ومضى إلى جنان الخلد

ومضى إلى جنان الخلد

محمد الحسناوي رحمه الله

بقلم زوجة الفقيد: هيفاء علوان

استيقظت قبل أذان الفجر ، الحمد لله  .  . أبو محمود ينام بارتياح .  . لكن غريب .  .  المدفأة مشتعلة ، وضوء غرفة مكتبه منارة والمطبخ و  . . ما الأمر . ؟!

قلت في نفسي : لاغرابة  ، خير  إن شاء الله  ، لأصلي ماتيسر .   .  .

أذن الفجر الأذان الأول .

 لن أوقظ أبا محمود إلا بعد الأذان بنصف ساعة عله يرتاح أكثر ، عهدي به لاينام من الليل إلا قليلاً ، قد يكون نام متأخراً . 

أذن الأذان الثاني   صليت الفجر وتلوت الورد ، إذ بالغالي ينتفض من فراشه  ، سألني :  أذن الفجر ؟

توضأ .  .  عندما كان يرفع رجله للوضوء رفعها بثقل ، قال : رحمتك ياالله

 صلى كما كان يصلي جهراً ،  لكن كان من عادته أن يوقظنا فردا  فرداً يا مزنه ، ياهبه يا أحمد ، يا أمجد ويا أم أحمد صلاة .. . . صلاة  لكن هذه المرة فاته أن يوقظنا ، أدى صلاته كأنه يحس ببرودة ، طلب مني أن أشعل المدفأة التصق بها لدقائق جالساً على الكرسي تنبهت لذلك سألته كيف كانت ليلتك ؟ أجاب رحمه الله : لقد نمت جيداً .

سألني هل صليتُ الفجر ؟ قلت له صليتَ

سألني ثانية : هل صليت معك – وكنت سبقته إلى الصلاة – أجبته : لا صليت وحدك  .

أصابتني بعض ريبة  .

سألته كيف تشعر هل نقيس الضغط  ؟

أجاب  : لابأس . قاس الضغط بنفسه ثم قال :

الحمد لله الضغط طبيعي .8،5- 160

في الساعة الخامسة والنصف قال لي سأنام  .

أسرعت وأتيت  له بوسادة يضعها وراءه لأنه سينام جالساً دأبه أكثر الأيام ، أخبرني أنه ليس له حاجة بها ، تركته نائماً وهو جالس .

قرأت ثم أيقظت الأولاد للمدرسة ، بدأت بإعداد عجينة لطبق يشتهيه لقد أكلته عند أخت عزيزة ، وكم تمنيت أن أحمل له بعضاً منها ، كنت أدخل الغرفة التي ينام فيها وأخرج .  .  هو نائم وكثيراً ما ينام هكذا  !  !

وضعت وجبة الغسيل وهكذا من عمل إلى آخر .  .  لم يكن هناك مايزعج .

-  اليوم سيسر أبو محمود بهذا الطبق .

في العاشرة عندي موعد في البيت ، يجب أن أوقظ أبا محمود لأرى طلباته قبل قدوم ضيفتي . . . أبو محمود . . أبو محمود لاجواب . أبو محمود أبو محمود . .  اقتربت منه  ، لمست وجهه حركته برفق عله ينتبه  ولكن . 

لم ينتابني الجزع إنه ينام نوماً طبيعياً جالساً مغمض العينين  ، ينام كما ينام دائماً!  هززت يده بتلطف إلى تلك اللحظة لم أكن أعي ماحدث .

-  قد يكون مستغرقاً  في النوم , أو غاب عن الوعي لتوه ، اللهم لطفك . .

لملمت جراحات قلبي ، أسرعت إلى الهاتف  ، اتصلت بابنه . . إن مكانه بعيد . . اتصلت بأعز إخوانه . . وجل إخوانه يعزونه ويحبونه لدماثة خلقه ، جاء أبو أنس خلال ثوان مع أخ آخر .  .  أخبرنا جارنا أبا أسامة  قدم محوقلاً ، عندما رآه قال إنا لله وإنا إليه راجعون  ، أدركت وعرفت أنه .  .  استرجعت وقلت : حسبنا الله ونعم الوكيل .

هرعت إلي جارتي مع زوجها الطبيب ( أبي شريف) للتأكد من الأمر ، كانت جارتي العزيزة تحاول أن تكتم  أنفاسها ،  هي وجلة ليس من هذا الموقف الرهيب فحسب ، ولكن كانت – حفظها الله – تحوطني بعطف يفوق حنان الأم على أطفالها .

نظرتُ إليه النظرة الأخيرة – تغمده الله برحمته – قبلته من وجهه ، من يده ثم من قدمه التي طالما مشت إلى رحاب الله ، وطالما سعت إلى خير العباد . بعد أن ذهب الإخوة ليتابعوا الأمر ، بدأت مع جارتي أم شريف بقراءة سورة يس ، قدمت أم أسامة جارتي لكأن المصيبة هي مصيبتها ، فمن لايقدر أبا محمود ؟ ومن لايبجل هذا الرجل العظيم على تواضعه .؟

لم نكمل هذه السورة إلا وقدمت سيارة الإسعاف المدني وأخذوا الفقيد من بيته من الدار الفانية إلى دار البقاء ،وبدأت رحلت الأسى والألم ، لم أشعر بالبداية بالخور كنت متماسكة وهذه منة من الله سبحانه ، مع أنني أعترف بضعفي كثيراً في النائبات ، لذا كان –رحمه الله -  يخفي عني الكثير من مواجعه ترفقا بي  .  .

كان جل فكري منصباً على الأولاد ، بعضهم فراخ زغب – حماهم الله – فكيف  سأخبرهم  .؟  ثم كيف سيكون وقع هذاالخبر المؤلم عليهم؟

هم يحبوم أباهم ككل الأولاد ، لكن حبهم لأبيهم يفوق كل تصور .  .

مزنة كانت في الجامعة الأردنية هاتفتها جارتنا قائلة : إن أمك متعبة تعالي حالاً . ركبت تاكسي ونادراً ماتفعل ،  قدمت والقلق ينهش قلبها ، ودموعها تنهمر دون إذن منها ، كانت تنكر على دموعها ،تتساءل ما لهذه الأفكار السوداوية تستولي علي  .

أما هبة ففي كلية  في الزرقاء ، كيف ستتلقى هذا الخبر المفجع ، هل أخاطر وأخبرها ؟

 المكان بعيد  ، أخاف عليها ، الطريق طويل والهواجس ستنهش قلبها ، إذن ستأتي ونمهد لها .

أتت هبة وكانت المعزيات تتوافدن علينا ، رأت مجموعة منهن ، سلمت عليهن بحرارة ، وأصرت على أن ترحب بمن عندنا ،  ضيوفنا في الأيام العادية كثر ، لم يخطر ببالها مايسوء .

جلست معها في غرفة نائية .  .  سألتها عن الكلية ، أخبرتها أن والدها في خطر .  . تألمت ومع إلحاحها لرؤية الضيوف ، أخبرتها أن والدها قد توفي .  كان هذا الخبر المفجع كالصاعقة وبدأت رحلة النحيب والأسى ,.  .

أما أحمد - حماه الله -   وهو في العاشر أتى من المدرسة فرأى أخواله على غير عادتهم  في النهار ، من المفروض أن يكونوا في أعمالهم . ما الذي أتى بهم . . ما الأمر..؟

 نظر بريبة واستغراب فيما نحن نتكلم فيما بيننا همساً ، تنبهت له فقلت : والدك في حالة خطرة .  .  تألم ، كان القلق بادياً عليه ، الأولاد تعودوا –حماهم الله – على ضنى والدهم فهو منذ سنتين ونيف يزور المستشفى مرتين أو ثلاثة في كل أسبوع ، وكم كانوا يتألمون لؤية صفي قلبهم وهو يعاني ما يعاني سمع كلمة تعزية .  .  سأل باستغراب لمن التعزية ؟

مكثت مليا ثم أجبته :  ألم أقل لك إن والدك في خطر  ؟

لقد تو .   .   .في  وانكب أحمد على كتفي وأجهش بالبكاء .

أما الصغير أمجد فهو في الصف السابع لما قدم البيت رأيت من يخبره الخبر كان مبهوتاً .  .  حزنت لجزعه ، كان أثر الصدمة بادياً عليه ، تقربت منه ، كان مقطبا ، يحجم عن كل جواب ، بعد لأي أخبرني أنه علم من أحد الشباب بوفاة والده ، كان قريبا من المدرسة ، كيف تمالك –حماه الله – هذا الخبر المؤلم أثناء رحلته إلى البيت ؟

هذه سنة الحياة  .  .  في كل يوم نفقد من أحبابنا كثيرين من الأقرباء والبعيدين ، لكن أن تفارق الحبيب الذي عشت معه في سرور وحبور رغم المنغصات في العالم وبالأخص عالمنا الإسلامي ، ورغم مايمضنا من آلام المعذبين المحرومين .  .  ماذا أقول عن أبي محمود ؟

هل أتكلم عن أخلاقه في بيته ، أم عن تواضعه ، أم عن حسن تعامله مع من يختلف معه ؟ أم عن دأبه وهمته العالية التي أراه فيها خير قدوة لشبابنا وبناتنا ومن هم في عمرنا حتى الشيوخ ، فما دام في العمر فسحة فلنتبارى ولنتنافس في عمل الخير ، ولنسعى إلى المجد .

ماذا أقول عن أبي محمود؟

كان هدفه الأسمى أن يسعدنا وأن يدخل السرور إلى قلب أطفاله في حنوه عليهم ، في جلب مايحبون ولو كان يعز على غيرهم ، وقد يضحي بنومته من أجل إسعادهم فيروي لهم شيئا من ذكرياته ونكاته الجميلة فترقص ارواحهم في فضاءات الحبور،  ويتخيلون والدهم في نعومة أظفاره ويتخيلون  جدهم الذي أحبوه كثيراً ويحنون إلى رؤية وطنهم لحب محمد الحسناوي له.

بعد كل رحلة كان يسأل الأولاد (هل انبسطتم يا أولاد) ؟ .

ياأحمد وياأمجد ، كيف رحلتنا ؟ يكون جوابهم دائما تندراً مع أبيهم (لا  ما انبسطنا) عندها تنفرج أساريره –رحمه الله – ويضحك ضحكته المجلجلة الرخيمة التي حرمنا منها وسنحن إليها ما عشنا .

كنت والفقيد – أسكنه الله فسيح جنانه –كتوأم في أفكارنا وآمالنا وطموحاتنا ، إن تكلم في الأدب شعراً ونثراً قصة ونقداً غصت معه في  هذا البحر المتلاطم  ، وأفدت من معين بحره الذي لاينضب ، فكلما بدأ بمشروع قصة أو مقال أو بحث أو كتاب يكون قد خطط له ليلاً ، أرى زبدة البدايات صباحاً فأفرح لهذا الإنجاز الطيب .

إن تكلم أو تكلمت في هموم الناس أخذ يجول في فضاءات الهم والنكد فيحاول كلانا أن يجد حلولاً لنفرج كرب المكروبين ، وإن تكلم في هموم الإسلام والمسلمين وقضيا الساعة كان لي معه صولات وجولات . .

كم كنت أحمد الله سبحانه أن وفقني بزوج أجد فيه كل كل ماكنت أصبو إليه ، دين وخلق جم وعلم موسوعي وهمة عالية ، وتفان لاحصر له ، وثقافة عالية في أكثر المجالات .

رحمه الله وأجزل مثوبته ، كم له من أيادٍ  على أمتنا وعلى إسلامنا ، فلقد ترك لنا سفراً خالداً وهو مرجع في كثير من البلاد العربية في الجامعات كما نمي إليه –رحمه الله ـ وهو كتاب الفاصلة في القرآن الكريم .

وكتابه الذي أنجزه في سنة واحدة من سني مرضه  ( دراسات جمالية في أربع سور ) هذا الكتاب القيم الذي يحتاج لمن يبرز خصائصه ويدرسه دراسة وافية ، وكان رحمه الله يخطط لدراسات قرآنية أخرى ويتمنى إنجاز أكبر عدد منها ولكن اختار الله لجواره .

له في القصة  ( الحلبة والمرآة ) 1972م

و( بين القصر والقلعة ) مجموعة قصصية -1988

 و( بلد النوابغ ) مجموعة قصصية 1999

و( مجموعة قصص ومسرحيات تحت عنوان  ( بطل في جبل الزاوية ) صدر بعد وفاته بأيام 832007

 ومجموعة قصصية في طريقها إلى الصدور ( قصص راعفة )  

وله في السيرة الذاتية رواية  ( خطوات في الليل ) 1994

وفي الدراسة الأدبية

– الفاصلة في القرآن ( رسالة ماجستير ) 1973 م

-  في الأدب والأدب الإسلامي 1986م

-  في الأدب والحضارة – 1985 م

-  صفحات في الفكر والأدب  2000م

-دراسات في الشعر الأدبي  ( قديمه وحديثه رؤية إسلامية ) 2002-م

في التاريخ :

 ذكرياتي مع السباعي 2001م

-حماه مأساة العصر .

- تدمر الجزرة المستمرة .

وكتب في فلسفة الحياة :

-   كتاب  (مرجعية الحياة عند السباعي نموذجاً  ) وسيصدر عن دار عمار بإذن الله عما قريب .

بالاشتراك مع الآخرين :

-  أصوات مجموعة قصصية  1978م

-  في الدراسة الأدبية ( دراسة أدبية لنصوص مختارة من الأدب العربي الحديث ) 1975م

-  في الإنشاء الأدبي 1974 م

-  مشكلة القدر والحرية1972 م

-  عالم المرأة 1985م

-  خط اللقاء –مجموعة قصصية 1988م

كتب –رحمه الله-  للأطفال :

في الشعر :

 ديوان فاز في مسابقة رابطة الأدب الإسلامي  منذ 9 سنوات :

( العصافير والأشجار تغرد للأطفال )  وننتظر خروجها إلى النور .

( ديوان هيا نغني يا أطفال )  تحت الطبع .

كتب مسرحيات شعرية  للأطفال :

( الصقر ) و (الغزال ) و(الكلب ) ( الهرة )( الأسد ) و ( الحصان) و ( القرد ) و( الدلفين  ) وغيرها

 وكتب للأطفال مجموعة من القصص   .

له أناشيد ملحنة للأطفال صدرت  سلسلة تعليمية مسماة ( سلسلة الصوت الذهبي ) صدر منها ( ربيع القلوب ) و( ربنا وتقبل دعاء ) و( رياض المتقين ) وشريط رابع سيصدر عما قريب بإذن الله .

 وله ترنيمات عن المدينة المنورة في  شريط  ( مدينة الرسول ) وهو شريط مميز أنتجته ( دار الزاد )

لقد ترك لنا –رحمه الله – أدباً إسلامياً رائعاً ، وشعراً تقليدياً آسراً ، برع في شعر التفعيلة ، وليس كل الشعراء يبرعون وهو أول من أنصف الأديب علي أحمد باكثير رائد شعر التفعيلة بعد أن غمط حقه كثيراً  .

ويجهل كثيرون دوره في أدب الطفل المسلم ، وقد لمسنا نتاجه المميز رغم أن اهتمامه بأدب الطفل ظهر في السنوات الأخيرة ، وما يميز نتاجه في هذا الباب عن نتاج غيره أنه يناسب مستوى الأطفال ولا نراه يستخف بهذه الشريحة الهامة في المجتمع  ، فكان يجمع- رحمه الله- بين الأسلوب السهل والمضمون الراقي . أما المسرحيات الشعرية للأطفال عند شاعرنا  فهي تذكرنا بأمير الشعراء أحمد شوقي ومسرحياته الشعرية التي طبقت شهرتها الآفاق

حلق –محمد الحسناوي - في  التحليل السياسي وكان لايبارى في هذا المجال بشهادة إخوانه، له مئات المقالات التي وضع فيها يده على الجرح.

رحمك الله  - أبا محمود  - رحمة واسعة على هذا العطاء الفياض ، وألهمنا وأحبابنا الصبر والسلوان، وجعل مقامك في عليين مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً...