معتقل الدين وفضاء الغريزة!
- الإسلام أصبح هدفاً إستراتيجياً للجهات المناوئة لـ"الربيع العربي" التي رأت أن الدافع الإسلامي كان وراءه
- الفنون التي تعمل على خدمة الثورة المضادة ومنها الرواية لا تراعي الأصول الفنية والجمالية
- ما أكثر المقالات النقدية والدراسات الأكاديمية التي تدور حول أعمال تفتقر إلى العناصر الأولية للكتابة!
- رواية «جواري العشق» لا تنحاز إلى حرية الإنسان ونضاله ضد قوى التسلط والطغيان
- لا تلتفت الكاتبة وأمثالها إلى نوع من النساء يحقق تفوقاً في مجالات العلم والعمل والسعادة الأسرية
- الزمن الروائي يتطابق مع الزمن التاريخي إلى حد كبير مع نوع من الاختزال والقفزات إلى الأمام
- الرواية لم تُشر إلى المصدر الأهم للعبيد وهو الحروب أو ما تقوم به عصابات خطف الأطفال
في إطار الدعاية المحمومة ضد الإسلام وكل ما يتعلق به أو ينتسب إليه؛ تبذل الجهات المناوئة ما تستطيع من جهد لتشويه صورته النقية، ومحاسبته بسلوك بعض أتباعه، والترحيب بغيره من المعتقدات والتسامح معها بل والتقرب إليها بالغدو والآصال، حيث صار الإسلام في الساحة الدولية منبوذاً من القوى الكبرى التي تملك المنح والمنع والثواب والعقاب، وأضحي من أتباعها مكروها ومرفوضاً.
في المجال الأدبي صارت الرواية مجالاً حيوياً خصباً، لتوجيه الاتهام والرفض، والتشويه والتلويث، بطريقة ناعمة يفرضها الحكي وتتابع الأحداث، وبناء الحبكة القصصية المشوقة، فتمضي الأفكار في خفة ورشاقة، وتتسلل الرؤى في هدوء وسلاسة، ويتشبع الوجدان بما تسلكه الشخصيات من مواقف وما يصدر عنها من رؤى وأقوال.
في السنوات الأخيرة التي أعقبت «الربيع العربي» وما واجهه من ثورة مضادة، كان الإسلام هدفاً إستراتيجياً للجهات المناوئة، التي رأت أن الدافع الإسلامي كان من وراء «الربيع العربي» وثوراته المرتبطة بالمساجد، وتجب مواجهته والقضاء على تأثيره؛ لأن ذلك يحقق للثورة المضادة مكاسب كبيرة وعظيمة تضمن لها النجاح والبقاء والاستمرار، وحرمان شعوب الأمة من الحرية والكرامة والأمل.. لم تتردد الثورة المضادة في اللجوء إلى الدم والقمع والقهر وفتح أبواب السجون للأحرار، وبناء المزيد منها ليسكنها الشرفاء والنبلاء، يصاحب هذا كذب وتشهير بطلاب الحرية عبر ما يسمى الأذرع الإعلامية؛ الفضائيات والأرضيات والصحف والندوات والمحاضرات والمؤتمرات والمسرحيات والأفلام والمسلسلات التلفزيونية أو الدراما عموماً.
وقد حققت الثورة المضادة في هذا السياق نجاحاً ملحوظاً؛ حيث صار المسلم الثائر في عرف هذه الأذرع إرهابياً وسفاحاً وبلطجياً وقاتلاً بشع المنظر والسلوك، ويعيش فصاماً قبيحاً بين الواقع وأفكاره وتصوراته وممارساته، وكأنه لم يبق من المسلمين رجل صالح واحد؛ اللهم إلا الطغاة وجلادو الشعوب ولصوصها الكبار والمنافقون الأفاقون الكذابون الذين يساعدونهم على الظلم والعدوان!
مباركة وترحيب
ومع أن الفنون التي تعمل على خدمة الثورة المضادة، ومنها الرواية، لا تراعي عادة الأصول الفنية والجمالية التي ينبغي الانطلاق منها لتقديم فن مقنع، فإنها تجد مباركة من الصحف ومنابر التعبير الأخرى وترحيباً من منصات النشر التابعة للسلطات القمعية والموالية للثورة المضادة ولو ضربت عرض الحائط بالقواعد الأدبية ومنطق العلاقات الفنية.
واقع الحال أن الرواية المضادة للفن وللحرية معاً لا تعبأ باللغة بناءً وصياغة، وتقع في أسر الاستخدام الخاطئ لبعض المصطلحات والأوصاف، وتخلط بين اللغة الأدبية الفصحي والعامية في تمازج ركيك ودمج قبيح لا يرقى بالذائقة الأدبية إلى معارج الجمال الفني والأدبي، ثم إنها لا تقيم اعتباراً للبناء الفني الذي يكشف عن مهارة الكاتب في جذب القارئ وشده إلى عالم من الابتكار والمتعة الفنية.
ومع ذلك هناك من يحتفي بهذا النوع من الكتابة، ويشيد به ويقيم له مهارج متنوعة من أجل الدعاية والتضليل، فما أكثر المقالات النقدية والدراسات الأكاديمية التي تدور حول أعمال تفتقر إلى العناصر الأولية للكتابة مثل الإملاء والنحو والصرف وغيرها، وما أكثر الأخبار التي تنشر والمقالات التي تدبج، وحفلات التوقيع وندوات التعريف التي تقام، ولقاءات القراءة والمناقشة التي تعقد في أرفع الأمكنة وأشهرها، حول هذه الأعمال الرديئة، بينما هناك أعمال جيدة وممتازة لا تحظى بشيء من ذلك ولو بنشر خبر في سطرين على عمود بصحيفة سيارة، يساعد على ذلك الوعي الأدبي الذي هبط إلى درك غير مسبوق، وانهيار التعليم الذي جعل المشهد الثقافي في وضع سقيم!
نموذج وأد الحرية
معنا الآن نموذج من الروايات التي تشارك في وأد الحرية وخدمة القمع والطغيان ونشر العنصرية الفاشية، وقد احتفت بها أجهزة الدعاية القمعية وطبلت لها وأقامت حفلات التواقيع والدعاية، هذا النموذج هو رواية «جواري العشق» لكاتبة اسمها رشا سمير (ط 10، مكتبة الدار العربية للكتاب، القاهرة، 2017م)، يفاخر الناشر على الغلاف بالطبعة العاشرة، وكانت الطبعة الأولى في عام 2014م، ومن الطريف أن يضع الناشر التاريخ الهجري في بعض الطبعات مقابلاً للتاريخ الميلادي! (الطبعة التاسعة رجب 1437هـ، والطبعة العاشرة جماد أول 1438هـ، والصواب جمادى الأولى)، مع أن الرواية ضمنياً تخاصم هذا التاريخ الهجري ودلالاته، وتراه قيداً على الحرية والأحرار، كما يكشف السياق الروائي.
رواية “جواري العشق” لا تنحاز إلى حرية الإنسان ونضاله ضد قوى التسلط والطغيان التي تمارسها حكومات قاهرة لا تبني مدنية ولا تقيم حضارة، وهمها الأول والأخير هو القمع والقتل خارج القانون، وتحويل الوطن إلى سجن كبير، إنها رواية تتحدث عن حرية متخيلة لامرأة تعيش في غيابات الوهم والبحث عن رجل تجد لديه الحضن الدافئ والمتعة الذاتية، وتعتقد أن حريتها تتحقق في فضاء الغريزة لا معتقل الدين، فهذا غاية المراد من رب العباد، ولا شأن للرواية بما وراء الحرية الشخصية النسوية.
تحرير الجواري
ومع ذلك تجد د. صلاح فضل يكتب مشيداً بها ومقرظاً تحت عنوان «رشا سمير تحرر جواري العشق»، ويقرر أن الكاتبة مسكونة بشيطانين رائعين؛ أولهما شيطان الشعر الذى يتفجر في سطور ذات مستوى لغوي رفيع، ولحظات ذات نبض حيوي دافق، وحبكة درامية محكمة، والثاني يتمثل في الوعي الحاد بوضع المرأة وافتقادها للحرية منذ العصور القديمة وانطلاق طاقاتها المبدعة بقدر نصيبها من الحرية في العصور المحدثة.
وقد طغى عليها هذا الشيطان الأخير بقوة عارمة في «جواري العشق» حتى أغواها بأن تدمج روايتين بديعتين في كيان واحد، وتربط بينهما بخيط حريري ناعم وعنوان مجازي جذاب، لتعبر عن إيمانها العميق بأولوية قضية تحرير المرأة روحاً وجسداً ووجداناً حتى تفرض إرادتها على المجتمع وتقيم التوازن الدقيق بين مقتضيات الحرية من جانب وضرورة تطويع العادات والتقاليد وتحريرها من جانب آخر، وصولاً إلى جوهر الصلابة الأخلاقية المبتغاة. (“المصري اليوم” 12/11/2015م).
وكما سنرى فهذان الشيطانان لا يسكنان رواية الجواري، ولكن يسكنان روايات أخرى أكثر نضجاً ووعياً وإدراكاً!
فضاء الغريزة
رشا سمير كما تعرّف نفسها على الغلاف الأخير من الرواية، طبيبة أسنان، تمارس الكتابة الصحفية لدى جريدة «الفجر» التي يقودها الصحفي عادل حمودة؛ وهو من الأذرع الإعلامية الأمنية التي تعادي الحرية، وتسوغ الحكم العسكري، ويعبر عما تريده بعض الجهات من حرب ضد الدين والأخلاق والحرية الحقيقية، ويرى أن المرأة يجب أن تعيش في فضاء الغريزة متأثراً بالمراحل الأولى للشاعر السوري الراحل نزار قباني حيث كان يلهو بجسد المرأة في أشعاره، انطلاقاً من فكرة تحريرها من قيود الرجعية والتخلف، ناسياً حرية الرجال أو حرية الشعوب التي تقبض عليها طغمة من الطغاة لا يعترفون إلا بشعوب من العبيد؛ يسمعون ويطيعون!
والمفارقة أن الكاتبة تسعى إلى تقليد عادل حمودة في أسلوبه الذي يقلد فيه أستاذه نزار قباني، ولكن هيهات بين المقلد الأول والمقلد الثاني، وبين الأصل في أسلوبه الشاعري التلقائي أو العفوي، فالتقليد افتعال وتكلف، وتعبير عن ضحالة موهبة!
ومن الطبيعي أن يكون التقليد الأخطر ليس لأسلوب عادل حمودة الذي يلعب على جسد المرأة، ولكن في منهجه المناوئ للإسلام والحركة الإسلامية، والموالي للقمع والاستبداد، فمقالات رشا سمير الأسبوعية في جريدة “الفجر” تشي بذلك التقليد الأخطر، وحرصها على أن تكون في ركب السلطة الاستبدادية القمعية، وتبرير جرائمها وممارساتها أو التهوين من شأنها، ولا بأس أن يكون هناك بعض النضال في القضايا البسيطة التي لا تسبب متاعب أو مصاعب، وهو ما يفعله عادل حمودة في مقالاته النضالية الهامشية ضد السلطة والنضالية الأساسية ضد الإسلام والمسلمين، ويستطيع القارئ أن يرجع إليها متى شاء.
التصوف السلبي
تتفاعل رشا سمير مع النماذج المشابهة لها من الكتاب في مصر والعالم العربي، وتردد مقولاتهم وأفكارهم وخاصة ما يتعلق بالتصوف السلبي بوصفه الصورة المثلى للإسلام كما تتبدى في مقولات ابن عربي وأشباهه، مثل الحلول ووحدة الوجود، وهو اتجاه عالمي يلقى ترويجاً كبيراً، بوصفه استسلاماً بديلاً عن الإسلام الذي يدافع عن الأوطان والأعراض والحريات.
تخبرنا رشا سمير أنها كتبت مجموعة من الأعمال القصصية الأخرى: “بنات في حكايات”، “دويتو”، “سألقاك هناك”، “حب خلف المشربية”، “معبد الحب”، “يعنى إيه راجل”.. وهي أعمال لا تتجاوز وضعية المرأة المأزومة المظلومة ولا علاقة لها بأزمة المجتمع ومظلوميته تحت حكم الطغاة الذين لا يبالون بمعاناته وآلامه وقيوده، بل يزيدونه عناء وألماً وقمعاً، وليتها تعرض لأزمة المرأة ومظلوميتها عرضاً حقيقياً منصفاً، ولكنها تعرض الأسطوانة المشروخة التي تتردد في أرجاء الوطن العربي منذ قرن أو يزيد ويروج لها الغرب واليهود وأتباعهم في البلاد الإسلامية، إنها تقدم المرأة التي يغتالها الرجل المتوحش ويسلبها إرادتها وحريتها فتعيش جارية لا قيمة لها تخدمه وتنفذ إرادته وتلبي مطالبه!
نوع آخر من النساء
لا تلتفت الكاتبة وأمثالها إلى نوع آخر من النساء يحقق تفوقاً في مجالات العلم والعمل، والسعادة في البيت ومع الزوج والأسرة، وتنهض في سياق دينها وعقيدتها بما يجعلها امرأة مسلمة صالحة منتجة ومبدعة، هل أذكرها مثلاً ببعض من تحدثت عنهن الصحف قريباً مثل بنت الشاطئ، أو نعمات أحمد فؤاد، أو فاطمة محجوب، أو غيرهن؟
وأيضاً لا تلتفت الكاتبة وأمثالها إلى المرأة المتجبرة التي تظن أنها تملكت الرجل فتمارس معه وعليه أشكالاً من الطغيان والجبروت، وخاصة إذا كان بينهما أطفال أو أصابه عارض من الفقر أو المرض أو تغير الحال، فتكشف عن وحشية تتضاءل إلى جانبها وحشية الضواري في الغابة حين تحول حياة الرجل إلى جحيم لا يطاق!
إننا أمام نمط من الكاتبات يسعى لتحويل العلاقة الإنسانية بين الرجل والمرأة إلى صراع أبدي لا بد أن ينتهي بقهر الرجل وتدميره لتشفي غليلها وتنتصر عليه.
ثمانية قرون
تمتد رواية «جواري العشق» لرشا سمير على مساحة زمنية تاريخية واسعة تقرب من ثمانية قرون، تبدأ من عصر المماليك حتى «الربيع العربي»، ويمكن تقسيم الزمن الروائي إلى قسمين رئيسين؛ الأول منذ العصر المملوكي حتى منتصف القرن العشرين، والآخر من منتصف هذا القرن حتى الآن، حيث نعيش مع أسرة تمثل أربعة أجيال؛ الأم الابنة والحفيدة وابنتها، ويختص القسم الأول بحياة المرأة الجذر أو الجدة العليا وهو أكثر تماسكاً وأقرب إلى منطق الفن من القسم الآخر الذي تتوالى فيه حكايات النسوة، ويربط الزمن التاريخي بين القسمين صندوق متوارث تكتب فيه كل امرأة عن مشاعرها وعواطفها وما جرى لها، وتورثه لمن تنجب من البنات بالتتابع، وتشكل حلقات تاريخية عن حرية المرأة الجارية أو المسترقة للرجل، ويبدو فيها أن المرأة الجذر كانت أكثر صلابة وحرصاً على الحرية وأكثر تغليباً للعقل على العاطفة.
ويتطابق الزمن الروائي مع الزمن التاريخي إلى حد كبير، مع نوع من الاختزال والقفزات إلى الأمام، وفي أحيان نادرة عودة إلى الخلف من خلال التذكار والاسترجاع أو تيار الوعي، ولكنه يندفع إلى الأمام باستمرار ليحكي قصة كل امرأة على حدة وما جرى لها بحثاً عما تسميه الحرية وإثبات الوجود ومواجهة ما يقابلها من صعوبات ومتاعب.
مصدر الجواري
أما المكان الذي تدور فيه الأحداث فهو يمتد من بلاد الكرج أو ما يعرف الآن بجورجيا إلى القاهرة والإسكندرية والسويد، بلاد الكرج مصدر الجواري والعبيد الذين يبيعهم أهلوهم ببعض المال إلى تجار الرقيق أو النخاسين ليضمنوا لهم حياة أفضل من حياة الفقر المدقع التي يعيشون فيها (لم تشر الرواية إلى المصدر الأهم للعبيد وهو الحروب أو ما تقوم به عصابات خطف الأطفال في وسط آسيا لحساب النخاسة أو تجار الرقيق)، وكانت القاهرة تستقبل هؤلاء الأطفال في بيوت السلاطين والأمراء وتتولى تربية الذكور عسكرياً ليكونوا مقاتلين أشداء ضد أعدائهم وخدمة السلطنة في المجالات المختلفة، وتعتني بالإناث ليكنّ ضمن حريم السلطان، يقدمن المتعة والتسلية وخدمة القصور.
وقد ولدت الجارية (الجدة الأعلى لنساء القرن العشرين)، واسمها قمر في بلاد الكرج، ونقلت إلى القاهرة، لتؤسس جذراً ينتج سلسلة من النساء عاشوا حتى أيامنا، والكرج مصدر للعديد من العائلات المشهورة في مصر، التي استوطنت في محافظات عديدة، وما زالت لهم ملامح هذه البلاد التي جاؤوا منها، وربما بعض عاداتهم وتقاليدهم.
أما القاهرة فهي منشأ البنات اللاتي تناسلن وتمصرن منذ الجارية الأولى قمر حتى الآن، وإن كان تمصيرهن أمراً طبيعياً بحكم اختلاط الدماء ومرور الزمان، والإسكندرية مجال ممتد من القاهرة بصورة ما، وإن كانت تمثل في مراحلها المختلفة نوعاً من اختلاط الجنسيات البشرية العالمية (تسمى الكوزموباليتة)، ولكنها في جانبها الأساسي تمثل المكان الذي يتنسم فيه الناس نسائم الراحة والاستجمام بحكم وجود البحر، والطبيعة الجغرافية والسكانية التي تجعلها أفضل تنظيماً وتخطيطاً، وأقل صخباً وأهدأ ضجيجاً من القاهرة، وأبعد عن أماكن الإثارة والأحزان.
وسوم: العدد 744