المزار
المزار
(إلى الراحل حسين البرغوثي ومن سار ...)
عبد السلام العطاري
العلاقات الدولية / اتحاد كتّاب الانترنت العرب
حين يصير المزار محجاً للعابرين إلى اللّغات المتوارثة المؤلفة للصّباحات القزحيّة الآيلة للصيرورة الأبدية، المتربصة بالحكايات، المكونة لزُرقة البحر وقيعان الأحلام الوردية، وحين تتشظى شرنقة الحُسين على شطآنٍ تعيد المنفي إلى مكانهِ وتستقر النبوءة في موطنِها، ويتكاثر آمو المزار كسنابلِ قمح تنثر قطراتها على ما تبقى من غفوة لعذراء في مدينة عالية الشرفات المطلة على المساحات الرحبة لجبال تسمو فوق أريج الأزهار المنتشرة على حفاف وديان تنشد أغنيتها على شَبّابَة وظريف الطول يرتد بين قيعانها الهاجعة كاستراحة القوافل من سفرها اليماني البعيد .
المزار الحسيني، الأكثر ضجيجا... والأكثر فسحة.. الأكثر فضاءً خلاّقاً، بشّر بضوء أزرق يتسلل من بين أجنحته المترفّعة عن حدود الرؤيا؛ شهوةً رخيةً لذيذة تُرحّلنا إلى عابر فوق ضفاف الغروب الذاهبة من المزار إلى الضريح المنتصب قامة سامقة وأكثر نضرةً وابتهاجاً؛ لحظة يحضن الجسد حفيف الروح المنبعث كبُحة ناي قرب مغارة انزوى عازفها هروباً من زخّات المطر حين فاجأته غيمة متوسطية معشّقة بتلاقح أزهار برتقال يافا وأزهار لوز (كوبر ) التي عشقها حين توضأ حنينه إلى تلال اللوز الباسقة، وجنبات البلوط المكتظّ لتدخل أجمّته بثوبها الممتلئ بخيوط العمر الزاهية، لتشعل جمراً لتفوح رائحة الخبز المحمّر كوجنتيها حين تلسعُها حرارتها و ترشُّ الندى لتطفئ وجنتيها للفجرِ المشتهي للمُسْتدرِك الباكر، المستأنس بمعنى أن يكون الزيت موقداً لخبز ما زالت تعلق به (رظف الطابون) والمؤذّن فينا لا ينفي ولعه الطفولي البريء بالندى المستعجِل خوفاً من نوم نسمة يحْجِمُ رذاذ البحر عن بلوغها إلى سفح الجبل .
قالت العرّافات العارفات بالنوّة... إنّ البحر يموج أكثر حين تلاقح نجوم الأنواء أهداب ربة القمر ورائحة خبز الطابون، فتولد ليأتي المخاض في الغداة لتكون الصباحات حسينية مُكربلة بعطر العائد من زحمة المدينة، إلى أزرقة متربة ليشهد اللوز على ما تبقى من عمر أيقظه لينام تحت إبط جذع روميته العتيقة، وتكون الأهداب لصحوته فراشات مغمسة بزرقة النهر، فتدق الوديان إيقاعها ويتمايل التل نافثا لفافة تبغ مجبولة بعرق القطاف.
الحسيني العارف بالأرصفة المُكتظَّة بشهوة الأسئلة،كان يؤلف الشوق والمحبة والحنين جواباً يوزعه على الحجيج المتأخر عن فرائضه ليغسل توبته بماء بئر طالما علاّ ناره الليليّ حولها، وتجمّر حطبه الرافض للانطفاء لذَّةً للساهر المُغني وللراقص كهندي أحمر المُدرك أن الرقصة الأخيرة التَعِبَة عادة ما تكون أكثر التصاقاً بالأرض،كي يبقى وقعها يلازم المسافر إلى عمقها، لعله يشربُ من حوضها نفحات الطرب، وينيم جفونه؛ ويغمد الأهداب لتنغرس في الأرض السمراء اللّزجة، ليمهّد لنبتِ التَبغ المستقر في جُرنها وتعض عليه كحبرٍ على وقع قصاصات متناثرة في حُجرة طالما كان بساطها الملون بحكايات وفلسفة وشعائر وتمائم ورُقىً للراغب بالخلاص من قلق و أرق القصائد والروايات المتلعثمة، ومسطراً حروفه بمقدار تتساوى به اللهفة بعناقه، وبمقدار المتدفقين إلى صحوته الصاعدة إلى غفوته حين يَسبلُ النُعاس على مرقدهِ وشاحاً نسجته حوريات ضربن الرمل، و البحر تواطأ عِشقاً ورغبة لسادن الصومعة .
الحسيني، المتنبئ بنبيذ المطر حين يستحضره من دموع عذراء قرشية خفق القلب لها وذوى في مكتحل العشق وقاب الهمس شفتي الشمس أو أدنى، مُستعجلاً لذَّة اللسعة، حين استباح الرومي مرقصها الليلي ذات سَبلة لعيون متعبة بما حزّ الخلال من بياض الكعب المرتعش في هفوة القلب، وتوشّح الغضب في ديره ليخلع أجمّته ويستل صلوات تحشده لرد الرّدة، وساج الوقت وما تبقى من لهاث الليل السامر الشجي بضفة النهر، وزنم الأيك اكتظاظه، لعل ريحاً علقت على صليب (الدير الجوانيّ)، فانتشت لهفة الاستغاثة المائسة على شفتيها وانتفض الندى من راحتي الزرع ليغسل بجلجلة الصوت خوفها.
هذا العارف بنثار سوسنة برية تُخبئ رسائل عشقها في إبط الوادي الـ يغفو على كتف الدير، يجر تثاقله إلى بحر يشتهي شتاءات أيار منسيٍ تركتهُ الفصول الهاربة من عذابات العواصف .
الحسيني المستحضر من شفاه الكنعانيات ابتسامة خجولة، تختبئ خلف توقّد جعودها السمراء أغنيات قطّافات الزعتر، حكّاءات القَصَص الليلي.
قالت العارفة...إن الندى البري يطل حين تؤول الليالي المكتحلة من الدهم الأسود حين تحتجب ربة القمر ثلاثة سوية، وأخريات كنَّ يجالسنَ ألوان الطيف حين تطل كوكبة الصبح تستأذن المسجى على عرش المزار فيبتسم الوجه النوري لتشرّع المضيئة في سمائها ستائر العَشِيّة فتضيء وهجاً على المحيى ويبدأ النهار .
أيها الكنعاني الفلستيّ، جئناك نستحضر المعرفة في حضرتك حين تكون المزار أنت، والمزار أنت حين يسجّى الجسد جبلاً شامخاً رافضاً عصياً لنتوءات العواصف وللغافين على ركبة الغريبات المتناسين النسّائين الأكّالين للوفاء، ويخفون دنّ الأجوبة، ويخشون الصوت المُكتظّ الناهر على اليعاسب خطّافي العنب الغضّ، وها نحن نقتفي الدروب المغبرّة التي تصل إلى ما وعدتنا به، أنَّ الناي والأرغول والشبابة لحن ديارنا، وأنَّ رائحة الطابون في الصبح تبشّر برائحة العرق في النهار، ولا يتقن طقوس تبارك الحجيج الوافدة من حدبها وصوبها غيرك وغير من تساقط من جبهته عرق التعب والجواب المنعوف على سياج السؤال الممنوع .
كنت براً فأتينا إلى مأمنك ومسحنا عناء التعب عن جباه تنـز خجلاً حين نعلم أنّ الأرض يرثها عبادُه الصالحون.
كنتَ بحراً، فأذِنتَ للأشرعة أن تسافر فينا إلى حيث اللازورد المتوهج بألوان طيفك وبرّ ضفتك القصية إلاّ عمّن يعرف الرسو عليها.
كنت المتربص الناهي، فعققتنا عن مواطن الضعف والخوف، ومنحتنا القوة والإرادة، فكان بالأمس صومعة نحمل منها ما تجود به من لغة عاشقة للسفر والرحيل إلى العودة، حين يدق الجسد شوقا وحنينا لشواطئه.
واليوم نعيد تباشير الصباح إلى فجرِ مزارك الأبدي المقيم قرب أفئدتنا، فكُنتَ نبوءة ثقافتنا، والأنبياء يرحلون مبكرين.
قالت: ترك لكم الكربلائي؛ محبة وألوان طيف وكلمات مقدسة، فان اهتديتم بها لن تضلّوا أبدا.
نحن هنا .. تحت رفوف عليائك وأنت المستبقي والمبقي فينا روايتك وحكايتك وحجر الورد.. فسلام عليك.. وسلام لك يا من ترقد بين اللوز.
* كتبت لمناسبة اسبوع حسين البرغوثي الثاني للثقافة الفلسطينية .