أحقاً خلت جدّة منك يا يمان؟

فاطمة محمد أديب الصالح

[email protected]

تعلقت الأنظار الحزينة بسرب يمام، حلق فجأة فوق المقبرة الصامتة، ليحطَّ بكل جلال وجرأة فوق القبر الندي، ربما قريباً منه كثيراً

مكث يقرقر، يسبح كما خبر عنه ربه..

لم تفزعه خطوات العابرين الحزانى، ولم تبعده أناتهم وأزيز صدورهم الملتاعة

وعلى مبعدة خلف سور المقبرة البسيطة جدا،  وقفت نسوة متشحات بالسواد ..بعيون غشاها الدمع، وقلوب تصرخ وتنتفض دونما كلل،

يودّعن النزيلة الجديدة على ربها،

القادمة بالنهاية السعيدة، والخاتمة المشتهاة لكل مؤمن.

كانت خيوط الشمس قد بدأت رحلتها الصباحية عبر الأفق المخضب، وكان الجو لطيفاً هانئاً ساكناً، يردد قلبه البكر نشيد الحزن والحب والرضا:

إنا لله وإنا إليه راجعون

 ماتت يمان..

***

يمان علي الطنطاوي

ومن لم يعرف علي الطنطاوي من العرب المسلمين فليسارع بالسؤال عنه واقتناء بعض كتبه.. وإلا فلا حاجة لنا به.

ولدت يمان في دمشق عام 1955( كان أجدادنا الفخورون يسمون زمن الجدب سنة، وزمن المطر والخير عاماً)، في بيت النباهة والصلاح وحب الخير ، وانتقلت في سنواتها الدراسية المبكرة للعيش مع والديها في السعودية في مكة، لتصبح المملكة وطناً نهائياً، إذ أصبح والدها( فقيه الأدباء، وأديب الفقهاء) بعد زمن يسير غير مرغوب فيه في موطنه الأول سورية.

تزوجت صغيرة، وانتقلت للعيش في جدة، وتابعت دراسة العلم الشرعي بعد أن أنجبت عفراء، من بعد عمرو وعلاء وعبادة.

فبدأت التدريس في جامعة الملك عبد العزيز بعد التخرج مباشرة بصفة معيدة.

عاشت وفق ما اعتادته بنات الشيخ وما تربَّين عليه: إكرام الضيف والنصح لكل مسلمة ومسلم.. ثم كانت لها دروسها المنتظمة في الفقه والدعوة، وبخاصة بعد أن حصلت على شهادة عليا من جامعة أم القرى بمكة..

أما ما قدمته من المشورة والنصح والعون لمئات من الشابات والأمهات والزوجات فلا يعلمه إلا الله ..

كانت صداعة بالحق متمسكة به، تحذّر من الفتن والأهواء، ولا يفوتها انحراف مهما صغر شأنه عن طريق الاستقامة التي التزمت بها. نحسبها كذلك ولا نزكي على الله أحداً.

كانت قدوة في حجابها، في كرمها وفي تعاملها، وفي شأن عرفت به جميع بنات الشيخ الرائد: أنها عاشت سيدة مجتمع بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ما حقق لديها معادلة كانت دائماً صعبة، الجمع السليم بين الدنيا والدين، بين تذوق المتع الحلال دون شعور معطِّل بالذنب، وبين التعبد وأداء الحقوق بقدر طاقتها..

حباها الله حزماً وسرعة بديهة وعلو همة: صفات تجمعها أيضاً بسائر أخواتها( عنان وبيان وأمان) وكانت أصغرهن،كما تجمعها بأخت لها( بنان) اغتيلت سنة إحدى وثمانين على باب دارها في ألمانيا، في حادث أليم شهير.

فكانت رحمها الله تعالى، لا تتكاسل عن واجب، ولا تؤجل سنة من سنن الإسلام في البر: من زيارة مريض أو تهنئة أو عزاء أو صلة رحم، أو اجتماع تنشر فيه مبادئ دينها

طلبت من أبنائها معالي الأمور بحزم ومتابعة، كالذي طلبته من نفسها.

يساندها، ويشجعها وينجدها زوج كريم النفس والخلق، عرفته مدينة جدّة وأحبته من أول شبابه( نادر تيسير حتاحت) إلى أن ابتلي بفقدها فصبر واحتسب.

***

كانت في واجبها الأخير في مكة، تبارك لابنة أختها مولودتها الأخيرة، في وليمة ضمت معظم أفراد العائلة الكبيرة وبعض الأصدقاء.

وفي طريق العودة إلى جدة اقترحت المرور على الحرم للطواف، وبعد أن طافت وصلت ركعتيها، عادت وطافت مرة أخرى مع ابنتها، فكانت أربعة عشر شوطاً , وأربع ركعات ودعت بهن الحرم المكي، وودعها.

لما عادوا إلى سيارتهم، كانت الساعة تقارب الثانية عشرة ليلاً.. ولم يبق ليمان على أرضنا هذه إلا نصف ساعة أو أقل.

سيارة تضرب سيارة العائلة، الأب في محاولة لتفادي الضربة ينحرف يساراً لتصطدم السيارة بحاجز شبكي يفصل بين الذهاب والإياب.. فطارت إلى طريق الذهاب، بدأت السيارات تصطدم بها، ذكر تقرير الشرطة ثماني سيارات، أربعاً من كل اتجاه[1]..حطت السيارة أخيراً على عجلاتها.. لكن متجهة نحو مكة.

 صارت يمان متجهة إلى القبلة.

حل أخيراً سكون مفزع، وخرجت عبادة ابنة الفقيدة من نافذتها المحطمة لتتفقد والديها وعمّتَيها.

لم تفهم لمَ يهمل رجال الإسعاف أمها وينقل العمتين ثم الوالد؛ قبل أمها التي لم تجبها إلا بغمغمات غير مفهومة، وقد غطى دمها مقعدها من خلف رأسها.

رفعت يمان أخيراً إلى سيارة إسعاف: وبدأت رحلة وداع قصيرة جداً، ما بين إجراءات الدفن، وتغسيل الميتة التي أوصت دائماً وبإلحاح أن تدفن دون أي تأخير، وفق سنة الإسلام.

صلوا عليها بعد صلاة فجر الجمعة.. ودفنوها وقد بدأت  خيوط الشمس رحلتها الصباحية عبر الأفق المخضب، في صباح لطيف هانئ معتدل، صادف الثامن عشر من شوال، ووافق السابع عشر من تشرين الأول أكتوبر.

***

كانت زيارة يمان، صديقةً وحماة لابنتي الكبرى، حدثاً جميلاً غنياً لا بد منه كلما زرت جدة، ومعرفتي بها تعود إلى ما يقارب ربع قرن.

وكان تناول عشاء أو غداء واجباً  لافكاك منه ولا مهرب..

كانت أماً أخرى لابنتي ولزوجة ابنها علاء، قد تؤثرهما بما تؤثر به الأمهات بناتهن، حتى إنها دلتهما على مكان كفنها في خزانة ملابسها قائلة: ستكون بناتي في انشغال واضطراب يوم وفاتي!!

وعندما هبطت بي الطائرة صباح الجمعة وقد مرّ على دفنها بضع ساعات فحسب، كنت أتساءل غير مصدقة: أحقاً خلت جدةُ منك يا يمان؟

***

وكان في بيت العزاء صور من الوفاء والتصبر والرضا لا يتأتى للكلمات أن تختصرها إلا بجهد:

الطعام والشراب يرد من حيث لا أحد يعرف، ولا أحد يهمّه أن يُعرف

( أليست سنة الإسلام: اصنعوا لآل جعفر طعاما..)

العشرات تلو العشرات، ولعلي أبالغ في تجنب المبالغة، من الطالبات والزميلات والصديقات( لكل الأخوات)، بعضهن كن طالبات( لها أو لأختها بيان) وصرن زميلات[2].

رأيت بنات أقرب إلى سن الطفولة؛ يحضرن ثلاثة الأيام.

نسوة كريمات عليهن سمت الطيبة والاستقامة، صبايا منعمات، عجائز ذقن الذي ذاق آل الطنطاوي: الدموع تختلط بالبسمات المشجعة، والضمات الصادقة تفرغ بعضاً مما تلقاه المعزّية ومتلقّية العزاء، على حد سواء.

بدت بعضهن أقرب إلى انهيار مهذّب يخشى الله، بدت بعضهن أقرب إلى الأم الملتاعة

جوّ من الصدق الصافي قلّ أن يعيشه القلب، ونفحات طيبة من الذكرى الطيبة، مازجت كل لحظة وكل مظهر من تلك الأيام الثلاثة التي خلت من كل ما نهى الله ورسوله عنه في أوقات كهذه.

أما حزن الأهل فحقاً يصعب تصويره، كان شامخاً جميلاً.. مثل سيرة يمان..

***

اللهم اغفر ليمان وارحمها ولا تفتنّا بعدها

اللهم تقبل منها أحسن ما عملت وتجاوز عن سيئاتها

اللهم اجعل قبرها روضة من رياض الجنة

اللهم أنزلها منازل الصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.

اللهم ارزقنا ما رزقتها من العمل وحسن الخاتمة، ومن البشارات الجميلة.

***

فداك أبي وأمي يا رسول الله، ألا إن كل مصاب بعدك جلل[3]

يا أسوتَنا الحسنة، وقبلةَ قلوبنا كلما شتّتت الدنيا أمان القلوب:

كم فقدت من أحباب وفلذات كبد!

فما لنا لا نصبر ونحتسب، كما علمتنا:

إنا لله وإنا إليه راجعون

إن لله ما أخذ ولله ما أعطى

إن القلب ليحزن وإن العين لتدمع

ولا نقول إلا ما يرضي ربنا

وإنا على فراقك يا يمانُ لمحزونون

              

[1]. بلغ عدد قتلى الحادث سبعة مع الغالية يمان. سلم المتسبب نفسه ثم أطلق سراحه بكفالة رغم أنه جاء في التقرير أنه مسؤول كلياً عما حدث.

[2] . ذكرن  أنها قبل عطلة نهاية الأسبوع، مرت على كل منهن في مكتبها وودعتها، على غير عادتها.

[3] . يسير