سأعيش في جلباب أبي

د. كمال رشيد رحمه الله

بلال كمال رشيد

الكلمة التي ألقيت في احتفالية الوفاء للدكتور كمال رشيد

الذي أقامته رابطة الأدب الإسلامي مكتب الأردن في يوم السبت 26/7/ 2008

في المدارس العمرية  عمان  الأردن

الحمد لله

الحمد لله

الحمد لله يبقى المجد والشرف ...أن أبي أمامي أراه حيثما أقف.. ها هو الكلام ينتهي إليَّ ...ولن ينتهي فيك...هاهم الأوفياء ..الأنقياء  ...الأتقياء ...متحدثين ومستمعين ...يجتمعون على طاعة الله في محبتك.. وعلى الوفاء إليك ..ها هم ينسجون من عبراتهم عباراتهم ...يعززونك فينا ..ويعزونا فيك ..هاهم يلتقون في بيتك الثاني ..في عرينك العمري ..حيث كنت يوماً فارس هذا المكان..هاهم يجتمعون ..يلتقون على  قلب رجلٍٍ واحد ..قلبك ..ليقولوا فيك كلمة الوفاء ....يا رجل الوفاء .

ها هو الكلام ينتهي إليًًَّ...فكيف يمكن للكلمات أن تختزل حباً دام أربعين عاماً ...كيف لي أن أسترجع ما كان من كلمات.. ومن نظرات ..ومن خطوات ..كيف لي أن أستعيد سكن الروح ودفء المشاعر ؟!!

كيف لي أن أرسم بالكلمات وجهاً مازلت أراه ناظراً إليَ ،ونضراً أراه حين يراني ؟!

كيف لي أن أصدق أنك قد مُت يا أبي...!!! وأنت في كل ماأحياهُ حيٌ..كريمٌ..حنونٌ .. معطاء ..حتى وأنت هناك تقدمني هنا.

أربعون عاماً عشتها طفلاً ..وابناً.. وصديقاً.. وظلاً.. أربعون عاماً تحملني وأحملك ... تحملني كنيةً.. وأحملك اسماً ...تنادى بي...وأنادى بك ...أحملك همةً وتحملني هماً ...حتى تركتني إلى همٍ ثقيلٍ لا أستطيع له حملا!!!!

أربعون عاماً ..قرأتك في عيون محبيك ..رأيتك في قلوبهم كبيراً ... جليلاً ...وهاهم اليوم يقولون فيك قولاً جميلاً.. ويبكون فيك بدراً منيراً...

أربعون عاماً ..ما خشيتُ منها إلا يوم الفراق ...كُنت أدعو الله أن تكون ساعتي قبل ساعتك ..لكني كنتُ أخشى دمعك عليّ..أفلم تخش دمعي عليك يا أبتي؟!!

أبتي .. يا أبي .. يا قلب قلبي.. يا أبي ..أتسمعني الآن؟ هل فقدتُ هذا النداء إلى الأبد ...يا أبي ...هل كبرتُ إلى هذا الحدِ..حتى لا أكون بلا أمٍ وأب؟! ...يا أبي لقد كنتُ فرحتكما الأولى ....فكيف تكونانِ فاجعتي الأولى ؟!

هل تراني أودع الشباب.. وربيع العمر؛ لأعيش الآن خريفه ؟! هل بدأت الأوراق بالإصفرار والتساقط؟!

يا أبي ...هل فقدتُ هذا النداء إلى الأبد؟!

يا معشر الأيتام ..يا معشر الأيتام ...اقبلوا عضويتي بينكم ..لا تنظروا إلى طولِ قامتي ..لا تنظروا إلى عمري ..لاتنظروا إلى الشيب الذي غزا شعري ...بل انظروا إلى دمعي السيال ..وقلبي المجروح ..تابعوا دمعي ومدادي ..اقرأوا كلماتي وشعري ...ستجدون فيَ اليُتم  الذي تعيشون ..ستجدون فيَّ القلب الذي تنبضون ...سأكون لسان حالكم حين تتكلمون ..

كثيراً ما كان أبي يردد قول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: أعمار أمتي ما بين الستين والسبعين ...وكنتُ أتمنى أن لا يقوله أمامي ..كنتُ أقول يا ليته يصمت عن هذا الحديث ...وصمت إلى الأبد ..ولكن.. وهو يحملُ الرقمين معاً ....فمات عن عمرٍ يناهز السبعة والستين عاماً.

يا أبي ...

كم تمنيتَ أن أكون أديباً.. باحثاً ..أن أخرج على الناس بمقالٍ.. أو قصيدةٍ ..أوبحثٍ ..هنا أو هناك ...وها أنا أكون.. بعد فوات الأوان ..أطل على الناس ..وأول عهدهم بيَ رثاء ...رثاؤك ...فهل أنا وفيٌّ يا أبي ؟!

ضحكت مني يوماً..سخرت ...بأنني كتبتُ الإهداء قبل أطروحة الدكتوراه..ويا ليتك علمت.. بأن الإهداء كان لك ولأمي ...ياليتك علمت.. بأن دراستي كلها لم تكن إلا لتقول لك شكراً..وها أنت ترحل؛ لتقول لي:  شكراً لك يا ابني؛ لأنك لم تقلها ؟!

فهل أنا وفيٌّ يا أبي؟!

هل كان عليك أن تموتَ لأكون أنا؟! ..لأكون هنا ؟!..ويستعصي عليَّ الشعر ...تنأى عني القوافي ...فهل أنا وفيٌّ يا أبي ؟!

لقد رحلت عني إليّ ...الآن تسكنني أكثر من أي وقتٍ مضى ...الآن أشتاقُ إليك ...الآن أستذكر أربعين عاماً ...وأستذكر الحادثَ والألم الذي ألمّ بنا ...وفي المشفى أبي كنت إلى جانبكَ ...أضع يدي في يدك ..أهمس في أذنك ..أقرأ عليك بعض أشعارك ...أقرأعليك سلام أصحابك ...وكنتُ أعيش على الأمل بأن تحيا.. وتعود إلينا ...ما فقدتُ الأمل حتى آخر لحظة ...وكانت الفاجعة ...وكان ما كان ...ثلاثة أشهر عشناها ..ونحن نصبر ونصابر ...ونأوي إلى مدونةِ مأمون جرار الذي كان عنوانها: ( الدعاء بالشفاء للدكتور كمال رشيد) وقرأنا فيها محبة الناس لك وتعاطفهم معنا ...كُنت أزورالمدونة بين الفينة والأخرى ...والكل يدعو لك بالشفاء ...حتى دخلت إلى المدونةِ: متحسراً.. باكياً..قارئاً من جديد كلمات الأخوة.. وقارئاً العنوان الأول: ( الدعاء بالشفاء )فوجدتني كاتباً:

تمنيت أن أنقل إليكم خبر شفاء الوالد ، والآن أنقلها لكم بكل ثقة ..لقد شفي والدي من كل أمراضِ الدنيا.. لن يشكو بعد اليوم مرضا..ولن يحمل هماً.. ولا غما ..لن يجوع ولن يعرى ..لن يشكو نفاقاً.. ولا فاقة.. ولا غدرا ..لن ينام مهموماً ..ولا محزوناً ..بل ينامُ قرير العين ..هادىء البالِ .. فقد أصابه عدل الله ورحمته ولن يصيبه مرض.. ولن يشقى.. بإذن الله الأرحم ...ولسوف يعطيه ربي ويرضى.

لقد عشت إلى جانب أبي أربعين عاماً ..وما عرفته حق المعرفة إلابعد أن رحل ...عرفته في أيام المرضِ والعزاء ...عرفته من كلام الاوفياء.. كلٌّ يعطيني نبذةً عن إخلاصه ..عن تفانيه.. عن إنسانيته ...رحل  وترك لنا إرثا .. كبيراً.. عظيماً..نفتخر به ...ترك لنا إخوةً يشد بهم الأزر ..وعلماً يروى.

يا أبي فقدتكَ وافتقدت بعدك كل شيء ...لن أخاف بعد اليوم شيئاً ..لن أخشى  فراقاً..  ولا خسارةً ..ولا فاجعة... تهون الفجائع بعد اليوم...

ها أنا أشدو مع الغرباء  وأقرأ وصيتك لي:

وكان بلال صغيري معي

يداعب لعبته الغالية

فقلت لطفلي الصغير

 إذا غبتُ عنك إلى

غير رجعة

  فأكمل رسالة سلمى

بخط يديك

وبالدمع من  مقلتيك

أعد وجه سلمى إليك

وصل رحماً قطعته السنون ...

فسلمى حبيبتنا  الغالية

وسلمى الضحيةُ

 في كل حين

وأقول سمعاً وطاعة يا أبي... سأكمل رسالة سلمى.. بخط يدي.... وبالدمع من مقلتي ...فسلمى حبيبتنا الغالية.. ولن تكون الضحية أبدا.

لقد قال أحدهم يوماً:لن أعيش في جلباب أبي ..وأقول أنا مفتخراً: سأعيش في جلباب أبي زاهياً  .. مفتخراً ، وماذا أقول بعد  يا أبي...وماذا تبقى لي من عمر يا أبي؟!  سوى هذا الرثاء .... وألقاك ...