كلمةٌ بمناسبةِ مرورِ أربعين يوما على وفاةِ الشَّاعرِ والاديبِ الأستاذ "حَنَّا فارس مخول"
أعزَّائي الحضور الكرام الأفاضل إنَّ الشَّاعرَ والاديبَ الأستاذ " حنا فارس مخُّول " الذي فارقنا وَوَدَّعنا قبل أسابيع هو علمٌ من أعلامِنا الثقافيَّةِ البارزةِ وركنٌ هامٌّ من أركانِ الحركةِ الأدبيَّة المحليَّة . لقد كانت لهُ أيادي بيضاء وبصَماتٌ مُشِعَّة في مسيرةِالحركةِ الأدبيَّةِ والشّعريَّةِ والثقافيَّةِ المحليَّة ..لقد كرَّسَ زهرةَ شبابِهِ وحياتَهُ كلَّها لأجل أسمى وأقدسِ رسالةٍ ألا وهي رسالة التعليم وتربية الأجيال إبتداءً من سنوات الأربعينيَّات( قبل عام النكبة وقيام دولة إسرائيل ) حيث عملَ مُدَرِّسًا ومديرًا للمدرسة الثانويَّة في قرية "البَصَّة"الجليليَّة في شمال فلسطين التي هُجِّرَ أهلُها وَسكانُهَا عام النكبة سنة ( 1948 ) ..والقلائلُ اليوم من الجيلِ الجديد الناشىء يعرفون أو يسمعون أنَّهُ كانت هنالك قرية فلسطينيَّة إسمها "البَصَّة" في الجليل الأعلى وكانت فيها مدرسة ثانويَّة . والجديرُ بالذكر أنّهُ بعد قيام دولة إسرائيل وحتى أواخر سنوات الستينيَّات وبداية السبعينيَّات معظم قرانا العربيَّة لم يكن فيها مدارس ثانويَّة. وبعد عام 1948 عملَ المرحوم خالد الذكر مُدَرِّسًا ومديرًا للمدرسةِ الإبتذائيَّة في قريتِهِ البقيعة الجليليَّة.. وبقي في مهنةِ التدريس حتى خروجِه للتقاعد...لقد كان فقيدُنا الغالي خالدُ الذكر نموذجا ومثالا للمعلم الكُفء والمثالي والمتفاني لأجل رسالةِ التعليم والتثقيف...لأجل تربية الأجيال الناشئةِ والواعدة شباب الغد وَرُوَّاد المستقبل .. والكثيرون من تلاميذهِ فيما بعد أصبحوا ذوي مكانة مرموقة وهامَّة في مجتمعاتِهِم ، فمنهم: الكتاب والأدباء والشعراء والأطبَّاء والمحامون والمهندسون والمحاضرون في الجامعات وأعضاء برلمان..إلخ . ولهم دورهم وإنجازاتهم الهامَّة وبصماتهم الإيجابيَّة البنَّاءَة في كلِّ جهةٍ وصوب .
وأمَّا بالنسبةِ لمجال الشعر والأدبِ فيُعتبَرُ المرحوم الأستاذ حنا مخول في طليعةِ الشعراء المحليِّين ومن رُوَّادِ المدرسةِ الكلاسيكيَّةِ الغنائيَّةِ الحديثة محليًّا ومن شعراء الرَّعيل والجيل الأول المخضرمين،مثل الشعراء : عصام عبَّاسي وجمال قعوار وراشد حسين وَحنَّا أبو حنَّا.. وغيرهم . وكان ينشرُ معظم قصائدِهِ في جريدةِ "الإتحاد" تحت اسم وتوقيع " إبن المعتزّ "..وكانت لهُ زاويةٌ أدبيَّة وثقافيَّة ثابتة في جريدة الإتحاد إسمها " أولئك قومي " . وعالجَ في شعرهِ وأدبهِ جميعَ القضايا الهامَّة : الإنسانيَّة والإجتماعيَّة والسياسيَّة والوطنيَّة وغيرها . وقد كثَّفَ وركَّزَ بشكل خاص على المواضيع والقضايا الوطنيَّةِ والسياسيَّة . ولقد تربَّيْنا وتتلمذنا نحن جميعا الجيل الجديد عندما كنَّا صغارا وفي بدايةِ المراهقةِ والشبابِ على أشعارِهِ وكتاباتِهِ الرائعةِ والخالدة..وما زلتُ ومن جيل الطفولةِ أذكرُ قصيدةً نُشرت لهُ في صحيفة الإتحاد في رثاء الشاعر الكبير عبد الكريم الكرمي أبي سلمى "زيتونة فلسطين" ومطلعُها : ( فجِّرْ ضَريحَكَ وانْبَلِجْ وَطَنا ) .
إنَّ لفقيدِنا الغالي الكثير من الإنتاج الشعري والأدبي الذي لم يُطبع ولم يَرَ النّورَ بعد .. وكانَ يَجبُ على الجهاتِ والمؤسَّساتِ الثقافيَّةِ والمسؤولةِ الإهتمام بجمعِ هذا الإنتاج والكنز النفيس وطباعتِهِ في كتب وإصداراتٍ ليتسنَّى للقراءِ وَمُحبِّي الأدب والشعر والباحثين والدارسين الإطلاع عليهِ وكتابة دراسات عنهُ . وللأسفِ الشديدِ رغم مكانةِ الأستاذ حنا مَخُّول العالية والسامية أدبيا وثقافيًّا واجتماعيًّا ومستواه الشعري الرَّاقي فهو في طليعةِ الشعراءِ المحليِّين والمُتميِّزين فنِّيًّا لم يكتُب عن شعرهِ وأدبهِ أيُّ ناقد محلي . ولفقيدِنا الغالي خالد الذكر الأستاذ حنا أيضا عدا الجانب الثقافي والأدبي مواقف مشرِّفة وجريئة وواضحة في كلِّ قضيَّةٍ وموضوع، فهنالك حادثةٌ جَرَتْ معي في أوَّل بداياتي في مجال النقد الأدبي والكتابةِ النقديَّةِ فقد كتبتُ دراسة تحليليَّة لأحد الدواوين الشعريَّة كان قد صدرَ حديثا آنذاك لشاعر محليٍّ وكان نقدي واضحا وصادقا وموضوعيًّا دون مجاملة ولا مسح جوخ.. وهذا ما لم يعجب البعضَ من المُقرَّبين لهذا الشَّاعر، وخاصَّة لبعض المحرِّرين في جريدةِ الإتحاد التي كانت من المهتمِّن والمحتضنين والمُروِّجين لهذا الشاعر كثيرا فتعرَّضتُ لنقد شديدٍ في جريدة الإتحاد دون أيِّ مبرّر، وكان يومها الأستاذ حنا مخُّول يُحَرِّرُ إحدى الزوايا فيها فدخلَ في نقاشٍ عنيف مع بعض المحرِّرين وقال لهم بالحرف الواحد : يجبُ أن يكونَ هنالك حرّيَّة في التعبير عن الرأي ولكلٍّ رأيه في أيَّةِ قضيَّةٍ أدبيَّة أو غيرها وغير منطقي وليسَ من العدل أن ننتهجَ سياسة كمِّ الأفواه والرأي الدكتاتوري الواحد لا غيره . وتركَ الكتابة والزَّاوية التي كان يُحَرِّرُهَا في جريدةِ الإتحاد بسببِ هذا الموضوع واتَّخذ موقفا من الجريدةِ وَمُحَرِّريها لأنَّهُ مع الحقِّ دائما ولا يُداهِنُ ولا يجامل أحدًا .. وهذا موقفٌ شريفٌ وأصيلٌ من مواقف كثيرة لا تحصى للشَّاعر والأديبِ الخالد الأستاذ حنا مخول .
وأخيرا : مهما كتبنا ومهما تكلَّمنا لا نستطيعُ أن نعطي هذا الرَّجلَ العظيمَ والفذ والأستاذ الأستاذ والإنسان الإنسان مُربِّي الأجيال وصانع الرجال بعضا من حقِّهِ وما يستحقُّهُ وإنَّ أمثالهُ قلائل في مجتمعِنا الذين كرَّسوا حياتَهُم لأجل التربيَةِ والتعليم كرسالةٍ مقدَّسة لتثقيف وَهَديِ المجتمع والناس ولتربيةِ الأجيال الناشئةِ وإرشادِهم وتنويرِهم ثقافيًّا وعلميًّا وسلوكيًّا وأخلاقيَّا ليكونوا منارةً ونبراسًا مضيئا في مجتمعهم .
فطوبى لك يا أيُّهَا الرَّاحِلُ عن هذه المعمورة والعالم ِ التُّرابيِّ إلى الأمجادِ السَّماويَّة ... طوبى لكَ شاعرا وإنسانا وأستاذًا ومعلّما وَمُرشِدًا .
طوبى لأعمالِكَ الخيِّرةِ ولأياديك البيضاء التي هي الشفيع لكَ يوم الدينونةِ والحساب .
وطُوبى لبلدٍ وُلِدْتَ فيها ونشأتَ وترعرعتَ في أكنافِهَا وتكحَّلت عيناكَ بسمائها ونجومِهَا وبجمالِ سهولِها وروابيها وكتبتَ لها أحلى وأروعِ القصائد والأغاني،وكنتَ البلبلَ الغرِّيد والصَّوتَ السَّاحرَ الشَّجيَّ الذي تهادى وحلّقَ في سماءِ الوطن وأشجَى وأطربَ القلوبَ والمُهج .
طوبى لكَ يا فارسَ الشّعرِ وصرحَ الثقافةِ والعلم والادب..يا معقلَ المجدِ والسُّؤدُدِ والجودِ والكرم .
وطوبى لأرضٍ قَبَّلتكَ واحتضنت جسدكَ الطاهرَ بعد سنين طويلةٍ من الكفاح الدَّؤوبِ المتواصل في هذه الحياةِ لأجل العلم والعدالةِ والمحبة والسلام .
طُوبى لروحِكَ الطاهرةِ النقيَّة فلترجع إلى رَبِّهَا راضيَةً مرضيَّة ولتنعم وَلتهنأ بالخلودِ الأبديِّ في ملكوتِ الله السرمَدِيّ مع المؤمنين الأبرار والملائكةِ الأطهار .
وستبقى خالدًا يا عملاقَ الكلمةِ على مرِّ الدهور والأزمان مهما تبدَّلت وتغيَّرَت الأيَّامُ وتواكبت الخطوبُ والأحداث الجسام . لقد تركتَ وراءَكَ أعمالاً وأنجازاتٍ رائعة وخالدة وأجيالا وَرُوَّادًا من المثقفين والمُبدعين ، وتركتَ أسرةً وأولادًا وأشبالا ربَّيتَهُمْ على العلم والمعرفةِ والأخلاقِ الحميدةِ وَمحَبَّة الناس وعلى المُثل والمبادىء والكرامةِ والإباء فهم الآن يحملون الراية َ والشُّعلة َ من بعدِكَ ..إنَّهُم القدوةُ والرُّوَّادُ في كلِّ خطب يرفعون الرأس ويشرفون مجتمعهم. إنَّهم نبراسٌ ومشعلٌ مضيىءٌ في العلم والمعرفةِ والسلوكِ القويم والمبادىء المثلى .
ولن .. لن نقولَ لكَ وداعًا يا عملاقَ الكلمةِ وفارسَ الأدبِ والثقافةِ والإبداع فأنتَ حَيٌّ وخالد فينا يا أستاذَنا ومعلمنا وأديبَنا وعزيزنا الغالي وستبقى في قلوبِنا وفكرِنا ووجدانِنا وضمائرِنا شمسا ممضيئةً مدى الأيَّام ِ والدهور .
وسوم: العدد 632