شُعراء شحَّاذون!

د. عبدالله بن أحمد الفَيْفي

رُؤى ثقافيّة 272

يزخر تراثنا العربي بتاريخ من إراقة كرامة الشاعر، الذي يلهث بشِعره وراء الدراهم، أو وراء عباءةٍ، أو عبدٍ، أو جاريةٍ، أو بغلٍ، أو فَرْوٍ، يخلعه عليه سيِّده السُّلطان.  كان يحدث هذا وإنْ كان الشاعر في مستوى (المتنبي) أو (أبي تمَّام)، القائل، متسوِّلًا، بقصيدةٍ عصماء، فَرْوًا يقيه البرد:

ولا بُدَّ مِن فَرْوٍ إِذا اجتابَهُ امرُؤٌ * * كَفَى وهْوَ سامٍ في الصَّنابِرِ أَغلَبُ(1)

ثم ساق مواصفات ذلك الفرو «الباريسي» المطلوب! ومنها:

أَمينُ القُوَى لم تَحْصُصِ الحَرْبُ رَأسَهُ

ولَم يَنـْضُ عُمْـرًا وهْـوَ أَشْمَطُ أَشْيَبُ

إِذا البَدَنُ المَقْرُوْرُ أُلْبِسَهُ غَدا

لَهُ راشِحٌ مِن تَحتِهِ يَتَصَبَّبُ

أَثِيْثٌ إِذا استَعْتَبْتَ مُعْصِفَةً بِهِ

تَمَلَّأْتَ عِلْمًا أَنَّها سَوْفَ تُعْتِبُ

كَأَنَّ حَواشيهِ العُلَى وخُصورَهُ

وما انحَطَّ مِنهُ جَمرَةٌ تَتَلَهَّبُ

فَهَل أَنْتَ مُهْديهِ بِمِثْلِ شَكيرِهِ

مِنَ الشُّكرِ يَعلو مُصْعِدًا ويُصَوِّبُ

فأَنتَ العَليمُ الطَبُّ أَيُّ وَصِيَّةٍ

بِها كانَ أَوصَى في الثِّيابِ المُهَلَّبُ

وهذا الاستعطاء من أبي تمَّام على طريقة: «شحَّاذ.. ويتشرَّط»! 

مع أن عطايا الممدوح للشَّاعر قد لا تعدو عظْمةً تُرمى إلى كلب.  من نحو قول أبي تمَّام نفسه، يمدح (خالد بن يزيد بن مزْيد الشيباني):

يَقْرِي مُرَجِّيهِ مُشَاشةَ مالِهِ * * وشَبا الأَسِنَّةِ ثُغْرَةً ووَريدا (2)

ولا يفارق بيت أبي تمَّام هذا المعنى، الذي يصوِّر دُونيَّة المادح إلى الممدوح، وإنْ قيل إن العرب تقول «فلان لَيِّنُ المُشَاش»، إذا كان طيِّبَ النَّحِيزةِ، عَفيفًا من الطمَع، و«فلان طيِّبُ المُشَاش»، أَي كريمُ النفْس؛ ذاك لأن مفردة «مُشَاش» متعلِّقة بالعظام بصورةٍ أو بأخرى.(3) 

لا جَرَمَ، إذن، أن هؤلاء الشُّعراء كانوا يوظِّفون ملكاتهم الشِّعريَّة للتسوُّل؛ فالمال مقابل الشِّعر، وإلَّا لا شِعر، كما قال أبو تمَّام(4):

وحَياةُ القَريضِ إِحياؤُكَ الجُو      

دَ؛ فَإِن ماتَ الجُودُ، ماتَ القَريضُ!

كُن طَويلَ النَدَى عَريضًا فقد سا      

دَ ثَنائي فيكَ الطَّويلُ العَريضُ

إِنَّما صادَتِ البُحورُ بُحورًا      

إِنَّها كُلَّما استُفيضَتْ تَفيضُ

ذلك أن الممدوح- حسب قول أبي تمَّام(5) أيضًا- لا بُدَّ أن «يُحْلَب»، كما تُحْلَب الناقة!:

بَحْرٌ يَطِمُّ على العُفاةِ وإِنْ تَهِجْ          

ريحُ السُّؤَالِ بِمَوْجِهِ يَغْلَوْلِبِ

والشَّوْلُ ما حُلِبَتْ تَدَفَّقَ رِسْلُهَا        

وتَجِفُّ دِرَّتُها إذَا لَمْ تُحْلَبِ!

فعلى الشاعر أن يجتهد في حلْب ممدوحه «الناقة»!  ويا ليتها ناقة مدرار، لكنَّها ناقة «شول»، شحيحة اللَّبَن، ما يُلجئ الشاعر إلى اعتصارها اعتصارًا، وإلَّا جفَّ ضرعها!  وما أغبى هذا المديح، حتى بمنطق المديح!

ولذا صار الشعراء العرب من أراذل البشر، وأحطِّهم كرامة، وأشدِّهم وصوليَّة وانتهازيَّة.  نشأ هذا بأسباب الثقافة الاجتماعيَّة، ثم ترسَّخ تقليدًا لدهور.  وإلَّا فما تلك برسالة الشِّعر والشاعر.  وما كذلك صورته في الثقافات الأخرى، سِوَى في حالات خاصَّة.  بل الأصل في الشاعر أنه راءٍ، ومتنبِّئ، وحكيم، وفيلسوف، ورائد فكر، وسيِّد قوم، كما كان العرب قبل الإسلام ينظرون إليه، قبل انحدار شخصيَّته وانحدار كلمته إلى حوانيت التكسُّب. 

ولعلَّ إلى ذلك مردّ حالة شِعريَّة وثقافيَّة مخجلة، هي أن التراث العربي، على طوله وسموق المواهب فيه، لم يُنتِج تجارب إنسانيَّة شِعريَّة سامقة، في قامة (الفردوسي) الفارسي، أو (جلال الدِّين الرومي)، أو (حافظ الشيرازي)، أو (فريد الدِّين العطَّار)، شرقًا، أو (هوميروس)، أو (دانتي)، أو (شكسبير)، أو (جوتة)، وغيرهم غربًا.  لأن الشعراء العرب ظلوا مستهلَكين بشهوات الفروج والبطون، وبقي الشِّعر سِلعة مقايضة، للحصول على جارية، أو فرس، أو بُردة، أو حتى فروة، كفروة أبي تمَّام المشار إليها!  وإنْ هي ترقّت هِمَّة الشاعر- كالمتنبِّي- كان الطموح إلى منصبٍ أو ولاية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) (1987)، ديوان أبي تمَّام بشرح الخطيب التبريزي، تحقيق: محمَّد عبده عزام (القاهرة: دار المعارف)، 1: 277- 281. 

(2) «المِشّ»- كما في لهجات جبال (فَيْفاء)-: العظام، جمع مِشَّة.  والمُشَاش في الفصحى: ما لان من أطراف العظام، واحده مُشَاشَة. جاء في (ابن منظور، لسان العرب، (أجر)): «أَجِرَتْ يَدُه تأْجُر وتَأْجِرُ أَجْرًا وإِجارًا وأُجورًا: جُبِرَتْ على غير استواء فبقي لها عَثْمٌ، وهو مَشَشٌ كهيئة الورم فيه أَوَدٌ.»  وفيه، مادة (مشش): «المُشَاشُ: كلُّ عَظْمٍ لا مُخَّ فيه يُمْكِنك تَتَبُّعُه [كذا]. ومَشَّه مَشًّا وامْتَشَّه وتَمَشّشَه ومَشْمَشَه: مَصَّه مَمْضُوغًا. الليث: مَشَشْت المُشاشَ أَي مصَصْتُه مَمْضوغًا. وتَمَشَّشْتُ العَظْمَ: أَكلْتُ مُشاشَه أَو تمَكَّكْته. وأَمَشَّ العَظْمُ نفسُه: صار فيه ما يُمَشُّ، وفي التهذيب: وهو أَن يُمِخَّ حتى يتَمَشَّش. أَبو عبيد: المُشَاشُ رؤوسُ العظامِ مثل الركبتَين والمرفقَين والمنكبَين.  وفي صفة النبي، صلى اللَّه عليه وسلم: أَنه كان جليلَ المُشَاشِ أَي عظيمَ رؤوس العظام كالمرفقَين والكفَّين والركبتَين. قال الجوهري: والمُشَاشةُ واحدة المُشَاشِ، وهي رؤوس العظام الليِّنة التي يمكن مضغُها؛ ومنه الحديث: مُلِئ عَمَّارٌ إِيمانًا إِلى مُشَاشِه. والمُشَاشةُ: ما أَشرفَ من عَظْم المنكِب. والمَشَشُ: ورمٌ يأْخذ في مُقَدَّم عظم الوظيف أَو باطن الساق في إِنْسِيِّه.» 

(3) انظر: ابن منظور، لسان العرب، (مشش).

(4) ديوانه، 2: 292. 

(5) ديوانه، 1: 104-105.

(الأستاذ بجامعة الملك سعود، بالرِّياض)

[email protected]

https://twitter.com/Prof_A_Alfaify

http://www.facebook.com/p.alfaify

http://khayma.com/faify

.................................................................

* [الكاتب: أ.د/ عبدالله بن أحمد الفيفي، عنوان المادة: «شُعراء شحَّاذون!»، صحيفة "الرأي" الكويتية، الثلاثاء 29 أغسطس 2017، ص18].

وسوم: العدد 736