رسائل من أحمد الجدع ( 78 )

رسائل من أحمد الجدع ( 78 )

أحمد الجدع

إلى أمير الشعراء أحمد شوقي .

أنا أقر أنه لا تكفيك عشرات الرسائل لتكشف عن شخصيتك وعن إبداعك وعن عبقريتك ، فأنا أقرُّ بتفوقك ، ولهذا التفوق أسبابه ، وسوف نعرض إلى ذلك في رسائلنا إليك .

دعني أعرض أولاً لمفهوم التفوق في الشعر ، فأنا أرى أن للشعر ونظمه سلطان على الشعراء ، فإذا خرج الشاعر من هذا السلطان دخل في باب الإبداع ، فإذا قفز قفزة أخرى وأصبح له سلطان على النظم كان هو الشاعر الأمير .

والإمارة هنا على الشعر وليس على الشعراء .

وأنا هنا أقرر أنك كنت سلطاناً على النظم ولم يكن للنظم عليك من سلطان ، ومن هنا كان شعرك طليقاً وكنت فيه مبدعاً .

هذه المقدمة كان لا بد منها للحديث عن إمارة الشعراء .

في عام 1927م أحب شعراء العرب أن يقيموا لك حفل تكريم في أحد فنادق القاهرة ، فتوافدوا من عدد من الدول العربية ، وقد كان شعراء مصر أو كثير منهم لا يقرّ لك بالإمارة ، وقد نازعك عليها عدد كبير ، منهم عباس العقاد وحافظ إبراهيم ، وقد شن عليك العقاد ومن أحاط به من الشعراء والأدباء حملات متوالية كانت قاسية وجارحة ، ثم جمعوا كل ما قالوه فيك في كتاب جعلوا له عنواناً باسم "الديوان" وهو عندي ، وقد قرأته ، وقد ساءني فيه مواقف وآراء كثيرة أعرض لموقفين ، أحدهما دعوتهم إلى تغريب الأدب ، فكلما نقدوك في شأن استشهدوا لنقدهم بالشعراء الإنجليز والفرنسيين ، فقد كان الولاء للأدب الإنجليزي والفرنسي شعار العقاد والمازني وطه حسين الذي ألف كتاباً عنوانه "حافظ وشوقي" وهو عندي ، فيه مما في الديوان الذي ألفه العقاد والمازني تشابه كبير .

وثاني هذين الموقفين استخدام الكلمات الجارحة التي لا تليق بكبار الكتاب والأدباء ، ومن العيب أن تصدر بحق رجل من عامة الناس ، فكيف برجل بمقامك وبمنزلتك في عالم الشعر ، ولا نقول عن منزلتك أكثر من ذلك ، فكل دارس لحياتك يعرف كيف كانت منزلتك في مصر وفي العالم العربي .

ويبدو أن هذه القسوة كانت من سمات عصر العقاد وطه حسين والرافعي ، فقد كتب الرافعي بحق العقاد (أو في نقده كما يزعم) كتاباً أسماه "على السفود" والسفود هو سيخ الشواء ، يريد الرافعي أن يشوي لحم العقاد على النار ، وقد قرأت نسخة مصورة عن هذا الكتاب ، فرأيتها حافلة بالعبارات الغاضبة ، والقاسية قسوة لا تليق !

وعندما حان حفل التكريم كان حافظ إبراهيم قد تراجع عن موقفه في معارضته تنصيبك على إمارة الشعر ، وقد ألقى قصيدة أمّرك فيها على الشعر والنثر أيضاً .

قال حافظ :

بلابل وادي النيل بالمشرق اسجعي
أعيدي على الأسماع ما غرّدت به

 

 

بشعر أمير الدولتين ورجّعي
براعة شوقي في ابتداء ومقطع

 

ثم يقول في مقطع آخر :

أمير القوافي قد أتيت مبايعاً

 

 

وهذي وفود الشرق قد بايعت معي

 

وكانوا في عهد شوقي وحافظ يستعملون كلمة الشرق دلالة على المسلمين ، وذلك لأن الأعداء كانوا يأتونهم من الغرب .

ويقال إنك قمت وعانقت حافظاً دليلاً على رضاك ، وقد كان حافظ قبل هذا المهرجان ممن يعارضون تنصيبك أميراً للشعراء ، ويرى نفسه أحق بهذا المنصب .

والقصيدة طويلة وجميلة وتحقق جميع شروط القصيدة السائرة ، وفيها مقاطع تستحق الوقوف عندها ، وإليها سوف أعود في مكان آخر .

وبقيت لي في هذه الرسالة وقفة عند هذه البدعة التي ظهرت في عصر شوقي ، أعني بدعة إمارة الشعر والشعراء .

أنا أقبل أن أخوض في أمر هذه البدعة أسلم لشوقي بإمارة الشعر العربي ، قديمه والحديث لأسباب سوف أذكرها في رسالة قادمة .

احتل الشعر الجاهلي مكانة سامية عند العرب ، وتأكدت هذه المنزلة في العصور التي تلت العصر الجاهلي ، ولعل هذه المكانة جاءته من اعتماد المفسرين للقرآن الكريم على هذا الشعر في تفسير مفردات القرآن الكريم ، وحاول دارسو الشعر الجاهلي وناقدوه أن يصنفوا شعراء الجاهلية ، ومن أبرز تصنيفاتهم اختيارهم للمعلقات ، وعدوا هذه المعلقات أجمل وأروع أشعار الجاهلية ، واتفق معظمهم على أن معلقة امرئ القيس هي الأفضل ، ومن ثم فإن شاعرها هو الأشعر ، فقدموه وأمروه ، ورووا في ذلك حديثاً عن رسول الله r بأن امرأ القيس "قائد الشعراء إلى النار" واستشهدوا بقيادته وصرفوا أنظارهم عن النار التي يقود الشعراء إليها .

إذن إمارة الشعر ليست جديدة في عالم الشعر ، بل قديمة الجذور ، حاولها الشعراء واختلفوا حولها ، ثم صمتت دهوراً ، ثم بعثوها في العصر الحديث منذ أيامك .

إمارة الشعر والشعراء لقب ، وقد عرف العرب المعاصرون الألقاب منذ العصر التركي ، وتفاخروا بها ، ونعرف من ألقابهم : الأفندي والبيك والباشا ، والباشا أرفعها .

كنت مقرباً من حكام مصر ، وكنت شاعر القصر (شاعر العزيز) وكنت تفاخر بهذا اللقب ولم تحز من ألقاب التشريف إلا على لقب بيك ، وقد حمل لقب الباشا من هم أدنى منك منزلة ، بل ما حاز على هذا اللقب إلا من كان مقرباً من كرومر الحاكم الإنجليزي الفعلي لمصر آنئذ .

إذن لم يكن شرفاً لك أن تكون من زمرة الباشوات !

أعود إلى لقب أمير الشعراء ، فقد كنت أحق الناس به في عصرك ، وقد كنت أحق به لو أردنا أن نرجع إلى العصور التي سبقت عصرك .

بعد موتك حاولوا أن يمدوا هذه البدعة إلى غيرك ، فاختلفوا ولم يتفقوا ، فهمدت نار هذه البدعة ، وفي أيامنا ونحن في عام 2012م ، وقبل أيامنا بسنة أو اثنتين بعثت هذه البدعة مرة أخرى ، وأخذوا يؤمرون على الشعر شعراء ليسوا أهلاً للمنصب ، ذلك لأن هذه الإمارة تعتمد على تصويت الجمهور ، والجمهور عادة لا قدرة له على تقدير الشعر ، فهو إنما يصوت للشاعر لأنه من بلده ! أو لأنه صديقه ! أو لأنه قريبه ... وهلمجرا .

سمعنا بأن فلاناً فاز ، ورأيناه يكرم بمئات الآلاف ، وينصب أمام المشاهدين وهم يعدون بالملايين ، وبعد أن ينفض السامر لا نسمع بالأمير الشاعر !

في عصر الإعلام الذي غدا يرفع ويضع لا نعترف بالشعراء ولا بإمارتهم ، فإن مقاييس الشعر التي تقرب الشعراء من الإمارة غدت غائبة عن مسرح التقدير والتقييم ، وقد ظهر في عصرنا شعراء رفعوا فوق النجوم ونحن لا نعرف لهم شعراً يستحق أن يقال له شعر !

القلب يدمى لما آلت إليه أمورنا في هذا العصر ، لقد أقاموا للشعر جنازة ، وخرجوا بها وقد لفت بالسواد ، وذهبوا بها إلى حيث يدفن الأموات .

أما الشعر العامي فقد أعلوا منزلته ، وأنفقوا عليه أموالاً كان الفقراء الذين يبحثون عن طعامهم في صناديق القمامة أحق بها ، والله إنهم لأحق بها .

أمير الشعراء : لقد أثارت إمارتك الشجون ، لقد كنت حقيقاً بالإمارة كما كان المتنبي حقيقاً بها ، وكما كان امرؤ القيس جديراً بها .

أيكم يتقدم على الآخر ؟ هذا أمر لا أريد أن أقطع فيه برأي .

سلام عليك ... ورحمك الله رحمة واسعة وأنا معك .