الأسطورة والحلم – فسوف تُسمّى هذه الحالة "إنبعاثاً" .. يا إلهي كيف يشتغل باحث على الأسطورة وهو لا يعرف تعريف "الإنبعاث –or Rebirth Resurrection"؟! وهل يُعقل أن باحثاً اسطورياً يفهم الإنبعاث على أساس أنّه خروج من السجن في حالة يوسف ؟! طبعاً هذا يحصل عندما يُسجن الإله الشاب في ظلمات العالم الأسفل أو "يغيب" في الأسطورة ، فتتعطّل وظائف الطبيعة في التجدّد والإخصاب وتتوقف الحياة الجنسية للبشر والحيوان ، فيكون "خروج" الإله القتيل أو المُحتبس إنبعاثاُ وولادة كونيّة جديدة . فهل حصل أيّ تعطيلٍ في وظائف الخصب في الطبيعة أو البشر حين ألقي يوسف في السجن أو رُمي في البئر ؟! وهل تعطّلت حركة الحياة حين قام باتا بإخصاء نفسه ؟ باتا يتشارك مع الآلهة الشابة القتيلة في موته الثاني عندما قطع جنود الفرعون الشجرة التي وضع عليها قلبه ، ثم انبعث من جديد بمساعدة أخيه (وهنا دور للماء والبذور ... الزراعة وليس الرعي .. فالإله القتيل الشاب هو إبن الحضارات الزراعية وليس البدوية وهذا يرتبط بالفارق بين باتا الفلّاح ويوسف الراعي) .. وهذا الدور غير موجود لدى يوسف مطلقاً ! وهذه الشروط تُلغي مصداقية قول ناجح :
-(لم تفصح حكاية الاخوين بشيء عن اب الاخوين واستعيض عن غيابه بحضور الاخ الاكبر "انوبو" اما يوسف فوالده معروف وهو يعقوب / اسرائيل اما والد "كومبابوس" فهو احد الملوك الاشوريين . وللابوين صفات الالوهية والدينية – ص 221) (140)
هل هذا معقول ؟ يعقوب الموحّد له صفات إلهية ؟ عمّي هذا شِرك !! طيّب .. أخبرنا بهذه الصفات الإلهية التي يتمتع بها هذا البدوي كما جاء في التوراة ! هذا أنموذج على "سيولة" المصطلحات والتعابير التي تُستخدم بلا حساب .
-(مات الملك الاشوري وظل يعقوب حيا لحين رؤيته لابنه يوسف – ص 221) (141).
ولا نعلم هل بقاء يعقوب حياًّ هو مصدر اختلاف أو تشابه ؟! وما هو قيمته في "التناص" ؟! والخطأ الآخر هو أن يعقوب لم يبق حيّاً لحين رؤيته ابنه يوسف ، بل بعد رؤيته له حيث عاش 17 عاماً بعد لقائهما !
-ثم يكمل ناجح وبتسلسل غريب :
(كما ان "بايتي" هو الابن الصغير ، ويوسف ابن شيخوخة يعقوب واخر الابناء قبل بنيامين – ص 221) (142).
فما هي طبيعة هذه الأنتقالات المرتبكة ؟
وإذا كان باتا الأخ الأصغر لأنبو ، فإن يوسف هو الصغير بين إخوته وليس الآصغر الذي هو بنيامين . ثم ماذا يعني وصف "الصغير" و"الأصغر" في حالة يوسف : هل هي قياساً بابيه أو إخوته أو بفوطيفار ؟! وإذا كان يوسف قبل الأخير فباتا هو الثاني والأخير وليس قبل الأخير ! وهل علاقة باتا بأنبو ، كصغير بكبير ، تقابلها علاقة يوسف بمجموع إخوته ؟! لكن واحداً منهم انشق عليهم وهو "راؤبين" وقال لا تقتلوه وألقوه في البئر ، ثم حاول إنقاذه ولم يجده فمزّق ملابسه كما تقول الحكاية التوراتية !! ثم أن علاقة الأخوين كانت طيّبة ومتعاضدة عكس علاقة التحاسد والبغض بين يوسف وإخوته الأكبر منه (إخوته من أبيه !!) .. وهؤلاء إخوة من أبيه في حين أن باتا شقيق لأنبو .
-(لعب الحيوان دوراً مهيمناً في اسطورة الاخوين وخصوصا البقرة والثور وكذلك التيس والذئب في قصة يوسف لكن البقرة والثور تميزا بدورهما الديني المقدس خلال الفترات المتلاحقة للديانة الفرعونية – ص 221) (143).
يبدو أننا بحاجة إلى تحديد معاني الكثير من المفردات ومنها مفردة "المهيمن" . فما هي مظاهر الدور "المهيمن" للبقرة في حكاية ألاخوين ؟ ما قامت به البقرة هو تحذير باتا بأن أخاه الأكبر يقف خلف الباب ويمسك بخنجره ، ثم اختفت من مسرح الحكاية نهائياً !! ولكن قد تكون هذه الصفة "الهيمنة" أكثر صلاحية بالنسبة للثور بالرغم من أن الفرعون وأهل البلاد احتفوا به كثور مقدّس ثم تمّ ذبحه بسهولة استجابة لطلب الزوجة الخائنة التي أعجبها أن تأكل كبده !! ولكن دوره كان أوسع وأكثر أهمية حين تحوّلت قطرتان من دمه إلى شجرتي لبخ هما اللتان تم قطعهما بطلب من الزوجة أيضاً لتبتلع الأخيرة قطعة خشب منهما وتحبل . أي أن دوره هو دور مهيمن في بنية الحكاية لأنه يسيطر ويحدّد أدوار الشخصيات الأخر ، ثم أنه باتا بطل الحكاية .
ولا أعلم هل ناجح يعرف أن الذئب المسكين بريء من دم يوسف أم لا ؟! فما هو دوره المهيمن في قصة يوسف ؟! هل كل حيوان يُقحم في مسار حوادث قصة ما كذباً وزوراً يصبح له دور مهيمن ؟! وحين قرأت رأي ناجح هذا عن ذئب يوسف تذكرت ما قاله الجاحظ عن هذا الذئب في كتابه "الحيوان" :
(ولذلك قال أبو علقمة : كان اسم الذئب الذي أكل يوسف رجحون، فقيل له : فإنّ يوسف لم يأكُلْه الذّئب، وإنما كذبوا على الذِّئب؛ ولذلك قال اللّه عزَّ وجلّ : (( وَجاؤُوا عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كذبٍ)) ، قال : فهذا اسمٌ للذئب الذي لم يأكلْ يوسف) .
وإذا كان ناجح يقصد بالتيس ذاك الحيوان المسكين أيضاً الذي ذُبح واستُخدم دمه في تلطيخ قميص يوسف فهذا هو دوره في الحكاية :
(فأخذوا قميص يوسف وذبحوا تيساً من المعز وغمسوا القميص في الدم – سفر التكوين - 37 : 31 )
فاين هو دور التيس "المهيمن" ؟
وأعود لأتساءل : هل كان هناك أيّ دليل على أن رحلة يوسف إلى مصر كانت رحلة ذات طابع ديني ؟! وهي ليست "رحلة" ايضاً حسب المعنى القاموسي للـ "الرحلة" حيث أُخذ يوسف إلى مصر عنوة وإكراهاً بعد رميه في البئر . ثم ما هي هذه الرحلة المُنقذة التي انتهت باستعباد شعب كامل لحاكم وثني مطلق بالجهود والخطط الإقتصادية لنبي موحّد ؟! وما هي الطبيعة الإنقاذية لرحلة "باتا" التي لم تكن رحلة ايضاً ، بل نبذاً وهجرة واغتراباً ؟! إذا كان فيها أي طابع إنقاذي فهو أوّلاً إنقاذ لنفسه وتحقيق لثأره من الزوجة الخائنة ، ولم تكن له انعكاسات على طبيعة الشعب آنذاك .
-(كانت الالوهة عنصراً من عناصر الاساطير الثلاثة وكذلك ملحمة جلجامش والالهة مذكرة ومؤنثة وهي في الملحمة كثيرة جدا ، ولكن ما يهمنا في بنية الاغواء هو الالهة عشتار في ملحمة جلجامش و "هيرا" في الاسطورة السورية . والاله رع حورس في اسطورة الاخوين والاله يعقوب / اسرائيل في قصة يوسف – 222) (145).
ولستُ بحاجة الآن – وبعد مداخلاتي السابقة عن نفس هذا الموقف ؛ اعتبار يوسف من الآلهة الشابة المذكرة – للتعليق على هذا الموضوع بقدر ارتباطه بيوسف التوراتي . ولكن هناك ملاحظة لا تقل أهمية وهي قول ناجح : (الإله يعقوب ) !! فهل يعقوب إله ؟؟ ومن اعتبره كذلك ؟ وهل هي غلطة بسبب اختلاط الأمور على ناجح أو بسبب استسهالها (من يقرأ ؟ من يكتب ؟ في هذه المجتمعات ؟؟) . ثم صياغة العبارة الغريبة التي لا تُصدّق والتي جعلت الإله رع حورس والإله يعقوب (الذكرين واللذين لا يجمعهما جامع : واحد أسطوري والآخر ديني بشري) داخلين في بنية الإغواء مع الإلهة عشتار والإلهة هيرا الأنثيين الأسطوريتين !! فمن هو الشخص الذي قام يعقوب بـ "إغوائه" في القصة التوراتية ؟! ونفس التساؤل ينطبق على قيام الإله رع بالإغواء !
-(شكّل الحلم / النبوءة عنصرا ثانويا في اسطورة الاخوين لكنه ذو موقع مؤثر وفعال في سير تطور الافعال حيث تنبأت الهة الجمال بمقتل الزوجة التي خلقها التاسوع ... – ص 222) (146).
ولأن ناجح لم يجد حلما في حكاية الأخوين فأنه قد طابق بين نبوءة الإلهات الحاطورات وأحلام يوسف والفرعون ، ومن البديهيات أن نقول إن النبوءة تختلف عن الحلم !!
ثم نصل إلى ختام هذا القسم ، وعنوانه "الأسطورة السورية ويوسف التوراتي" وهو القسم الرابع والأخير من فصل الكتاب الأخير ، الذي لم يكن مقتصرا على هذين النصّين بل اشتمل على حكاية الأخوين أيضاً . أقول نصل ختام هذا القسم فيأتي عجيباً غريباً ، فهو يختم القسم بمقطع من أسطورة كومبابوس السورية .. وإلى الآن وأنا حائر في سبب هذا التصرّف الذي لا علاقة له بسياق القسم كلّه حيث كان ناجح قد شرح الأسطورة في القسم الأول من الفصل الثاني !!
وسوم: العدد 725