تحية إلى الدكتور محمد حميد الله
تحية إلى الدكتور محمد حميد الله
في ذكرى وفاته
الأستاذ عصام العطار *
« في السابع عشر من هذا الشهر : كانون الأول/ ديسمبر 2004م يمر عامان على وفاة الدكتور محمد حميد الله تغمده الله برحمته ، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء
و” الرائد “ التي ربطها بهذا الإنسان المسلم العظيم – الذي لم يؤدّ له المسلمون في حياته وفي مماته أيسر اليسير من حقه
– أوثقُ الروابط ، والتي عرفت الكثير الكثير من علمه وخلقه وفضله ، لَتُحَيّي ذكراه العطره في هذا العدد ، بإعادة نشر مقال حيّاه به صديقُه الأستاذ عصام العطار قبل عشرين سنة من هذا التاريخ ، ففي هذا المقال لمحات من فضله ، ووفاء بشيء من حقه »
- الـرائـد -
تحيةٌ إلى الإنسانِ العظيم ، والعالمِ العظيم ، والمسلمِ العظيم الدكتور محمد حميد الله ..
تحيةٌ إلى الرجل الذي ارتفع بإيمانه الصادق فوق هذه الدنيا حقيقةًً لا كلاماً ، فكان مُذْ عرفنَاه أكبرَ من هذه الدنيا ، وأزهد الناس بها ، في طعامه وشرابه ولباسه ومسكنه ، وفي تواضعه ، ونأيه بنفسه عما يتهافت عليه الناسُ ، من المتعِ والملذّات ، والمكاسبِ والمناصب ، والشهرةِ والتكريم ؛ وهو لو أراد شيئاً من ذلك لبلغَ منه الكثيرَ دونَ عناء ..
تحيةٌ إلى الرجل الذي وسعَ بقلبه الكبير ، وعقلِه الرشيد ، وخلقِه الرفيع ، وأفقِه الواسع ، سائرَ الناس ، وأحبَّ لهم ما أحبّه لنفسه من الهدايةِ والخير ، وبذلَ في إرشادِهم وخدمتهم ، من قلبِه وفكره وعلمه وجهده ، ما تَنُوءُ بمثلهِ العصبةُ أولوا القوة ، فثبَّتَ الله به من ثَبَّت على الهدى ودين الحقّ ، وأخرجَ به من أخرج من الملحدين والكافرين والضائعين ، من الظلمات إلى النور ، ومن الضلالة المهلكة إلى صراطِهِ المستقيم .
تحيةٌ إلى الرجل الذي عاش في الغرب فلم يفتنه الغرب ، ولم يلوِّثه الغرب ، وكان حيثما وُجِد منارةً هادية ، ودعوَةً دائبة ، وتعريفاً حيّاً بالإسلام ، وفضائل الإسلام ، بلسان الحال ، لا بمجرد المقال : تعريفاً رائعاً ما يزالُ له في كثيرٍ من النفوسِ أجملُ الآثار ، وما يزالُ يفتحُ القلوبَ لدعوةِ الله عزَّ وجلَّ ، ويُوَلّد لها عند المنصفين المحبةَ والإعجاب والإكبار.
تحيةٌ إلى الرجل الذي استنفدَ عمرَهُ وقواه في خدمة الإسلام والمسلمين والإنسان ، ووهبَ حياته لخدمة دينه وأمّته بقلمه ولسانه وعمله ، في كلّ مكان ، وعلى كل صعيدٍ يراهُ أولى بالجهد ، أو يرى نفسَه أقدرَ على الإفادَةِ فيه ؛ مُسَلّحاً في ذلك كلّه بالإيمان والإخلاص ، والعالم والوعي ، والإرادة والدأب ، والتضحية والصبر ، وعددٍ من اللغات الحيّة منه العربيّةُ والأرديةُ والفارسية والتركية والفرنسية والإنجليزية والألمانية .. يَفْهَمُ بها العالم ، ويُخَاطِبُ بها العالم ، ويخدم بها دعوة الله أجلّ الخدمات .
تحيةٌ من أعمقِ القلبِ والحبِّ والعرفانِ إلى محمد حميد الله ، وهو يحملُ الآنَ على كاهِلِهِ المكدودِ ، وهيكلهِ العظميِّ الناحل ، أعباءَ سِنِيّه الثمانيةِ والسبعين ، ويفتِّشُ حيثُ يعيشُ من عشراتِ السنين في باريس ، عن ” مأوى عجزة “ متواضعٍ ، يقضي فيه ما بقي من أيّامِ شيخوخته ، بعد أن أعطى صِباهُ وشبابَهُ وكهولتَه وخيرَ أيّامِ الشيخوخة والحياة للإسلام والمسلمين : فلا يجدُ ” مأوى عجزة “ يقبلُه براتبهِ التقاعديّ الضئيل .
لا أكتبُ هذا الكلام – كما قد يتبادرُ لبعضِ الأذهان – لأستثيرَ شعورَ المسلمينَ بالمسؤولية عن هذا الرجلِ العظيم ، ولأدفعَهم إلى الوقوفِ معه في هذه المرحلةِ من شيخوخته ، ومساعدتِه على توفيرِ الشروطِ الملائمة لوضعه الصّحيّ ، ولاستمرارِ إنتاجِه وعطائِه الجليلِ الذي لا يُعَوِّضُه في مجاله سواه ؛ فالأستاذُ الدكتور محمد حميد الله لا يقبلُ مساعدةَ أحدٍ مهما اشتدّتْ به الحال ؛ بل لقد كان – وما يزال – يقتطع من ضروراتِ حياتِه الأساسية ما يساعدُ به الناس ، ويُحَوِّلُ رَيْعَ كتبِهِ – إن قَبِلَ أن يأخذ لكتبه ريعاً – إلى الجهات التي تخدم الإسلام والمسلمين ..
إنما أكتبُ لأُسجِّلَ واقعاً مأساوياً ، ما أَمَرَّه وما آلَمَه منْ واقع ، وما أَدْمَاهُ للنفوسِ التي لم يمتْ فيها كلُّ إحساس ، ولم ينعدمْ فيها كلُّ وفاء ، ولم تفقدْ كلَّ الفقدِ أدنى شعورٍ بالمسؤوليةِ والواجب .
أَيْ محمد حميد الله! أيّها الشمسُ التي أنارتْ طويلاً ، وبدأت تَجْنَحُ الآنَ للغروب ..
أيّها الشَّفَقُ الملتهبُ على الأُفُقِ بالإيمانِ والمحبّةِ والإخلاص والذي يَتَهَيَّأُ الآنَ للمغيب ..
أيّها الفارسُ القديمُ الذي حملَ رايةَ الإسلامِ في بلاده التي حُرِمَ منها ( حيدر آباد ) وفي ديار الغرب ، وفي بقاعٍ أخرى متباينةٍ من الأرض ، بثباتٍ وصبر ، وتواضع وصمت ؛ والذي يوشِكُ ضعفُ الجَسَدِ أن يَنْزِلَ بِهِ الآنَ قسراً عن جوادِه العتيد ..
أيّها الخُلُق الرفيع ، أيّها الزُّهد الصادق ، أيّها التواضعُ النادِر ، أيُّها العمل الدائب ، والعطاءُ القلبيُّ المتواصل ، على صعيد البحث والتأليف ، والتوجيهِ والتعليم ، وخدمةِ كلِّ محتاجٍ بما تستطيع ؛ من مالٍ أو جاه ، أو مشاركةٍ عاطفيّةٍ فكريّةٍ أخوّية ، تَأْسُو الجراحَ وتُسَدِّدُ الخُطى ، وتُعِينُ على متابعةِ الطريق .
أيْ محمد حميد الله
إن كانَ قد عقَّك المسلمون ، وقصَّرَ في حقّك المقصّرون ، ولم ترَ أقلَّ القليلِ مما تستأهلُهُ من العرفانِ والتكريم ، والمساعدةِ على القيامِ بالواجب ؛ فإنَّ الأجيالَ الإسلاميةَ الجديدة ، والطلائع الإسلاميةَ الأصيلة ، لتُعَبِّرُ لك في هذه المرحلة المتقدّمة من مراحل حياتِك وجهادِك الطويلِ النبيل ، عن أعمقِ مشاعرِ المحبّةِ والعرفانِ والشكرِ والتقدير ، وتُرْسِلُ إليكَ – عبر الرائد – بهذهِ التحيّةِ الصّادقةِ الخالصةِ المنبعثةِ من أعماقِ القلوب ، وإنْ كنتَ قد عملتَ ما عملتَ في حياتك المباركةِ كلِّها ، وأنتَ لا تنظر إلاّ إلى الله ومرضاةِ الله ، ولا تريدُ من أحدٍ من النّاس جزاءً ولا شكورا
فجزاكَ الله عنّا وعن الإسلامِ والمسلمينَ خيرَ الجزاء .
ومدَّ الله في حياتِك الغاليَة ، ومتَّعَكَ بالصّحةِ والعافية ، وأبقاكَ بيننا ، وحفظكَ فينا ، أخاً حبيباً كبيراً ، وقُدْوَةً عزيزةً وذُخْراً ، ولا حَرَمَنا منْ ثَمَرَاتِ علمِكَ وفكرِكَ وعلمكَ النافع .
والسلامُ عليكَ حيثما كنتَ ورحمةُ اللهِ والبركات .
* أديب وزعيم سياسي سوري كبير يعيش في المنفى